الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المعراج «الزرادشتى».. نعيم الجنة وأهوال الجحيم فى رحلة كاهن

الزرادشتية
الزرادشتية

- تُعد فكرة الميزان فى الزرادشتية امتدادًا لفكرة عذاب الروح بعد الموت وقبل الوصول إلى العالم الآخر

- أول كتابة للمعراج الإيرانى كانت بالخط «البهلوى» أو الخط الفارسى فى العصور الوسطى

أثناء رحلتى إلى مدينة أصفهان فى إيران، قمت بزيارة أحد «معابد النار» المنتشرة فى مختلف محافظات إيران بداية من يزد وكرمان وصولًا إلى العاصمة طهران، ولكن كان معبد أصفهان أكثرهم بهاءً وضخامة. تملكنى شعور غريب بالرهبة لحظة دخول عتبات المعبد، خاصة أمام النسوة العجائز اللاتى يبعن صورًا لنبى الفرس القدماء «زرادشت»، مع كتيبات عن أهم تعاليمه وأفكاره، وبعد عبور الساحة الخارجية كان علىّ أن أسير داخل طرقات ضيقة ومتداخلة ترمز إلى متاهة الإنسان فى الحياة، وصولًا إلى مركزية المعبد، حيث ينتظر الكاهن الزرادشتى بملابسه البيضاء الناصعة، أمام النار المقدسة، التى ظلت مشتعلة منذ ألفى عام على الأقل، حسب رواية الكاهن. فالديانة الزرادشتية ما زال معترفًا بها فى إيران، كديانة رسمية، لها حضورها الاجتماعى والدينى، ورغم ما يبدو عليه الأمر من تناقض، فكيف بدولة دينية إسلامية، مذهبية الهوى والهوية، يعانى داخلها الأقليات الدينية أحيانًا كثيرة من الاضطهاد، تحتفظ بديانة قديمة وثنية «من وجهة نظر الديانات السماوية» بشكل رسمى، ومعترف به، مع السماح بممارسة كل الطقوس الزرادشتية، لدرجة أن للأقلية الزرادشتية ممثلًا فى مجلس الشورى الإسلامى «البرلمان»، فعددهم حسب آخر الإحصائيات شبه الرسمية يتجاوز حوالى 50 ألف زرادشتى.

وحتى نعى ذلك التناقض، علينا أن ندرك جيدًا العمق الحضارى الذى تتحرك من خلاله الدولة الإيرانية فى تعاملها مع الزرادشتية، التى نشأت فى إيران منذ الألف الثالث قبل الميلاد تقريبًا، وكانت هى الدين الرسمى للإمبراطورية الساسانية، ولدى الدخول العربى لبلاد فارس، تراجعت الزرادشتية بقوة، ولكن ظلت كامنة فى نفوس أصحابها ليُعاد إحياؤها بعد عدة قرون، وأُعيد بناء ما تم تخريبه من المعابد القديمة، وتم إشعال النار المقدسة للمرة الثانية، ذلك التقديس المقتبس من نور الإله الأكبر للديانة «أهورامزدا» وهو إله النور والكمال، والنار معبرة عن ذلك النور وليست مقدسة فى ذاتها كما تم الترويج لذلك تاريخيًا.

روى لى الكاهن قصة نضال طويلة للطائفة الزرادشتية، خاصة مع بدايات الثورة الإسلامية ١٩٧٩، وتصديها لبعض الجماعات الإسلامية المتطرفة التى حاولت هدم معابد النار، رغم أن «آية الله الخمينى» قد أقر الوجود الاجتماعى والدينى للزرادشتيين، بل إن بعض الأدبيات الشيعية الإيرانية تتعامل مع زرادشت بوصفه نبيًا مكتمل النبوة، وأن الزرادشتية ديانة سماوية ولكن تم تشويه مضمونها مع الزمن. فالبعد الحضارى للزرادشتية له جذوره الممتدة فى الوعى الجمعى الإيرانى، بل أن للزرادشتيين حضورًا قويًا فى الهند والصين، فهى من أقدم الديانات القديمة التى ما زال لها حضور فى العصر الراهن، وكان لها تأثير قوى فى الثقافة العربية والإسلامية بشكل عام.

وفى ختام رحلتى أهدى لى الكاهن مجموعة ضخمة من الكتب الدينية، على رأسها نسخة من «الأفستا» الكتاب الدينى المقدس، وكتابات عن تاريخ الديانة، خاصة بعد أن كشفت له عن نيتى لدراسة العلاقة الحضارية بين الديانة القديمة وتأثيرها على المعتقدات الشعبية الشيعية، لكن الكتاب الملفت بالنسبة لى، كان كتاب «أردا فيراف نامه» أو «المعراج الإيرانى» كما أصطلح على تسميته فى تاريخ الديانة، وهى رحلة أحد الكهنة الزرادشتيين فى العصور القديمة إلى السماء، وحضوره أمام الإله، وإطلاعه على غيب الجنة والجحيم.

الجحيم فى الزرادشتية.. بارد:

يُعد المعراج الإيرانى أو «أردا فيراف نامه» من أهم الكتابات الدينية الإيرانية، وله حضور قوى على المستوى الشعبى، حتى فى الأوساط الإسلامية وليست الزرادشتية فقط، فللأمر بعد قومي أصيل، فيُحكى أنه وقت احتلال الإسكندر المقدونى بلاد فارس، بمساعدة من الشيطان «أهريمن»، أشاع الفساد وعمد إلى تخريب المعابد المقدسة، وقتل الكهنة، وتحولت الزرادشتية من الدين الرسمى والشعبى إلى دين مضطهد ومهجور، فقرر الكاهن الأعظم «فيراف» أن يتضرع إلى الإله «أهورامزدا» حتى يساعده على إعادة إحياء الدين، وطلب منه أن يرفعه إليه حتى يتلقى منه التعاليم الدينية مباشرة، كما حدث مع النبى الأول «زرادشت» الذى رفعه الإله إلى السماء ليعلمه الأسماء كلها، وأسرار الكون، وكيفية محاربة الشيطان. وبالفعل استجاب الإله لدعاء الكاهن «فيراف» التقى، وأوحى له أن يجمع جميع الكهنة فى بيته، ويشرب أمامهم مشروبًا روحيًا مقدسًا، وسوف تذهب روحه إلى السماء العليا، وهناك سيقابل الإله الأكبر، وبالفعل قام «فيراف» بما أمر به «أهورامزدا»، وعرجت روحه إلى السماوات العلى، بصحبة أحد القديسين الكبار واسمه «سروش» «الذى يصل إلى منزلة الملائكة الأخيار» وبصحبة «أدار» أحد الملائكة المسئولين عن خزائن الجنة والجحيم. وحملوا روحه على ظهر حصان مجنح أبيض عظيم، يرمز إلى الخير المطلق، وصعدوا به فى رحلة طويلة استمرت لسبعة أيام، ليستيقظ فى نهاية الرحلة ويقص ما رأى على أتباعه.

المعروف أن أول كتابة للمعراج الإيرانى كانت بالخط «البهلوى» أو الخط الفارسى فى العصور الوسطى، لكن هذه النسخة اندثرت مع الوقت، وأُعيد كتابتها مرة ثانية بعد الدخول العربى وانتشار الإسلام، ولكن هذه المرة بالخط العربى المعروف الآن، فى مرحلة إعادة الإحياء الثانية للغة الفارسية، وأقدم النسخ الواصلة إلينا كانت فى القرن السابع الهجرى، فى محاولة دءوبة من أتباع الزرادشتية وبالتالى الوعى الجمعى الإيرانى إلى العودة إلى الأصول الفارسية القديمة، فمعراج «فيراف» هو الكتاب الذى منح قبلة الحياة للمعتقدات الإيرانية القديمة، مرتين، مرة أمام الاحتلال اليونانى، والثانية مقاومة للسيطرة العربية.

المحطة الأهم فى رحلة «فيراف» كانت فى الجحيم، حيث رأى كل صنوف العذاب، فالكتاب يقع فى ١٠١ فصل، أغلب الفصول تدور حول عذاب المذنبين، فالزرادشتية تولى اهتمامًا كبيرًا لفكرة الجحيم، أكثر من فكرة النعيم، خاصة إذا علمنا أن جحيم الزرادشتية بارد وليس نارًا تأكل الخاطئين، وقد يعود ذلك إلى الطبيعة الباردة لإيران فى فصل الشتاء، التى تشكل أزمة وجودية حقيقية بحيث تصل درجة الحرارة إلى ٢٠ تحت الصفر فى بعض المناطق. فرحلة المعراج الزرادشتى ترصد شتى ألوان العذاب، والتى سنحاول أن نرصد بعضًا منها فيما يلى، خاصة التركيز على ألوان التعذيب الذى تعانى منه النساء فى العالم الآخر.

جرس «الجينفات» وعذاب النساء:

تبدأ رحلة المعراج، بعبور «فيراف» على جسر «الجينفات» «العبور»، وهو حسب المعتقد الزرادشتى «فى الأفستا- الكتاب المقدس»، جسر تمر عليه الأرواح بعد الموت، لتسقط فى العذاب أو تصل إلى الجنة، العابرون فقط هم الناجون، بعد أن يتسع لهم الصراط ليسمح بعبورهم إلى معية الإله، وإلا السقوط فى الجحيم المظلم بعد أن يضيق الجسر مثل سيف رفيع لا يصلح للحركة عليه. فبمساعدة الروح المقدسة «سروش» عبر الكاهن الأعظم فيراف الجسر، وقابل عليه أعماله الخيرة على شاكلة فتاة جميلة عذراء، تبشره بنهايته السعيدة هو وأتباعه من المخلصين فى نهاية العالم. 

الملفت فى رحلة المعراج التركيز على عذاب النساء فى الجحيم، فمثلًا يرد أن «فيراف» رأى مجموعة من النساء تشرب من كوب به قذورات ونجاسة، وحينما سأل سروش عنهن، أجاب، أولئك النسوة اللاتى لوثن الماء والنار أثناء فترة حيضهن، فالمرأة كائن شديد التدنيس فى الفكر الزرادشتى خاصة فى مرحلة الحيض، ويُحرم عليها الاقتراب من العناصر المقدسة فى الحياة وهما الماء والنار، ومن تفعل ذلك فعليها لعنة لا تزول إلا بالعذاب فى العالم الآخر.

وفى مشهد آخر، تظهر نساء عارية الصدور، معلقة بكلاليب عظيمة، ويأكل من جسدها ثعابين ضخمة وكائنات متوحشة، فحينما سأل عن سر هذا العذاب جاءت الإجابة، إنهن نساء زانيات، تركن رجالهن وارتمين فى أحضان غيرهم، وأنهن كن متبرجات فى الدنيا، لذا تُعذب أرواحهن بهذه الطريقة. والجدير بالذكر أن التعذيب والبعث فى العالم الآخر مرتبط بالروح وليس بالجسد فى الزرادشتية، فالجسد نجس، لكن الروح هى من تحمل آثام الجسد وتتطهر منها فى العالم الآخر.

كما تُعذب المرأة التى تُغضب زوجها بقبيح قولها فى الحياة، أن تُعلق من لسانها فى الهواء، ليأكل من جسدها الثعابين والكائنات المتوحشة الشريرة، كما تعاقب المرأة التى تلقى ببقايا شعرها فى النار فتلوث النار بجسدها المدنس، بأن تأكل من جسدها وتقضم منه حتى يفنى ويُعاد خلقه من جديد لتستمر رحلة عذاب أبدى بلا نهاية.

أوجه العذاب ليست حصريًا فقط للمرأة ولكن الرجال أيضًا لهم نصيب، فيرد فى المعراج أن فيراف رأى رجلًا يصرخ من الجوع والعطش، ويأكل من جسده ولا يشبع، وحينما سأل سروش أجابه أن هذا الرجل كان يأكل الحرام فى الدنيا، ويستولى على حقوق الناس. ورأى رجلًا يأكل أطفاله وهو يبكى، وعلم أن ذنب هذا الرجل أنه جامع زوجته أثناء فترة الحيض.

مشاهد الجحيم والعذاب تأخذ النصيب الأكبر من المعراج الإيرانى، وكما يرى بعض الباحثين أن السبب يرجع فى ذلك إلى تشدد الديانة الزرادشتية فى تلك المرحلة التاريخية تحديدًا، فطقوس الموت والزواج والطلاق، وأفكار التطهر والدنس، طقوس غاية فى التعقيد خاصة فى مراحل إحياء الزرادشتية، فمثلًا زوجة الميت تظل نجسة لمدة أربعين يومًا، ولا يصح لها الزواج ثانية إلا بعد مرور حوالى أربعة أشهر، وتظل فى حالة عزلة دائمة لا تختلط بالبشر وإلا تسببت فى تدنيس العالم من حولها، بل إن جثمان الميت نفسه، تم التعامل معه فى الزرادشتية بطريقتين على مراحل تاريخية مختلفة، فإما يوضع فى جبانات فوق الجبال لتأكل منه الطيور الجارحة ولا يلوث الأرض أو الماء، أو يتم حرقه فى طقوس معقدة للغاية ويتم وضع رماد جسده فى مدافن خاصة وتحت إشراف مباشر من الكهنة فى المعبد.

مشاهد النعيم وتجليات الإله:

مشاهد النعيم قليلة مقارنة بمشاهد العذاب، ولكن كان لها حضورها الهام، خاصة حينما رأى «فيراف» المتبعين لتعاليم الإله، والقديسين وهم فى ملابس ذهبية وفضية، ويشع منهم نور فى كل الاتجاهات، ويجلسون فى نعيم عظيم، وتدور حولهم ملائكة الإله لتنفذ لهم كل رغباتهم. ورغم أن كتابة المعراج النهائية تمت فى مرحلة إيمان الزرادشتية بالبعث الروحى فقط وليس الجسد، إلا أن مشاهد نعيم الصالحين جاءت بشكل حسى واضح، فالجميع يرتدى ملابس عظيمة، وحولهم فتيات عذراوات جميلات، فى إيحاء بجنة ذات طابع ملموس إلى حد بعيد.

فالصالحون يجلسون على أرائك من فضة وذهب، ولهم رائحة جميلة، وحولهم الحيوانات المسالمة المقدسة مثل الخراف أو البقر الهادئ، وتحوطهم زهور ورياحين من كل الاتجاهات. كما رأى المحاربين فى قصور عظيمة مليئة بالخدم وكل أنواع النعيم، فللمحاربين فى الديانة الزرادشتية مكانة عظيمة، وقد وردت فيهم العديد من المدائح فى الأناشيد المقدسة أو «الجاتها»، كما أن العديد من الأبطال فى الملاحم الإيرانية كانوا يوصفون بالمجاهدين المقدسين، الذى يرفعون راية الدين الحق على كل الأديان الباطلة الأخرى، فالديانة الزرادشتية تؤسس لفكرة الحرب المقدسة طوال تاريخها، وأن نهاية العالم لن تأتى إلا بعد حرب عظيمة بين إله الخير وشيطان الشر، سينتصر فيها الخير بقيادة «المخلص المنتظر» وحفيد النبى زرادشت.

ولم يغفل فى رحلته عن ذكر النساء الصالحات، اللاتى أمضين حياتهن فى طاعة أزواجهن، ومراعاة حدود الإله، فيظهرن فى ملابس ذهبية وفضية وحريرية، ولكن يجلسن فى حدود رجالتهن، سواء الحرائر منهن أو الإماء، فالعبدة أو الأمة لا يحق لها مخالفة مالكها بأى حال من الأحوال، ومجرد المخالفة يجر عليها عذابًا عظيمًا.

ويقابل فى رحلته «الهمبستجان» وهم الطائفة التى تساوت ذنوبها مع أعمالها الخيرة، وهى أرواح تظل مجمدة بين الجحيم والنعيم، على جبل ضخم، حتى يُقرر الإله عودتها إلى جسد جديد، ليمنحها فرصة أخرى للحياة واختيار الخير وعدم اتباع الشيطان. وذلك بعد أن تُعرض أعمالهم على الميزان الذى يحمله أحد الملائكة العظام، حيث توزن أعمال البشر جميعًا، أمام العرش الإلهى، وتحديد مصير الأرواح الخيرة أو الشريرة أو من تساوت أعمالهم.

وتُعد فكرة الميزان فى الزرادشتية امتدادًا لفكرة عذاب الروح بعد الموت وقبل الوصول إلى العالم الآخر، أو العذاب فى مرحلة البرزخ، عن طريق ثعابين شيطانية ضخمة تأخذ الروح بعد الموت فى رحلة عذاب طويلة طوال فترة البرزخ، ورغم أن هذه الفكرة لم تستمر طويلًا فى المعتقد الزرادشتى الأصيل ولكن كان لها امتداد شعبى فى الأدبيات الشعبية الدينية.

وتنتهى رحلة السبعة أيام، بحضور الكاهن «فيراف» فى حضرة الإله الأكبر «أهورامزادا»، وذلك بحضور كل الملائكة والقديسين والآلهة المساعدين، وهناك يلقى عليه الإله تعاليم وصلوات جديدة، ليُحيى الدين الزرادشتى بعد زواله بسبب الشيطان وأعوانه، ويُحمله نبأ عظيمًا ليخبر به أتباع إله النور، ويبشره بنصر أكيد.

رغم أن المعراج الإيرانى، أو «أردا فيراف نامه» من النصوص الدينية القديمة للغاية، لكن ما زال لها حضور قوى فى الأدبيات الدينية سواء الرسمى منها أو الشعبى، بل إن النص قد تجاوز حدود الزرادشتية إلى سياق شعبى عام فى إيران، فما زالت حكاية المعراج تشكل مرجعًا هامًا فى الحكايات الشعبية الفارسية، وكذلك الملاحم، ولها امتداد فى الطقوس والأعياد السنوية فى إيران، فقصة الكاهن العائد من العالم الآخر، صاحب الحظوة الإلهية، ما زالت تشغل الوجدان الدينى، على اختلاف المذاهب والمعتقدات.