الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

امرأتان.. تأملات نسوية فى أسطورة التنوير (1)

حرف

- على عكس «عزيزة المصرية» لم تكن «عزيزة الفرنسية» من «قاع المدينة»

- قصة عزيزة الفرنسية أكثر تعقيدًا من الفضيحة الجنسية عن علاقتها بمحمد فريد

- خلع الملابس الريفية أو «الحجاب» يكفى كمدخل لانتقال الساذجة الفقيرة من براءتها الفطرية إلى امرأة محنكة وخبيرة

«إتس كومبليكيتيد»

ضمن تعامل الغرب للعلاقات ظهر تعريف مثير للدهشة فى عصر الأيزو والتوثيقات القياسية، لأنه تعريف «ما بعد حداثى» غامض وهيولى ويتهرب من التعريف أصلًا، وهو «إتس كومبليكيتيد» يعنى الموضوع معقد!

التعريف ليس غربيًا تمامًا، فالسعودية مثلًا دولة شرقية يمينية محافظة، لكنها فى السنوات الأخيرة- فى طريقها للتحديث- تنحرف يسارًا أو باتجاه «الوسط الغربى»، تعرفون طبعًا أن أى تحديث يجر معه إشكاليات معقدة تحتاج إلى تجديد وابتكار حلول، ولما حط لاعب الكرة الشهير رحاله على أرض الجزيرة العربية، اصطحب معه طاقمه وصديقته الجميلة «جورجينا»، وفى أثناء استخراج أوراق الإقامة، ظهر السؤال الإشكالى: ما الصفة الاجتماعية التى يثبتها الموظف فى بطاقة جورجينا لوصف علاقتها بالدون؟

سأل الموظف مديره: ماذا أكتب؟

بعد حيرة وجدال أفتى فقيه وظيفى متمرس بتعبير «فى مقام زوجته»، وبعد تمام الاتصالات للحصول على الإذن صدرت بطاقة الإقامة بالصفة الكومبليكيتيد، وليس مهمًا أن تكون المعلومات الواردة فى هذه القصة حقيقية أم مخترعة، لأن المغزى فى المعنى والمفهوم، وليس فى الواقعة. 

محاولة شرح اصطلاح «كومبليكيتيد» تحتاج إلى برودة موضوعية وسفر تاريخى، أعتقد أن حصيلته النهائية هى بدايته نفسها، فـ«الموضوع معقد» وسيحتفظ بتعقيده، ما دامت هناك ثنائية «شهوة ومجتمع».. ذكر وأنثى، فالعلاقات الكومبليكيتيد صارت مثل المتاهات الملغزة فى الميثولوجيات الإغريقية: صراعات مذهبية حتى داخل الدين نفسه، طبقات تاريخية وتبريرية متراكمة، أفخاخ وطرق ملتوية تتحور لتلائم تغير المجتمعات وشكل الثروة.

الخلاصة أن تعريف هذا النوع من العلاقات ليس إلا متاهة مطلقة لا يستطيع فهم دروبها، حتى من صممها وشارك فى بنائها، فأمر العشيقة أو الخليلة أو الصديقة أو الرفيقة أو طرف المساكنة أو الزانية بأجر أو الجارية أو ملك اليمين، ليس أمرًا غربيًا تمامًا، فلنا ولكل المجتمعات فى كل الأنحاء «قبائل ودول» صلة عميقة ووثيقة بموضوع الجنس وتنوع أشكاله وتسمياته، وفى هذا المقال لا أناقش الدعوة التى أثارها أحد المحامين عن تشريع المساكنة قبل الزواج، ولا أتورط فى جدل فقهى أو وعظ أخلاقى، ولا أحكم بالبراءة أو الإدانة تحت أى ذريعة، هدفى هو توسيع دائرة الرؤية من خلال تسجيل لقطات متنوعة عن أثر التنوير على المرأة، وأثر المرأة على التنوير، فى ظروف وعصور مختلفة، وأنبه إلى أن المقالات فى الأساس مقتطعة بمعالجة صحفية من كتاب ضخم أعددته منذ سنوات عن التنوير الزائف، مع دراسة حالة لعصر فولتير كما أسماه «وول ديورانت»، ولذلك فإن المقارنة والربط بين الوقائع التاريخية والحاضر، قد يفيد فى فهم الظاهرة كمسار يحتاج إلى مراجعة، لتبين النافع من الضار دون إملاءات مباشرة من الكاتب أو غيره.

«عزيزة المصرية»

عزيزة فتاة ريفية، لا تشبه عزيزة بطلة «الحرام» إلا فى الاسم والفقر، ولا تشبه فتحية بطلة «النداهة» إلا فى النزوح من الريف إلى القاهرة، ولا تشبه شهرت بطلة «قاع المدينة» إلا فى «رحلة التنوير!»، و«صدمة اللقاء الحضارى!» بين القاع المظلم وأضواء النخبة الطافية!

تلك الصدمة التى لم تنج منها إلا القليلات، قادرة على خلع الفتاة من ردائها ومن حياتها، وحشرها فى ملابس أخرى وحياة أخرى، بدعوى التطور العصرى، وتحقيق الرغبة المكبوتة فى تحول «شهرت» إلى «أميرة».

خلع الملابس الريفية أو «الحجاب» يكفى كمدخل لانتقال الساذجة الفقيرة من براءتها الفطرية إلى امرأة محنكة وخبيرة، تستطيع أن تربح المال بسهولة، لأنها تعلمت قيمة «التصنع» و«التسليع»، فالمدينة تكشف للريفيات الفقيرات عن «سر ذائع» لا يتوافر بوضوح فى القرى، جوهره أن كل امرأة لديها بضاعة مضمونة الربح إذا وافقت على استثمارها والاتجار بها.

عرفتُ عزيزة عندما أحضرها البواب لتنظيف المكتب الذى استأجرته للكتابة، كانت عزيزة قد بدأت بمسح الدرج فى العمارة التى استأجرت فيها مكتبى، ومع تطور علاقتها بالبواب، تطورت الوظائف التى تقوم بها: تقضى طلبات السكان، ترافق الأولاد إلى أتوبيس المدرسة عند الذهاب، وتعيدهم إلى أمهاتهم عند العودة، تدخل البيوت للتنظيف والمساعدة وتتعرف على وجوه أخرى للحياة، مع الوقت تغيرت لهجتها الريفية وتغيرت ملابسها، وتغير طعامها، فقد سمعتها ذات مرة تتحدث فى تليفون المكتب، ووصلت إلى سمعى ألفاظ من نوع الباتيه والبوريه والسوتيه والجاتوه، وتعجبت لارتباط التطورات التى طرأت على عزيزة بالألفاظ الفرنسية التى جلبتها قبل قرنين بعثات التنوير وتعليم أبناء الأسر الأرستقراطية فى أوروبا، ولما عرفت من عزيزة بالصدفة أنها تقيم فى غرفة البواب سألتها ببراءة:

- اتجوزتوا يا عزيزة؟

- لسه يا بيه.. كتر خيره وفر لى «متوى» بدل بهدلة الشوارع، إنت عارف الظروف ما أقدرش أدفع إيجار مطرح خصوصى. 

لم أسأل أكثر، ولم أدخل فى تفصيلات، لكن بحكم تواجد عزيزة اليومى فى المكتب كنت ألاحظ التطورات التى تستجد فى شخصيتها ومظهرها وسلوكها، وهذا ما جعلها أقرب لشخصية «شهرت» كما رسمها يوسف إدريس منتقدًا دور النخبة المثقفة فى إفساد حياة الفقراء ودفعهم نحو هاوية «التنوير الشكلى» دون مؤهلات نفسية وفكرية ومالية لتحمل أعباء التنوير أو التحديث، أيًا كان الاسم الذى تتم تحت لافتته عملية الانسلاخ والتحول من حياة إلى حياة.

لا أكتب هذا المقال لتتبع رحلة عزيزة من قاع الفقر إلى قاع آخر مضىء وخادع، وإن كانت الرحلة تستحق التتبع، لأنها من فرط تكرارها صارت كأنها أحد قوانين الصعود الاجتماعى للمرأة فى مجالات وأوساط كثيرة!

«عزيزة الفرنسية»

فى تاريخنا الحديث «عزيزة أخرى» أكثر غموضًا وخطورة هى «عزيزة دى روشبرون»، الآنسة عزيزة اسمها الحقيقى «مارى أورتينس رينيه ريفار»، ومن المفيد للباحثين أن أكتب حروف الاسم بلغته تفاديًا لمشكلة اختلاف النطق بين الفرنسية والإنجليزية «Marie-Hortense Renee Riffard»، وتفاديًا أيضًا لمشكلة الخلط والتخفى المربك الذى أحاطت به أورتينس نفسها باستخدامها لجواز سفر أرجنتينى يساعدها فى التنقل والتخفى، وتعاملها بأسماء مستعارة عدة، مثل «فيبار» و«فيفيان» و«كيتى» و«عزيزة» و«الآنسة دى روشبرون»، وهو اللقب الذى استبدلته بـ«مدام دى روشبرون» بعد إعلان إنجابها طفلًا سَمّته «وحيد» من علاقة مع محمد بك فريد رئيس الحزب الوطنى المصرى حينذاك، وكانت «الآنسة» فى كتاباتها المتنوعة وشهادتها أمام المحاكم الفرنسية «فى قضية تجسس لصالح ألمانيا تورط فيها خديو مصر الأخير عباس حلمى» تصف العلاقة مرة بأنها عشق: «لم أكن إلا عشيقة متفانية لرجل ضحيت من أجله بشبابى» كما ورد فى مذكراتها، وتصفها مرة أخرى بأنها زواج إسلامى: «تزوجنا على شريعة القرآن» كما ورد فى شهادتها أمام القضاء الفرنسى فى قضية التجسس المتهم فيها بولو باشا ونواب فرنسيون، وتنوعت توصيفاتها للعلاقة حسب المكان الذى تتحدث فيه، لكن الثابت أنها كانت علاقة «مساكنة» متنقلة ومتقطعة، امتدت عشر سنوات تقريبًا «من ١٩٠٩ حتى نهاية حياة فريد فى المنفى»، مع تغيرات عاطفية ارتبطت بالمتغيرات السياسية فى مجموعة من الدول، خاصة مصر وفرنسا وألمانيا والدولة العلية «تركيا الآن».

على عكس «عزيزة المصرية»، لم تكن «عزيزة الفرنسية» من «قاع المدينة»، كانت الابنة الثالثة فى الترتيب بين خمسة أبناء لمهندس مدنى وكيميائى شهير اسمه أدموند ريفار، ولدت فى الأرجنتين عام ١٨٨٨، داخل مستعمرة تدعى «فيللا أكامبو»، حيث سافر والدها لتأسيس طاحونة ومصنع لتكرير السكر فى فترة النشاط الاستعمارى لفرنسا فى الأرض الجديدة، وبعد الأزمة المالية العنيفة عقب إفلاس بنك بارينح فى تسعينيات القرن التاسع عشر، عادت الأسرة البرجوازية إلى فرنسا وكانت أمها الناشطة اجتماعيًا «جابرييل جى» قد توفيت، وتزوج الأب من إحدى قريباته، وعاشت الأسرة فى قرية زراعية فى جنوب فرنسا، وتنوعت مصائر الأبناء، منهم من نبغ فى التعليم والحياة المهنية مثل شقيقها المهندس «مارسيل ريفار» الذى يعتبر «رائد الطيران الحديث، ومصمم «الرافال» وسيارات «رينو» وطرز مبتكرة فى السيارات والطائرات، ومنهم من تعثر فى التعليم مثل «ميجيل» و«إيرما»، أما «رينيه» فقد ظلت فى موقعها «الوسطى» شأنها شأن الطبقة البرجوازية التى نجت من القاع، وتعيش فى توتر نتيجة التطلع للصعود نحو الطبقة العليا.

ربما لهذا السبب اختارت رينيه دراسة اللغات الشرقية فى السوربون، مأخوذة بالحكايات الأسطورية التى تسمعها عن الحياة فى إسطنبول ونعيم الشرق، وبحكم دراستها تعرفت على عدد من زملائها الأتراك، وفكروا فى تأسيس مجلة باسم «الشرق»، واختارت رينيه اسمًا شرقيًا تستخدمه فى الكتابة الأدبية، وهو «عزيزة» متبوعًا بلقب فرنسى أرستقراطى ينسب فيه الفرد إلى المكان الذى يملكه أو يعيش فيه، وكانت جدتها لأمها من قرية تاريخية اسمها روشبرون، فأطلقت على نفسها اسم «عزيزة دى روشبرون»، على غرار مدام دو بارى أو مدام دو شاتليه إلى آخر أسماء الماركيزات وطبقة النبلاء من حكام الأقاليم فى القرون السابقة.

تعجبت لتشابه الدوافع والمصائر عند العزيزات: شهرت ترغب فى أن تكون «أميرة»، وكذلك رينيه ترغب فى أن تتشبه بالأميرات والماركيزات، وابتسمت وأنا أتذكر سخرية نجم فى «القواد الفصيح»: يا عزيزة النيزة كوانيزة كان لازم تطلعى ماركيزة..!

ويبقى السؤال..

الرجل جزء من تحولات المرأة، لكن هل هو الأساس والسبب الرئيس، أم أن هناك ضفيرة من العوامل والأسباب الداخلية والخارجية التى تصنع صفة «الكومبليكيتيد» فى العلاقة بين المرأة والرجل؟

كان القاضى عبدالله فى «قاع المدينة» يسأل نفسه عندما أزعجته تحولات شهرت وصوت ضحكتها الرقيعة التى استجدت عليها، فناداها وسألها: هل تخلَّصت من الصرصار الذى فى المطبخ؟

ابتسمت وقالت وهى تتدلَّل: ده لقيته لايف على صرصراية، وأطلقت نفس الضحكة الرقيعة..

حدَّق فيها، وخُيل إليه أنه يلمح فى وجهها أشياء لم تكن موجودة «..» كانت امرأة مصرية بلدى تنظر فى وجهها فلا تجد فيه غير زوجة لها أولاد، وإذا به يراها الآن «مختلفة»، وفى وجهها دوائر وعلامات غير بريئة، علامات تدل على تحوُّل أصابها «..» راعه ما وجده من تغيير، وظلَّ الأمر يشغل باله: هل هو مسئول عمَّا حدث؟.. هل هو فعلًا الذى أحدث فيها هذا التغيير؟.. هل هو الذى انهال على ملامحها المخلصة المتزوجة فأحالها إلى ملامح امرأة تُباع وتشترى؟

ارفع اسم القاضى عبدالله وضع مكانه قاسم أمين أو هدى شعراوى أو أحمد لطفى السيد أو رضوى الشربينى أو خالد يوسف أو الدكتورة بنت الباشمهندس أو أى مثقف تنويرى، وابحث مع القاضى المثقف عن إجابة.

«مور كومبليكيتيد»

قصة عزيزة الفرنسية أكثر تعقيدًا من الفضيحة الجنسية التى أثيرت فى الصحافة والسياسة عن علاقتها بمحمد فريد، ولهذا سأخصص مقالًا أو أكثر لكشف الجوانب الخفية الخطيرة التى تمس قضايا السياسة والمال والتجسس والإعلام ودقة التأريخ فى علاقة عزيزة بالأتراك وفريد والخديو عباس الثانى والأذرع الاستعمارية للفرانكفونية فى أنحاء العالم، وهى القضايا التى أهملها كتاب ومؤرخون كبار مثل عثمان غالب فى مقاله المندد بالفضيحة، ومحمد صبيح فى معالجته لمذكرات فريد، وكذلك عبدالرحمن الرافعى فى مؤلفاته «المفلترة» لتمجيد الحزب الوطنى وزعمائه، والمؤرخ الكبير محمد أنيس فى دراسته العرضية عن مذكرات عزيزة دى روشبرون، والتى نشرها هيكل فى «الأهرام» من ٢٥ أغسطس ١٩٧٢ وحتى منتصف سبتمبر من نفس العام، وأتعشم أن نعود لهذه القضية قريبًا بعد الانتهاء من سلسلة «امرأتان» التى نتناول فيها فى المقال المقبل ثنائية جديدة عن أثر المساكنة على مسيرة كل من فولتير وروسو.