مجنون سينما.. كيف نفهم يوسف شاهين؟
امتزج فى دمه عشق البحر، وعشق الرقص، وعشق الفن، وهل هناك أكثر من هذه المؤهلات، ليصبح الإنسان فنانًا، استثنائيًا، نابغًا، يصفق له العالم؟
فى 25 يناير 1926، وُلد فى الإسكندرية، المدينة التى لم يطل عليها أحد، إلا وأصابه، «مس» من أمواج الإبداع، وشىء من جنون التمرد، وشىء من عظمة اللون الأزرق، ورقة اللون الفيروزى.
اختار الفن السابع، لأنه الفن الذى يمكنه من التعبير، بكل أنواع الفنون الأخرى، التى تثرى خياله، وترضى طموحاته.
إنه «يوسف شاهين» ٢٥ يناير ١٩٢٦ - ٢٧ يوليو ٢٠٠٨، والذى نحتفى هذا العام بذكرى رحيله السادسة عشرة، ونحن فى منتهى شدة الحرارة، وفى منتهى شدة الاشتياق.
نعم، نشتاق إليه، وكلما تأملنا حال السينما، نشتاق اليه أكثر. نشتاق إلى مخرج مثله، يقدم لنا المتعة الفنية، ممتزجة بوجهة نظر خاصة، فى السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والدين، والحب، والأخلاق، والوطنية.
فى جميع أفلام يوسف شاهين، ومنذ البداية فى فيلم «بابا أمين» عام ١٩٥٠، وحتى آخرها «هى فوضى» عام ٢٠٠٧، قبل رحيله بعام، كان هناك رأى مخالف للأشياء المألوفة، والأفكار المتداولة الموروثة، والعواطف المتعارف عليها.
الإخراج بالنسبة ليوسف شاهين، لم يكن مجرد حركة جمالية للكاميرا، والتقاط زوايا مبدعة فى تصوير المشاهد، لكنه «حركة جمالية مبدعة للعقل المتمرد الناقد»، حتى لو كانت تحليقات، وشطحات للخيال، فى تصور، كيف يمكن للإنسان الذى مات، أن يعود الى الحياة، ويتواصل
مع أحبائه، وأسرته، متحديًا الموت، كما أدهشنا فى أول افلامه، «بابا أمين»، بطولة فاتن حمامة، وحسين رياض، وكمال الشناوى.
تمتع يوسف شاهين، بموهبة إضافية، غير التقاط الصورة، وهى موهبة اكتشاف النجوم، فى عام ١٩٥١، جازف بإعطاء البطولة لفيلم «ابن النيل» ، لممثل شاب مبتدئ، رأى فيه، النجم النادر، وخامة الفنان المتميز. وفعلًا، تحققت النبوءة، ونجح الفيلم، واشتعلت الشرارة الأولى، لأحد كبار نجوم السينما المصرية.. شكرى سرحان.
وفى عام ١٩٥٤، جازف مرة أخرى، وبشكل أكبر، لأنه أعطى بطولة فيلم «صراع فى الوادى»، لأحد أصدقائه، وزملائه فى كلية فيكتوريا، وهو لم يقف أمام الكاميرا من قبل، لكن بالعين الخبيرة، آمن بقدراته الكامنة، ولم يتردد.
نجح الفيلم، معلنًا عن ميلاد فنان جديد عظيم، اسمه «عمر الشريف»، الذى التقطته امرأتان معروفتان بصعوبة الإرضاء، وقعتا فى حبه، منذ المشهد الأول.. فاتن حمامة، والسينما العالمية.
ومثلما كان يوسف شاهين، موهوبًا فى اكتشاف منْ يقف أمام الكاميرا، كان أيضًا موهوبًا فى اكتشاف منْ يقف خلفها، وأقصد المخرجين.
سوف أذكر تجربة شخصية، عاصرتها بنفسى، كان أخى «عاطف حتاتة»، يهوى السينما منذ صغره، وكان يقضى أوقاته بين مشاهدة الأفلام، والقراءة المتعمقة عن كل ما يخص صناعة الفيلم، بعد تفوقه فى الثانوية العامة، ذهب إلى يوسف شاهين، ليسأله مشورته فى دخول معهد السينما. وبعد أن ناقش، عاطف، فى حبه للسينما، ولماذا يريد أن يصبح مخرجًا، قال له: «متروحش معهد السينما.. خش أى كلية تعوزها.. ولما تتخرج تعالى وهعلمك الإخراج فى يومين.. إنت موهوب ييجى منك يا ولد».
وتخرج عاطف من كلية الهندسة، وذهب إلى يوسف شاهين، الذى كان عند كلمته، وأتاح لأخى حضور كل المشاهد التى يصورها، ورآه على الطبيعة كيف يخلق، ويبدع، ويتقن. وأكمل يوسف شاهين دوره، وأنتج لعاطف فيلمه الأول ومن تأليفه «الأبواب المغلقة» عام ٢٠٠٠، بالاشتراك مع القناة الرابعة الفرنسية، من بطولة سوسن بدر، ومحمود حميدة، وأحمد عزمى، الذى قدم أول أعماله.
ونال الفيلم العديد من الجوائز المحلية والعالمية، ودخل قائمة أفضل أفلام السينما المصرية، من عام ٢٠٠٠ حتى ٢٠١٠.
مع مخرج، ومفكر، وفيلسوف، مثل يوسف شاهين، يصبح من الصعب تفضيل فيلم عن آخر، كما يحدث مع غالبية المخرجين، ربما لاختلاف الطباع، والأمزجة، ومواضيع الاهتمام بين البشر، يفضل إنسان فيلم «جميلة»، أو فيلم «الأرض»، أكثر مما يفضل «أنت حبيبى»، أو «ودعت حبك»، أو «صراع فى الميناء»، أو «اليوم السادس»، وربما نشعر مع فيلم «العصفور»، أو «المهاجر»، أو «المصير»، أنه يقترب من الاكتمال، أكثر من «عودة الابن الضال»، أو «الناصر صلاح الدين»، أو «حدوتة مصرية»، وقد يحظى فيلم «الاختيار»، أو «وداعًا بونابرت»، أو «سكوت هنصور»، بمزيد من التساؤلات المدهشة، كما تعودنا معه. كل هذا وارد، وطبيعى، لاختلاف البشر. لكن أحدًا لن يختلف حول «القيمة الجمالية»، و«المشاهدة الممتعة»، و«الإثارة العقلية»، و«الإخلاص المبدع»، و«الجهد المتقن»، «ورغبة التحدى»، المشعة من أفلامه.
مثلًا فى ثلاثية «إسكندرية ليه»، و«إسكندرية كمان وكمان»، و«إسكندرية نيويورك»، أنا شخصيًا أفضل «إسكندرية ليه»، لأنه يعزف أكثر على أوتار قلبى المتيم بهذه المدينة، وليس لأنه أكثر «فنية».
لا نستطيع التحدث عن يوسف شاهين، دون أن نذكر عشقه المولع بالرقص والموسيقى والغناء. هو شخصيًا، كان يجيد الرقص، بارعًا، فى حركاته، وتطويع جسده بمهارة المحترفين. كان يقول: «الرقص ليس ضروريًا فقط للفنان.. لكنه مطلوب لكل إنسان. فالرقص ليس تحريك الجسم مع الموسيقى، وإنما هو تناغم العقل والجسم، الفكر والخيال، الحلم والطموح، الحزن والفرح، النجاح والفشل».
وفى كل أفلامه، يكاد يكون الغناء، بطلًا رئيسيًا، ونجمًا من نجوم الفيلم. وأشهرها فى ذلك، فيلم «عودة الابن الضال»، و«حدوتة مصرية»، و«سكوت هنصور».
أما أنا شخصيًا، فأختار فيلمه «أنت حبيبى» عام ١٩٥٧، الذى قدم فيه «فريد»، و«شادية»، بشكل غنائى فردى، وثنائى، من أروع الأفلام الغنائية للسينما المصرية، وكان هذا الفيلم بداية شهرته العالمية.
ابتدع المخرج ألفريد هيتشكوك، شيئًا جديدًا فى أفلامه، وهو أن يظهر فى إحدى اللقطات، كخلفية من المشهد، دون أن ينطق بكلمة، ولقى هذا استحسانًا كبيرًا من الجمهور. لكن يوسف شاهين، ابتدع أكثر من هذا، وكان أكثر جسارة، من هيتشكوك. حيث يظهر هو، مخرج الفيلم، كجزء من الأحداث، مثل دوره فى فيلم «باب الحديد».
هُوجم يوسف شاهين، بأن بعضًا من أفلامه، يكاد يكون سيرته الذاتية، وهذا أمر مضحك. فالإبداع الذى لا يبدأ، ولا ينتهى بذات الفنان، يصبح مثل المنشورات السياسية، والخطب، والمواعظ المزيفة الكاذبة، والمذاقات الماسخة.
وهُوجم أيضًا، لأن بعضًا من أفلامه غامض. وهذا أيضًا ينم عن عدم الفهم.
فالفن ليس مرآة شفافة، تعكس كل شىء. وليس حدوتة لتحكى كل الأحداث. وليس أقراصًا نبتلعها لنشعر بالهدوء والسَكينة والراحة. الفن، يثير الأسئلة، ويلمح إلى التناقضات، ويشير إلى الخلل، والعطب، ويحرك المياة الراكدة الآسنة. ليس مطلوبًا من الفن، أن يجيب على الأسئلة، لأنه هو بذاته سؤال كبير. وليس مطلوبًا من الفن، أن يكون واضحًا كالشمس فى عز الظهر. الأبدع، أن يكون الشمس، عند المغيب، حيث الظلال، والألوان الممتزجة.
مات يوسف شاهين، فى يوم ٢٧ يوليو ٢٠٠٨، بنزيف فى المخ.
تشخيصى أنا، هو إدمان السجائر، التى لم تكن تفارق فمه، إلا لينام. وإدمان السينما التى لم تكن تفارق قلبه وعقله. هذا هو الثمن الحقيقى للحب، أيًا كان، حينما يصل إلى حد الإدمان، بل الهوس.