لوحة مرنبتاح: لا وجود لبنى إسرائيل فى أرض فلسطين
- مصطلح إسرائيل لا يمت بصلة للشعب الإسرائيلى الذى ورد ذكره فى التوراة العبرية
- المصطلح العرقى «يسريار» فى نص أنشودة الانتصار للملك مرنبتاح لا يمكن أن يرتبط مطلقًا بالشعب الإسرائيلى القديم
فى محاضرة ألقيت فى أبريل عام 1896م بجامعة University College London بإنجلترا، أعلن عالم الآثار الإنجليزى الشهير البروفيسور «وليام فلندرز بترى»، بعد فترة قصيرة من عودته من مصر، عن الكشف عن لوحة انتصارات الملك مرنبتاح الشهيرة بمعبده الجنائزى بالقرنة بالبر الغربى بالأقصر «طيبة»، التى عرفت لدى المؤرخين وعلماء المصريات خطأ بلوحة إسرائيل، حيث ذكر من خلال هذه اللوحة للمرة الأولى والأخيرة اسم «إسرائيل» فى الآثار المصرية، ما أثار جدلًا كبيرًا بين الباحثين حول علاقة الملك مرنبتاح بأحداث خروج بنى إسرائيل من مصر، وقد اعتبرت اللوحة مصدرًا رئيسيًا فى علم الآثار التوراتى.
وعن هذه اللوحة كانت الدراسة الأثرية لعالم المصريات الدكتور محمد رأفت عباس، الذى أشار إلى أن هذه اللوحة هى المصدر الرئيسى لحملة مرنبتاح فى بلاد كنعان «فلسطين» فى العام الخامس من حكمه «1208 ق.م»، والتى تعد من أهم الأحداث السياسية والحربية فى تاريخ الإمبراطورية المصرية فى بلاد كنعان خلال العصر البرونزى المتأخر الموازى لعصر الدولة الحديثة فى تاريخ مصر القديمة، ويجيب عن السؤال المهم ماذا يقصد بإسرائيل فى نصوص هذه اللوحة؟
ويوضح الدكتور محمد رأفت عباس مدلول أنشودة الانتصار التى سجلها مرنبتاح على اللوحة المحفوظة حاليًا بالمتحف المصرى.
«لا يرفع أحد رأسه من بين الأقواس التسعة، الخراب للتحنو، وبلاد خيتا قد أسكتت، ونهبت كنعان وأصابها كل شر، واستسلمت عسقلون وأخذت جازر، وينوعام أصبحت كأنها لم تكن، وخربت إسرائيل ولم يعد لها بذور، وأصبحت خارو أرملة لمصر».
وأثار ذكر نص الأنشودة لمدن كنعانية بعينها كعسقلون «عسقلان» وجازر وينوعام، وكذلك اسم قبيلة إسرائيل اهتمام المؤرخين، وهناك مناظر حربية لمرنبتاح بالكرنك تتضمن أربعة مناظر لمعارك خاضها فى كنعان، وهى المناظر التى كان ينسبها العلماء فى الماضى إلى الملك رمسيس الثانى، وقد أثبتت الدراسات الحديثة نسبتها إلى الملك مرنبتاح.
ويتناول الدكتور محمد رأفت عباس هذه المدن الثلاث بالتحليل، مدينة عسقلون تقـع على ساحـل البحر المتوسـط شمال غزة، ولقد ورد ذكر المدينة من خلال العديد من النصوص التاريخية المهمة كرسائل العمارنة والنصوص التاريخية العبرية والآشورية والبابلية والهيللنستية، وكذلك التسجيلات الرومانية والبيزنطية المتأخرة، وبالنسبة لجازر فقد أثبتت أعمال الحفائر الأثرية التى وقعت فى تل جازر «تل الجزيرى» الواقع على جنوب الرملة أنه نفس موقع المدينة التى ورد ذكرها فى المصادر التاريخية المصرية والآشورية والتوراتية القديمة.
أمّا ينوعام، فيرجح أن يكون موقعها فى منطقة تل الشهاب الواقعة على نهر اليرموك، حيث تتلاءم طبيعة هذا الموقع مع تفاصيل منظر الاستيلاء على ينوعام الذى سجله الملك «سيتى الأول» ثانى ملوك الأسرة التاسعة عشرة على جدران معبد الكرنك ضمن مناظر حملاته الحربية المختلفة، هذا بالإضافة إلى العثور على إحدى لوحات سيتى الأول بالموقع، ما يؤكد أنه كان واحدًا من المواقع التى قام بالاستيلاء عليها خلال حملته على المنطقة. ومن ناحية أخرى، رأى جانب آخر من المؤرخين أن موقع ينوعام ربما يكون فى تل العبيدية الواقع شمال بيت شان بالقرب من الشاطئ الجنوبى لبحر الجليل أو موقع تل النعامة فى وادى الحولة فى الجليل الأعلى
وينوه الدكتور محمد رأفت عباس بأن اسم «يسريار» الواردة باللوحة تعنى شعبًا أو قبيلة وليس مدينة أو دولة، حيث رسم الرجل والمرأة كمخصص ملحق باسم إسرائيل بدلًا من المعتاد برسم المدينة أو الأرض الأجنبية فى تحديد أسماء المواقع، التى استخدمت كمخصص مع المدن الثلاث السابقة.
ويرى أن مصطلح إسرائيل هنا لا يمت بصلة للشعب الإسرائيلى الذى ورد ذكره فى التوراة العبرية، إنما يرتبط بوادى يزرعيل وهو أحد الأودية الواقعة فى شمال فلسطين، وهى الرؤية التى تبناها «مارجاليث» وتتفق هذه الرؤية مع بقية النص، الذى قد ورد فيه أسماء ثلاث مدن كنعانية «عسقلون وجازر وينوعـام».
وأردف الدكتور محمد رأفت عباس المصطلح العرقى «يسريار» فى نص أنشودة الانتصار للملك مرنبتاح لا يمكن أن يرتبط مطلقًا بالشعب الإسرائيلى القديم، نظرًا لتجسيد هذا الشعب فى مناظر مرنبتاح الحربية بالكرنك بالهيئة الكنعانية ولامتلاكهم تقنية عسكرية متطورة تتمثل فى استخدامهم العربات الحربية فى قتالهم ضد الملك مرنبتاح وهى تقنية عسكرية يصعب على الشعب الإسرائيلى امتلاكها خلال تلك الحقبة المبكرة من تاريخه.
والأرجح أنه يرتبط بقبيلة كنعانية محاربة تواجدت خلال تلك الفترة من العصر البرونزى المتأخر فى أرض فلسطين، وقد اشتركت فى أعمال التمرد ضد الإمبراطورية المصرية بشكل مؤثر، الأمر الذى أولاها اهتمامًا خاصًا من قبل كتبة مرنبتاح للذكر فى أنشودة الانتصار.
ويحتمل أن هذه القبيلة الكنعانية كانت شبيهة بقبائل العابيرو البدوية التى كانت تحيا فى بلاد كنعان خلال تلك الحقبة وتمارس أعمال التمرد والغزو فى المناطق المختلفة، ما كان يجبر السلطات المصرية على إرسال حملات حربية لقمعها والسيطرة عليها لحفظ النظام فى مناطق السيادة المصرية فى كنعان، كما أشارت المصادر المصرية مرارًا خلال عهد الإمبراطورية المصرية«١٥٥٠ – ١٠٦٩ ق.م».
وما يدعم وجهة نظر الدكتور محمد رأفت عباس بشدة هو وجود وادى يزرعيل فى شمال فلسطين الذى يحمل تسمية ربما يمت اشتقاقها اللغوى بصلة إلى هذه القبيلة الكنعانية، هذا بالإضافة إلى مناظر مرنبتاح الحربية بالكرنك، حيث تجسد هؤلاء القوم فى المناظر المصرية بالهيئة الكنعانية.
وكذلك المؤرخ السويسرى البروفيسور «كريستوف أويهلينجر» الذى ذكر أن الإسرائيليين المذكورين فى لوحة مرنبتاح يجب أن يتم تعريفهم على أنهم كنعانيون وأنهم لا يرتبطون على الإطلاق بقبائل بدو الشاسو.
وينوه الدكتور محمد رأفت عباس بسبب التمرد المفاجئ الذى قامت به كنعان بعد أكثر من نصف قرن من الهدوء والسلام، ولا يتفق مع رأى «كينيث كتشن» بأن موت الملك رمسيس الثانى قد أوجد الدافع وراء هذا الأمر، نظرًا لزوال شخصيته ذات الشهرة العسكرية الكبرى ورغبة دويلات المدن الكنعانية فى اختبار الملك الجديد الجالس على العرش، فربما تعامله الحديث فى مجال السياسة الخارجية قد يتيح لهم التخلص من النفوذ المصرى.
ويوضح سبب عدم اتفاقه مع رأى «كينيث كتشن» لعدم وجود سبب منطقى يجعل دويلات المدن الكنعانية تنتظر خمس سنوات كاملة منذ وفاة رمسيس الثانى حتى تشتعل ثورتها ضد الحكم المصرى فى العام الخامس من عهد مرنبتاح.
من ناحية أخرى، يرى «إيتامار سينجر» أن تهدئة تلك المناطق فى كنعان كان خطوة ذات تخطيط بعيد المدى فى الحفاظ على امتداد النفوذ السياسى المصرى وترسيخه حتى مناطق شمال بلاد الشام، كما يرى كذلك أن إحكام قبضة مصر على تلك المناطق كان أمرًا ضروريًا بعد حالة الركود النسبى فى السياسة الخارجية المصرية فى العقود الأخيرة من عهد رمسيس الثانى منذ عقد معاهدة السلام مع خيتا.
والرأى عند الدكتور محمد رأفت عباس أن السبب فى تلك الاضطرابات والثورات ضد الحكم المصرى فى كنعان هو تحركات فرع آخر من شعوب البحر استطاع الاستقرار فى بعض المدن الكنعانية، وأصبح مصدرًا للتمرد والثورة ضد النفوذ المصرى فى كنعان، بل كان نواة خطيرة للاضطرابات التى أضرت باستقرار المنطقة، ويبدو أنه بناءً على العديد من المصادر التاريخية التى وصلت إلينا من مختلف بلدان الشرق الأدنى القديم، وكذلك المعلومات المناخية التى توصل إليها العلماء عن تلك الحقبة، فإنه يبدو أن منطقة الشرق الأدنى القديم بأكملها، بما فى ذلك خيتا وبلاد الرافدين وأوجاريت وليبيا، وربما حتى مصر وبلاد النوبة، كانت تعانى من الجفاف الشديد.
وفى كثير من الأحيان، كانت مصر قادرة على مساعدة حلفائها البعيدين، مثل خيتا وأوجاريت بتقديم المعونات لهم فى أزماتهم الغذائية، غير أنه يبدو أنها كانت تواجه مشاكل فى التغلب على نفس تلك الأزمات التى كانت تعانى منها البلدان الخاضعة لإمبراطوريتها والقريبة من حدودها.
ومن ثم فقد اضطرت مصر خلال عهد مرنبتاح إلى خوض تلك الحروب الشرسة على حدودها ضد الليبيين وشعوب البحر دفاعًا عن وجودها، وضد ثورات دويلات المدن الكنعانية فى الشمال والقبائل النوبية فى الجنوب دفاعا عن أملاك إمبراطوريتها.
ونستخلص من القراءة العلمية للدكتور محمد رأفت عباس للوحة مرنبتاح عدم وجود لبنى إسرائيل فى فلسطين حتى حكم مرنبتاح، وكان الوجود الحقيقى للعرب الكنعانيين.