الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

بطولة الرفاعى وخيانة هيكل ورد الاعتبار للسادات..

عبده مباشر عميد المحررين العسكريين يفتح ملفات أكتوبر السرية بجرأة وشجاعة

حرب أكتوبر 1973
حرب أكتوبر 1973

نعرفه فى مهنتنا العريقة بأنه «عميد المحررين العسكريين»، له تجربته الخاصة فى الصحافة وفى الحياة أيضًا، وأنت تستمع إليه تشعر بالفخر بأنك تعمل فى مهنة عمل بها هذا الكاتب الصحفى الذى لم يقاتل على خط النار بالقلم والكاميرا فقط.. ولكن بالسلاح أيضًا. 

عندما كنت أسجل شهادات من شاركوا فى حرب أكتوبر لمناسبة مرور خمسين عامًا عليها، حرصت على أن أجلس معه، فلا تكتمل الشهادات إلا به، فلديه من الأسرار والحكايات، ما لن تجده عند غيره. 

إنه الكاتب الصحفى والمراسل العسكرى لعقود طويلة عبده مباشر. 

بدأت معه من نقطة خاصة جدًا. 
قلت له: حرب أكتوبر على وجه التحديد تحتل مساحة خاصة من حياتك الشخصية والمهنية، كيف تنظر إليها؟ 
قال: لا بد أن نتحدث عن حرب أكتوبر فى بعدها التاريخى، فعندما ننظر إلى مصر نجد أن محمد على تألق عسكريًا، وعندما فعل ذلك قاد مصر على طريق النهضة، ويعلم الجميع أن الأسطول المصرى عندما تم تدميره فى معركة «نوارين» البحرية ١٨٢٧ وقف مرة أخرى، وأكمل محمد على مشروعه النهضوى حتى العام ١٩٤٠، وفى هذه الفترة كان الجيش المصرى يحارب وسننتصر شرقًا وغربًا وجنوبًا. 
بعد معاهدة لندن خبت أضواء مصر، لكنها عادت لتتألق مرة أخرى فى عهد إسماعيل الذى اتجه بقواته جنوبًا، واستولى على «زيلع ومصوع وسواكن»، وخصص قوات لمرافقة من يكتشفون منابع النيل، ولما انتهى عصر إسماعيل وجاء توفيق مُنيت مصر بهزيمة قوات عرابى فى التل الكبير، لينتهى عصر الحروب الهجومية، ويبدأ عصر الحروب الدفاعية فى ٤٨ و٥٦، و٦٧، لكننا عدنا إلى الحروب الهجومية مرة أخرى فى ١٩٧٣. 
فى أكتوبر ٧٣ كنا نهاجم لأول مرة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى، ولأول مرة منذ عهد الخديو إسماعيل، أنت تقود معركة هجومية ضد قوة متفوقة عليك كمًا وكيفًا. 
سألته عن نقطة البداية، كيف قرر أن يصبح محررًا عسكريًا فى أجواء الحرب العصيبة التى كانت تمر بها مصر؟ 
فبدأ يروى ما كان، قال: منذ كنت طالبًا والكتاب لا يفارقنى، وكانت أمى رحمها الله تقول لى لم أرك منذ نزلت من بطنى إلا وفى يدك كتاب، قبل أن أنتهى من دراستى الثانوية كانت عندنا مادة اسمها «التوجيهية»، وكنت قرأت مكتبة مدرسة الزقازيق الثانوية كلها تقريبًا، وفى حفل بالمدرسة أعطونى مجموعة كتب، كنت أشعر أننى عقاد صغير، ومن قراءاتى لفت نظرى شىء مخالف لما يحدث فى العالم. 
لفت نظر عبده مباشر إلى أن نهضة مصر مرتبطة بالانتصار، انتصار عسكرى يصاحبه ازدهار، وهزيمة عسكرية يصاحبها انكسار، وكان هذا مختلفًا، فاليابان ليست كذلك مثلًا، فقد ضربت بقنبلتين ذريتين عام ٤٥ ووقفت على قدميها سنة ١٩٥٢ وأصبحت قوة اقتصادية، وألمانيا مُنيت بهزيمة مهينة وفى عام ٥٤ فازت بكأس العالم فى كرة القدم، فوفقًا لنظرية الاستجابة والتحدى، الهزيمة حفزتهم للخروج من نطاقها، لكننا تكسرنا الهزيمة ولا نستطيع الخروج من رحمها إلا بانتصار عسكرى. 
كان عبده مباشر قد وصل إلى العام ١٩٥٨، وبدأ العمل بالصحافة، وكان يجلس مع مصطفى أمين فى أخبار اليوم، ودار بينهما هذا الحوار: 
مصطفى: تحب تشتغل إيه؟ 
مباشر: أنا عندى كلام لا يتحدث فيه إلا الكبار. 
مصطفى: أحب أسمعه. 
مباشر: أنا لاحظت من قراءتى للتاريخ أن هناك ارتباطًا بين الانتصار والازدهار، وبين الهزيمة والانكسار. 
مصطفى: أفهم من ذلك أنك تريد أن تعمل محررًا عسكريًا. 
مباشر: نعم.. فإذا كان الانتصار هو من يصنع النهضة لبلدى فلا بد أن أضع نفسى فى خدمة القوات التى تحقق الانتصار، وكانت هذه بداية عملى محررًا عسكريًا. 
قلت له: بدأت العمل كمحرر عسكرى فى ٥٨، وبقيت فى أخبار اليوم حتى ٦٨، معنى ذلك أنك شهدت أحداث النكسة وأنت فى أخبار اليوم. 
قال: أنا تخرجت من كلية الحقوق، وبعدها ذهبت إلى جلال الدين الحمامصى، وقلت له أنا أريد أن أدرس صحافة قبل أن أعمل بالصحافة، فقال لى مصطفى أمين علوم سياسية وأنا مهندس ونعمل بالصحافة، فقلت له: جيلكم مختلف عن جيلنا، فرد علىّ: إذا كنت تريد أن تدرس صحافة فيمكنك أن تقرأ مناهج الصحافة فى كلية الآداب، قلت له: قرأتها كلها، فسألنى: وماذا وجدت؟ فأجبته: مناهج التوجيهية أفضل منها، فقال لى: لا بد أن تدرس فى الخارج. 
بعد أيام أخبر الحمامصى عبده مباشر أن هناك منحة إلى ألمانيا الشرقية، لكنه تردد فى ترشيحه لها لمعرفته بموقفه من الشيوعيين، لكن مباشر أخبره أنه سيسافر، ولما تعجب الحمامصى، قال له مباشر: أنا عندى موقف من الشيوعية وليس من الشيوعيين، وأنا ذاهب لأتعلم والعلم تضع عليه برنيطة حمراء، أو برنيطة مخططة يظل هو العلم لا يتغير. 
سافر عبده مباشر فى خريف العام ٦٦، ولم يحضر حرب ٦٧، فسألته: كيف تابعت أخبارها؟ كيف وصلتك أصداؤها؟ 
قال: كانت الحكاية صعبة للغاية، كنا مجموعة من الدارسين المصريين والعرب، ولأن الحياة فى ألمانيا الشرقية كدولة شيوعية كانت صعبة للغاية، كنا نختار واحدًا من بيننا كل أسبوع ليذهب إلى ألمانيا الغربية ليشترى لنا الصحف والبن والشوكولاتة، كان زملائى يشترون من أماكن متعددة ورخيصة، أما أنا فكنت أذهب إلى أكبر محل هناك وأشترى ما نحتاجه مرة واحدة. 

حرب أكتوبر.. خداع السادات الاستراتيجي يدفع إسرائيل للتعبئة العامة 3 مرات -  بوابة الشروق - نسخة الموبايل


يوم الإثنين ٥ يونيو ٦٧ دخلت البيج ستور، وجدت إعلانًا كبيرًا على الباب الرئيسى مكتوبًا فيه «ادفع ماركًا تقتل عربيًا»، سألت نفسى: ما الذى جرى؟ لقد كنت هنا من أسبوع، ترددت فى سؤال أحد عما جرى، فقد كنت عربيًا مطلوبًا للقتل طبقا للإعلان، استوقفت شابًا وسألته: فقال لى.. العرب عاوزين يرموا إسرائيل فى البحر، وبدأوا الحرب ضدها، فقلت لنفسى: طالما بدأنا الحرب فلا بد أن نكون انتصرنا وهذه نهاية إسرائيل، فعدت إلى زملائى وأخبرتهم أن الحرب بدأت، وبدأنا نبحث عن أى إذاعة عربية لنعرف منها ما حدث. 
لم يكتف عبده مباشر بالمتابعة، ذهب إلى مسئولين ألمان ليحتج عندهم على إعلان «ادفع ماركًا تقتل عربيًا»، وقال لهم إنه يريد أن يقوم بحملة شعارها «ادفع ماركًا تنقذ عربيًا»، فقالوا له إنهم سيجتمعون لبحث الأمر، فأخبرهم بأن الحرب بدأت ولا بد أن يبدأ الحملة على الفور، فوافقوا وحددوا له المؤسسات التى يذهب إليها، فقسّم المصريون أنفسهم وبدأوا فى المرور على المؤسسات لجمع التبرعات، وكان المبلغ الذى جمعوه من ألمانيا الشرقية كبيرًا. 
لكنه قرر أن يجمع تبرعات من ألمانيا الغربية أيضًا، وفى أحد المؤتمرات هناك قابل طالبًا يقود العمل الطلابى اسمه «روديو ديتش»، وهو الذى قاد ثورة الطلبة فى ٦٨، تحدث معه وأخبره بما يريده فساعده ليتمكن من جمع ٢ مليون مارك، وقال له المسئولون الألمان: بدل ما تعود بهذه الأموال إلى بلدك يمكن أن نعطيك بها معدات طبية. 
استوقفت مباشر، قلت له: حتى ذلك الوقت لم تكن تعرف أن الهزيمة وقعت؟ 
قال: كنا نستمع إلى إذاعة صوت العرب ونصدق ما يقوله أحمد سعيد بأننا انتصرنا، لكن يوم ٨ يونيو تكشفت الحقيقة، وعرفنا أننا هزمنا هزيمة نكراء، فبدأنا نقرأ الصحف التى كنا نركنها على جنب ونقول إنها إعلام إمبريالى، وأن إسرائيل غسلت مخ العالم، ولما عرفت التفاصيل أدركت أن هذه ليست هزيمة عسكرية، ولكنها هزيمة نظام كامل. 
عاد عبده مباشر من ألمانيا الشرقية يوم ١٥ يونيو بطائرة محملة بمعدات طبية، وكان الاتفاق أن يصلوا بالطائرة الألمانية إلى قبرص، ثم تأتى طائرة مصر للطيران ليعودوا بها إلى الإسكندرية.

نصر 73 يوم بيوم..17 أكتوبر.. السادات في خطاب النصر: القوات المسلحة صنعت  المعجزة والوطن أصبح له درع وسيف| وثائق - بوابة الأهرام


سألت مباشر: متى انتقلت إلى الأهرام؟ 
أجاب: حدث هذا فى نوفمبر ٦٨ مع افتتاح المبنى الجديد فى شارع الجلاء، وحضرت الزيارة التى قام بها الرئيس عبدالناصر إلى المبنى، ولخصها الأستاذ أحمد بهجت فى مقاله «بيتنا الذى بنيناه»، فقد وصفها ككاتب متميز وحساس وكان مقاله بديعًا. 
أخذت عبده مباشر إلى المنطقة المشتعلة، سألته: لم تستسلم مصر للهزيمة، أعلن عبدالناصر التحدى، كيف بدأ اتصالك بالعمل العسكرى؟ 

 مجموعة الرفاعى قامت بتدمير مخازن الذخيرة التى تركها الجيش فى سيناء حتى لا يستفيد منها الإسرائيليون
 

قال: وقتها خططت لحاجتين، الأولى أن أزور الجبهة وألتقى بالقادة وأسمع منهم، والثانية أن أتحدث مع إبراهيم الرفاعى رحمه الله، أخذت سيارة الأهرام وقابلت القادة قائدًا قائدًا، وكان معى فاروق الطويل وصلاح قبضايا من آخر ساعة، كنا نريد أن نستمع لما جرى فى ٦٧ من القادة، ونحن فى القنطرة حدثت معركة رأس العش. 
رأس العش هذه كانت فاتحة المعارك، لم يمهلنى مباشر لأستكمل، فاستعاد خيط الكلام وقال: كانت فى ١ يوليو ٦٧، وعندما نستعيدها وتتأمل كيف تعامل أفراد الصاعقة مع الموقف بصلابة وجسارة تندهش، فالطريق شرق القناة أرض طينية موحلة لكنهم استوطنوها وأقاموا فيها مواقع، ولما تقدمت سرية دبابات إسرائيلية منهم لم يهربوا، ضربوا الدبابة الأولى والثانية والثالثة، ولما شموا رائحة الانتصار انتعشوا وانتعش الجنود الموجودون فى الغرب فعبروا وشاركوهم ونقلوا إليهم الذخيرة.. كانت الصورة مبهرة. 
قلت له: نحن نتحدث عن رد سريع بعد الهزيمة الكبرى، لم تفصل بينهما إلا أيام معدودة. 
قال وهو يتذكر ما جرى: هذه المعركة كشفت عن صلابة مقاتل لم تكن نضعها فى اعتبارنا، فى الانسحاب كانت الصورة مفزغة، لكن هنا صلابة وجسارة. 

الاحتفال باليوبيل الذهبى لحرب أكتوبر المجيدة.. الوثائقية توثق الانتصار بـ 7  سلاسل.. خبراء إعلام: إنتاجات تدعو للفخر وتعيد ذاكرة الأمة.. وتلعب دورًا  مهمًا فى الرد على أكاذيب إسرائيل - اليوم السابع


سألت مباشرة عن انطباعه عن هذه الزيارة؟ 
فقال: لقد سمعت كلامًا كثيرًا عن أسباب الانسحاب والحرب والحشد، ولم يكن كلامًا جيدًا أبدًا، بل كان مؤسفًا، لكن معركة رأس العش جعلتنى أضع هذا الكلام فى الخلفية، لأن كلامًا جديدًا كان قد بدأ بالفعل، كلام يحيى الأمل ويجدده فى أننا قادرون على الانتصار، وكان كلام إبراهيم الرفاعى الذى قاله لى متفائلًا ومشجعًا. 
جئنا معنا إلى إبراهيم الرفاعى، فقلت له: زدنى عن هذا البطل الشهيد. 

 الرفاعى تولى تأسيس مجموعة فدائية تتحمل مسئولية الأعمال الفدائية خلف خطوط العدو هى المجموعة 39


قال: إبراهيم الرفاعى كان فى الصاعقة، وعرفت أنهم هيعملوا طابور سير من أنشاص إلى بورسعيد، فقررت أن أشارك معهم، لكنهم تراهنوا أننى سأقع منهم، لكنى أكملت، واكتشفوا أننى وأنا أسير معهم أن أداءهم أفضل، فجاءنى إبراهيم الرفاعى الذى كان قائد الكتيبة ١٣، وقال لى: أريدك أن تدخل معنا بورسعيد، لأننى أريد أن أحصل على المركز الأول. 
سار عبده مباشر مع الكتيبة ١٣ وفعلًا فازت بالمركز الأول فى طابور السير، وسجلت الرقم الأفضل، فقد قطعت المسافة من أنشاص إلى بورسعيد فى وقت أقل، وجلس مباشر مع الرفاعى الذى كان قد قام بعملية فدائية نموذجية فى بورسعيد فى ٥٦ هو ومجموعة محدودة من رجال الصاعقة، فقد هاجموا معسكر الدبابات الإنجليزى ودمروا عددًا كبيرًا من الدبابات، وخرجوا من المعسكر ليختفوا تمامًا، ولم يعثر لهم أحد على أثر. 
قرأ عبده مباشر الدهشة على ملامحى، فأكمل حديثه متحمسًا: قبل أن يهاجم الرفاعى ورجاله المعسكر حصلوا على وثائق مدنية، وسجلوا أنفسهم أنهم محجوزون فى شرطة بورسعيد، وكان ذلك قبل العملية بيومين، الإنجليزا قلبوا بورسعيد عمن هاجموا المعسكر، لكنهم فشلوا تمامًا فى العثور عليهم. 
يومها قال مباشر للرفاعى: شوف يا كومندان أنت عملت أول عملية فدائية فى ٥٦، أنا عملت أول عملية فدائية فى أكتوبر ٥١، فأنا أقدم منك فى العمل الفدائى. 

عبدالناصر على الجبهة


كان عبده مباشر يشير إلى اشتراكه فى المجموعات الفدائية التى كانت تهاجم معسكرات الاحتلال الإنجليزى فى منطقة القناة، يقول: كنت أمازح الرفاعى بأننى أقدم منه فى العمل الفدائى، كنت أقول له أنا أقدم منك بـ٥ سنين. 
كانت هذه بداية المعرفة بين المراسل العسكرى عبده مباشر وقائد الصاعقة إبراهيم الرفاعى. 
يحكى مباشر: كانت للعمليات التى يقوم بها الرفاعى بصمة عرفت باسمه «بصمة الرفاعى»، كان ينفذ عملياته بصخب، يهاجم وينتصر ويعلن عن انتصاره بفخر شديد، وتوقفت عند منهجه، كنت أسأله عما جرى فى ٦٧، فيقول لى: دعك من هذا نحن الآن نقوم بعمليات فدائية فى سيناء، أنت تحدثنى عن الماضى وأنا أعمل فى المستقبل. 
من العمليات التى حكى إبراهيم الرفاعى تفاصيلها لعبده مباشر كانت عملية تشوينات الذخيرة. 
كان الجيش المصرى قد ترك وراءه مخازن ذخيرة وتموين فى سيناء، وقام الإسرائيليون بجمع كل الأسلحة وقاموا بتشوينها فى منطقة واحدة أطلقوا عليها «منطقة تشوينات الذخيرة»، وكانت لدى القيادة العامة المصرية مخاوف من استخدام إسرائيل لهذه الأسلحة فتتضاعف قوتها، طلب اللواء محمد مدير المخابرات الحربية من الرفاعى تدمير التشوينات، وقام الرفاعى ورجاله بتدميرها تمامًا، وكانت من بينها مجموعة صواريخ قررت إسرائيل نقلها بالقطار لاستخدامها فى استعراض باليوم الوطنى الإسرائيلى، فقام بتدمير القطار كاملًا. 
ومن العمليات التى قام بها الرفاعى أيضًا وحكاها لعبده مباشر، ما جرى عندما وضعت إسرائيل خطة لتطويق المصريين المنسحبين أطلقوا عليها «المطرقة والسندان»، وكانت عبارة عن ٣ طوابير مدرعة تتقدم فى سيناء، كل طابور فى اتجاه مضيق من المضايق الثلاثة تشكل المطرقة، وهناك طابور رابع يتقدم على المحور الساحلى، يقوم بدور السندان. 
وقتها قرر اللواء محمد صادق إيقاف هذا الطابور الذى يتقدم على الطريق الساحلى، واعتمد على اثنين هما القائد الثانى لمكتب مخابرات العريش محمود عادل وإبراهيم الرفاعى، طلب من عادل أن يعطل واحدًا من الطوابير الثلاثة، لأنه كان لا يزال فى شرق القناة لم ينسحب، وطلب من الرفاعى أن يعبر إلى شرق القناة، وبالفعل جمع رجاله ومجموعة سيارات مدرعة وانتقل إلى شرق القناة، وكان المشهد مذهلًا، كانت القوات عائدة إلى الغرب والرفاعى ومجموعته متجهون إلى الشرق. 
كان المطلوب من الرفاعى ومجموعته أن يعرقلوا الطابور المدرع الإسرائيلى، حتى لا يقوم بدور السندان، فيحموا آلاف من الضحايا المنسحبين، ونجح الرفاعى فى مهمته ونجح محمود عادل فى عرقلة طابور من الثلاثة، وبعد هذه العملية تم تكليف الرفاعى بتأسيس مجموعة فدائية تتحمل مسئولية الأعمال الفدائية خلف خطوط العدو، هى المجموعة ٣٩. 

في الذكرى 47 لحرب أكتوبر، ماذا بقي من التضامن والوحدة العربية؟ - نافذة على  العالم


كان هناك تصور زائف أن القائد الإسرائيلى لا يهزم وأن القوات الإسرائيلية لا تقهر

فى هذا التوقيت اللواء محمد صادق لعب دورًا كبيرًا جدًا، تحدث مع الرئيس عبدالناصر، قال له: لا بد من عمل شىء لرفع الروح المعنوية للقوات المنسحبة، لن نستطيع أن نستفيد بهم مرة أخرى كمقاتلين لو أهملناهم وغيرنا الصورة الذهنية عن الجيش الإسرائيلى لديهم. 
قال صادق لعبدالناصر: لا بد أن نقوم بعمليات فى سيناء، لأن القوات المنسحبة متصورة أن القائد الإسرائيلى لا يهزم وأن القوات الإسرائيلية لا تقهر، فالعمليات خلف خطوط العدو ستلعب دورًا فى تغيير هذه الصورة. 
رد عبدالناصر على صادق: لكننا وقعنا على اتفاقية وقف إطلاق النار، فكيف نحارب، وهل سيتركنا العالم؟ 
قال صادق: نحن لن نحارب... ولكن أهالى سيناء تحت الاحتلال، ومن حق المحتل أن يقاوم المحتلين. 
اقترح صادق على عبدالناصر الاستعانة بشباب ورجال سيناء، وتأسيس منظمة اسمها منظمة سيناء العربية، تعلن هى عن أنها المسئولة عن العمليات الفدائية، وقد كان، وبدأت قوات الصاعقة تنفيذ عمليات تحت غطاء العمليات الفدائية التى ينفذها أهالى سيناء. 
سألت مباشر: كيف أصبحت واحدًا من رجال إبراهيم الرفاعى؟ 
قال: كتبت طلب تطوع، وقلت له يا أبوخليل سأتطوع بصفة مدنية، وليس بصفة عسكرية. 
قلت له: وما الفرق بالنسبة لك بين صفة مدنية وصفة عسكرية؟ 
قال: الفارق كبير بالطبع، لو تطوعت كعسكرى سأكون خاضعًا للقوانين العسكرية، وساعتها لن أستطيع كتابة أى شىء عن العمليات التى سأكون متواجدًا فيها، لكن تطوعى بالصفة المدنية كان معناه أننى سأحتفظ بصفتى الصحفية. 
وافق إبراهيم الرفاعى على ما أراده عبده مباشر، الذى يقول: كتب توصية عظيمة جدًا رفعها لمدير المخابرات الحربية فوافق وكتب توصية عظيمة ورفعها إلى رئيس الأركان عبدالمنعم رياض فوافق وكتب توصية، لكن عندما وصل الطلب إلى وزير الحربية محمد فوزى رفض.

حرب أكتوبر: "الصفعة" التي أيقظت إسرائيل من حالة الإنكار | Euronews


قابل عبده مباشر وزير الحربية ليدور بينهما هذا الحوار: 
فوزى: لا يمكن أن أوافق... أنا لا أريد أن أغلق الباب الذى تطل به علينا، وتريد الآن أن أفتح لك كل الأبواب، أنا لا أريدك أن تسمع أى سر ولا أى معلومة. 
مباشر: الرجل المسئول عن الأسرار وافق على طلب تطوعى. 
فوزى: هو يوافق.. لكن أنا لن أوافق. 
مباشر: سأجعل الرئيس عبدالناصر حكمًا بينى وبينك. 
فوزى: وهل تعتقد أن عبدالناصر يمكن أن ينصرك علىّ؟ 
مباشر: لست بهذه السذاجة حتى أتصور أن الرئيس يمكن أن ينصر صحفيًا على وزير، لكنى سأذهب إلى عبدالناصر لأقول له إننى شاب بايع نفسه من أجل البلد، وأن سيادتك ترفض أن تمنحنى الفرصة لأخدم بلدى، ولن أقول له أكثر من ذلك. 


يستكمل مباشر الحكاية: نزلت لعبدالمنعم رياض وأنا أبكى، فقال لى: هحلها يا عبده متعيطش، فذهبت إلى محمد صادق، فقال لى أنا سأذهب إلى عبدالناصر، وبالفعل قدم له طلبى للتطوع فوافق على الفور، وكانت وجهة نظره أن وجود مدنى متطوع يمكن أن يحفز العسكريين أكثر، وحصلت على استنثاء خاص من الرئيس وتطوعت بالصفة المدنية فى المجموعة التى يقودها الرفاعى. 
سألت: كيف كان شكل مشاركتك مع المجموعة.. أنت فى النهاية صحفى ومدنى ولست عسكريًا؟ 
فرد مباشر: كل شىء تم بهدوء، كنت كلما جلست مع قائد من القادة يحدثنى فى كل شىء إلا المعلومات، وأنا أريد معلومات، حاولت الحصول عليها، لكنهم كانوا يلتزمون بقواعد الأمن أمام المدنيين، فوجدت أننى لن أكون بذلك محررًا عسكريًا، فقررت أن أكون مثلهم فى كل شىء نظريًا وعمليًا حتى يطمئنوا إلىّ، أحضرت المناهج والكتب العسكرية، وتوسعت فى قراءة التاريخ العسكرى، والتحقت بمعهد الدراسات العربية ودرست قضية فلسطين من الألف إلى الياء دراسة منهجية، وفكرت فى الحصول على ماجستير فى المؤسسة العسكرية حتى يكون فهمى للعدو أكثر عمقًا، وحصلت على دورة فى الصاعقة وأخرى فى المظلات، حتى يشعروا بأنى واحد منهم، وبالفعل أصبحت قريبًا من العسكريين جدًا، فاعترفوا بى. 
وقتها كان إبراهيم الرفاعى يقول لى: أنت صحفى على عينى ورأسى، لكن أنت تعبر معنا، ومعنى ذلك أنك تأخذ مكان مقاتل، فلابد أن تعمل كمقاتل ثم بعد ذلك نفكر فى مسألة الصحافة. 
قلت له: الرفاعى كان يتعامل معك كمقاتل محترف. 
قال: كانت تعليماته لى أن أكون بجواره، كان يخاف علىّ فى الأول، وفى أول وتانى عملية كان يراقبنى ليرصد ردود فعلى، ومرة سألنى: إنت خايف؟ قلت له: كلنا بنخاف يا قومندان. 
كتب الشهيد إبراهيم الرفاعى تقريرًا عن العملية الأولى التى شارك فيها عبده مباشر، وهو التقرير الذى نشره مباشر فى مقدمة الكتاب، الذى أصدره عنه بعد ذلك، ولما سأله عن كتابته للتقرير، قال له: عندما أخرج معاش سأعمل صحفيًا معك، وسأنافسك على رئاسة القسم، الذى تعمل فيه. 
يقول مباشر: كان إبراهيم الرفاعى، الله يرحمه، قائد عظيم وملهم، أذكر أننا فى إحدى العمليات فى قاعدة الطور الجوية، عندما كنا نعبر خليج العقبة بالقوارب يكون هناك تشكيل معين نعبر به، يكون مثل رأس سهم، ويكون هناك قارب فى المقدمة، ونحدد بالضبط أين سننزل وإلى أين سنصل، أيا كان ارتفاع الموج أو اتجاهاته، وقبل أن نصل إلى الشرق قال لقائد القارب: انحرف شمالًا، المقدمة انحرفت شمالًا، ولما سألناه لم يرد علينا، لكننا بعد أن انتهينا من العملية عرفنا أننا لو كنا سرنا فى طريقنا العادى كنا سنقع فى كمين وينتهى أمرنا، وهنا تظهر نقطة الإلهام عند الرفاعى. 
تطوع عبد مباشر فى المجموعة ٣٩ كمدنى، وتم تكريمه ضمن صفوفها كمدنى أيضًا، يقول عن ذلك: عندما قرر الرئيس عبدالناصر تكريم المجموعة ٣٩ قالوا لى لابد أن تلبس كاكى، فقلت لهم: لن ألبس الكاكى.. أنا لم أحارب بالكاكى، كنت متطوعًا بصفتى المدنية وسأقف فى الطابور باللبس المدنى، فقالوا: يمكن أن ترتدى بدلة مدنية لونها كاكى، فقلت لهم: سأرتدى بدلة مدنية بكرافتى، فقالوا: البس على الكاكى كرافتة، فقلت: سوف ألبس مدنى مدنى. 
أصر مباشر على موقفه، فعرضوا الأمر على وزير الحربية محمد فوزى، فطلب منهم أن يكتبوا مذكرة ويعرضوها على الرئيس، وببساطة قال لهم عبدالناصر: أنتم قبلتم تطوعه باللبس المدنى، فمن حقه أن يقف فى طابور التكريم باللبس المدنى. 
حسم عبدالناصر الأمر، فحضر مباشر التكريم بالزى المدنى وهو يحمل على كتفه جهاز تسجيل. 
انتقلت بعبده مباشر إلى ما شهده من استعدادات لحرب أكتوبر التى كان قريبًا منها، قلت له: حدثنى عما سمعت ورأيت. 

حرب أكتوبر: ملحمة الانتصار وكيف يراها الذكاء الاصطناعي - موقع الشروق نيوز


قال: الرئيس السادات تولى السلطة يوم ١٦ أكتوبر ١٩٧٠، بعد ثلاثة أيام وفى يوم ١٩ أكتوبر رأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كل قائد من القادة وكل مدير إدارة عرض موقفه وموقف إدارته وموقف قواته من ناحية الإمكانيات والجاهزية، وفى آخر الاجتماع قال لهم: أنا أريد منكم خطة هجومية نقتحم بها القناة ونستولى على خط بارليف ونحرر ولو ١٠ سم من شرق القناة، وبعد ذلك تعمل السياسة. 
يؤكد مباشر: كانت هذه أول مرة يتم استخدام تعبير خطة هجومية، وقيل يوم ١٩ أكتوبر ١٩٧٠، معنى ذلك أن الرئيس السادات جاء ولديه فكرة كاملة عما سيقوم به، لأن الفكرة لم تستقر لديه فى ثلاثة أيام فقط، ولا كانت وليدة الاجتماع، فقد أمعن التفكير والدراسة والتحليل ووصل إلى قرار، وجاء ليضعه موضع التنفيذ، فطلب من القادة إعداد حطة هجومية، وعندما ننظر إلى ما جرى من أكتوبر ١٩٧٠ وحتى ١٩٨١ سنجد أن هذا ما حدث بالضبط.. نحرر ولو شبرًا من الأرض ثم تعمل السياسة. 
قلت له: كانت هذه هى الفكرة.. لكن ما الذى جرى.. كيف رصدت وراقبت التفاصيل؟ 
قال: لم يصدق القادة ما قاله السادات حتى وزير الحربية محمد فوزى، وقبل أن يركب السادات سيارته ويغادر مكان الاجتماع فى مدينة نصر أعطاه فوزى ورقة وأراده أن يوقع عليها، وكأنه أراد أن يكلفته، فقرأ السادات المكتوب سريعًا، ونظر إلى محمد فوزى وقال له: عاوز تجدد حرب الاستنزاف يا فوزى؟.
سألته: هل قال السادات ذلك لأننا كنا قد وقعنا على اتفاقية وقف إطلاق النار فى العام ١٩٦٩؟ 
قال: كانت فكرة فوزى غريبة، فأنت عندما تدخل فى حرب استنزاف لا تستطيع أن تغير وزير الحربية، يظل موجودًا، ولذلك استمر صراع السلطة حتى حسمه السادات فى مايو ١٩٧١ لصالحه، ومن هذه اللحظة بدأت القوات المسلحة فى إعداد الخطة الهجومية. 
قلت له: الصراع على السلطة أخرنا إذن من أكتوبر ٧٠ وحتى مايو ٧١؟ 
قال: هذا ما جرى بالفعل، فلم يكن أحد من القادة وعلى رأسهم وزير الحربية يصدق أن يكون هناك هجوم، ولذلك أرادوا تجديد حرب الاستنزاف. 

استوقفت عبده مباشر عند نقطة مفصلية. 
قلت له: فى ١٢ مارس ١٩٧١ كتب الأستاذ هيكل مقاله «تحية إلى الرجال» وأثار وقتها لغطًا وتفسيرات عديدة كان منها أنه يريد إشاعة الإحباط فى قلب الجنود، وهناك تفسيرات أخرى رأت أنه كان نوعًا من الخداع لجيش العدو.. وهناك من رأى أنه كان يخفف به الضغط على الرئيس السادات وسط مطالبات بالحرب.. كيف رأيت أنت هذا المقال وكنت قريبًا من كواليس ما يحدث؟ 
قال: أنا لى النص المكتوب، أما النوايا فيعلمها الله وحده، وقد كان هذا المقال فى غاية السوء، لقد كتب هيكل أن خط بارليف نسقان، وإذا عبرت النسق الأول فلن تعبر الثانى، يعنى لا تهاجم، وقد صنع المقال حالة من اليأس وإفراغ للروح المعنوية من مضمونها، وكان السؤال: هيكل لا يريدنا أن نحارب، فهل نفكك الجيش؟. 

حرب أكتوبر.. صراع الطلاب مع السادات يهزم إسرائيل - شبابيك


سألت مباشر: بحكم قربك من القادة العسكريين وقتها.. كيف كان رد فعلهم على مقال هيكل؟ 
بلا تردد قال: بعضهم أراد أن يقتله.. فليس منطقيًا أن تكتب مثل هذا الكلام فى مواجهة جيش يريد أن يحارب، وكان غريبًا جدا ما قاله، فمصر بعد ٦٧ أعلنت التحدى بعد ساعات وخاضت حرب الاستنزاف وكان ذلك من باب الأمل الذى كان وحده يحرك القوات المسلحة. 
أخذت مباشر من ١٩٧٣ إلى ٢٠١١ عندما كتب هيكل يشكك فى الضربة الجوية الأولى، معتبرا أنها كانت مجرد طلعة عادية.. مظاهرة عسكرية من ٦ طائرات. 
بغضب قال مباشر: هيكل فى فترة عبدالناصر كان هو الحاكم أو ظل الحاكم أو رأس الحاكم أو ذراعه اليمنى، وقد أراد أن يكرر الأمر مع السادات لأنه أدمنه بشكل كامل، فقدم قربانًا للسادات بكتابه «عبدالناصر والعالم» وهو الكتاب الذى أعتبره قربانًا قدمه هيكل للسادات، فعندما تقرأه ستجده وثيقة إدانة كاملة لعبدالناصر وعصره، ومن يريد أن يحاكمه يمكنه أن يذهب بهذا الكتاب إلى النائب العام. 
ذكرت عبده مباشر بمقال هيكل «عبدالناصر ليس أسطورة» الذى كتبه فى ذكرى أربعين جمال، فقال: هذا مجرد مقال، لكن القربان الأكبر كان فى كتابه «عبدالناصر والعالم»، وقد فهم السادات ما يريده هيكل، فاستخدمه حتى العام ١٩٧٤ ثم أخرجه من الأهرام بمفاجأة لهيكل نفسه، وعندما جاء مبارك حاول هيكل أن يكرر معه الأمر بعد خروجه من السجن، لكن مبارك أغلق الباب فى وجهه. 


ويروى لى مباشر أن مبارك كان قد قابل رئيس الطائفة الإسماعيلية، وعرف هيكل أن مبارك أعجب به، فتواصل معه، وقال له إنه يمكنه أن يتعاون معه حتى ينقل رأى مبارك ورأى مصر إلى العالم، لأن له تأثيرًا كبيرًا، يومها قال هيكل لمبارك يمكن أن تنسق مع أسامة الباز. 
وعندما تحدث هيكل مع أسامة الباز وجده يقول له: لا تتوقع أن يتصل بك مبارك أو يستعين بك فى شىء، لأنه يثق أكثر فى المجموعة القديمة التى عرفها وعمل معها.
كان مبارك لا يثق فى هيكل – هكذا يقول عبده مباشر – ولذلك لم يقربه منه. 
يقول مباشر: انتقم هيكل من السادات لأنه لم يقربه منه بل أبعده عنه بعنف وقسوة وإهانة، فأصدر «خريف الغضب»، وهو الكتاب الذى يمكن أن تقول إن ملخصه هو أن السادات أمه جارية، وعندما خرج مبارك من السلطة تحدث هيكل عن الضربة الجوية التى كانت بـ٢٢٠ طائرة، وقال إنها كانت مجرد مظاهرة عسكرية بـ٦ طائرات، لا لشىء إلا للانتقام من مبارك. 
وضعت ملف هيكل جانبًا، وسألت مباشر: بعين المراسل العسكرى، كيف استطاعت مصر أن تحول الهزيمة إلى انتصار؟
قال: لابد أن نعترف بأننا تعلمنا من إسرائيل، فانتقلنا من أهل الثقة إلى أهل الخبرة، فظهر نموذج عبدالمنعم رياض الذى أصبح رئيسًا لأركان الجيش المصرى، صحيح أنه استشهد، لكنه فعل ذلك بعد أن زرع الأمل، وأكد أن أصحاب الكفاءات يمكن أن يصلوا إلى أعلى المناصب ويكونوا أهلًا لها، ثم كان القرار الذى أخذه الرئيس السادات بجرأة وشجاعة فى ظل ظروف غير مواتية تمامًا. 
قلت له: كل الظروف كانت تقول إنه لن تكون هناك حرب. 
قال: بالفعل.. كان عندنا أسلحة فى المخازن خط ذخيرة ونصف، تكفى لحرب يوم ونصف فقط، الأسلحة التى تأتينا مرصودة، إسرائيل تعرف عنا كل شىء تقريبا، أصدر السادات أوامره بتقنين استخدام الذخيرة، فتغلبنا على نقصها، لكن إسرائيل كانت متفوقة كمًا ونوعًا وللتغلب على ذلك كان لابد من المفاجأة حتى أفقد إسرائيل تميزها. 
كانت خطة الخداع الاستراتيجى تقوم على المفاجأة استراتيجيًا وتعبويًا وتكتيكيًا. 
استراتيجيًا بمعنى ألا يعرف العدو أن لدى مصر نية للحرب، وقد أجاد السادات إخفاء نيته تمامًا. 
وتعبويًا فقد كانت الشائعات تؤكد أن هناك تسريحًا للجنود وإجازات للقادة. 
وتكتيكيًا إخفاء أن الحرب ستكون على جبهتين، وهو ما أربك إسرائيل عندما وجدت أنها تحارب على الجبهتين المصرية والسورية. 
كانت الخطة التى وضعها السادات تقتضى تدريب مجموعة من القادة الفلسطينيين ومجموعات المقاومة على قطع الطرق وتدمير الكبارى، وكان معهم ضابط اتصال فى بيروت وآخر فى دمشق، وأرسلت لهم مصر الذخائر المطلوبة. 

وفاة الكاتب الصحفي المصري البارز محمد حسنين هيكل - BBC News عربي
محمد حسنين هيكل


قبل أسبوع من المعركة، استدعى السادات ثلاثة من القادة الفلسطييين، هايل عبدالحميد «أبوالهول» وخليل الوزير «أبوجهاد» وصلاح خلف «أبوإياد» وطلب منهم أن يستعدوا لأن الحرب ستكون يوم ٦ أكتوبر. 
خرج الثلاثة من لقاء السادات واتجهوا إلى مكتب هيكل فى جريدة الأهرام، قالوا له: الراجل ده مش هيبطل جنان، ده بيقول إن الحرب يوم ٦ أكتوبر، فقال لهم هيكل: خدوا كلامه على محمل الجد هذه المرة، وعندما وصلوا إلى مطار بيروت بدأوا يتحدثون عما قاله لهم السادات. 
كان السادات يعرف أن المعلومات ستصل حتمًا إلى إسرائيل، فقام بعمليتين يشير عبده مباشر إلى أنهما كانتا خارج خطة القيادة العامة. 

 أشرف مروان قام بدور وطنى مائة فى المائة لكنه لم يتم من خلال الأجهزة وكان ما فعله من خلال السادات مباشرة
 

العملية الأولى بدأها عندما كان يحضر مؤتمر عدم الانحياز فى الجزائر، وطلب التواصل مع دبلوماسى فرنسى لتأجير قصر أو شقة كبيرة، لأنه سيقوم بإجراء جراحة كبيرة فى أول أكتوبر، كان السادات يريد أن يصل إلى إسرائيل خبر العملية الجراحية، التى لا يمكن أن يحارب فى ٦ أكتوبر وهو سيجريها يوم ١ أكتوبر. 
العملية الثانية كانت خاصة بأشرف مروان، طلب منه السادات أن يدخل على الإسرائيليين ويخبرهم بأن هناك منظمة ستخطف طائرة العال فى مطار باريس، كانت المعلومة صحيحة فوثقوا فى مروان، وأمده السادات بمعلومات أخرى حتى تأكد الإسرائيليون أنهم صيد ثمين، طلب منه السادات أن يحصل على ٢٥٠ ألف دولار فى الجلسة الواحدة التى يمنحهم فيها المعلومات، فاصل معه الإسرائيليون حتى وصل المبلغ إلى ١٥٠ ألف دولار. 
وصل أشرف مروان إلى لندن يوم ٥ أكتوبر، وأخبر رئيس الموساد بأن السادات سيحارب غدًا مساء، ففهم الإسرائيليون أن السادات سيبدأ المعركة مع آخر ضوء، لم يكذب عليهم مروان لكنه لم يحدد ساعة، وكانت هذه عملية خاصة جدًا أدارها السادات دون أن يعرف أحد عنها شيئًا. 

يذكر عبده مباشر أنه تواصل مع رئيس العمليات اللواء عبدالغنى الجمسى الساعة ١٢ ظهر يوم ٦ أكتوبر، ووجده يقول له: انتصرنا يا عبده، سأله مباشر: إزاى يا فندم، فأخبره بأن طالما أن إسرائيل لم تنفذ ضربة إجهاض قبل الساعة ١٢ ظهرًا ولم تقم بحرب وقائية قبل الساعة ١٢، فمعنى ذلك أنه سبق السيف العزل، ولن يستطيعوا منعنا من تحقيق الانتصار.
قلت لمباشر: اسمح لى أن نضع قضية أشرف مروان فى سياقها الصحيح، فما تقوله يعنى أنه كان عميلًا مصريًا مائة بالمائة؟ 
قال: أشرف مروان قام بدور وطنى مائة فى المائة، لكنه لم يتم من خلال الأجهزة، كان ما فعله من خلال الرئيس السادات مباشرة، دربه وأسهم فى تدريبه معه عبدالسلام المحجوب الذى كان وقتها رئيس الخدمة الخاصة، ويمكن علامات الاستفهام حول دوره بدأت لأنه لم يكن لدى الأجهزة علم بما جرى، ثم إن إسرائيل حاولت أن تروج له كجاسوس لها بسبب قيمته ومصاهرته للرئيس عبدالناصر، لكنه قيادة وطنية عظيمة وخاطر بحياته من أجل مهمة وطنية. 
كنت قررت أن أختم هذا الحوار مع عبده مباشر بمساحة خاصة جدًا، فسألته: كيف عرفت بخبر استشهاد إبراهيم الرفاعى؟. 
قال: عرفت الخبر تقريبًا فى لحظتها من أحد الجنود الذين كانوا بجواره، كان يعرف علاقتنا جيدًا، فبدأ بمقدمة طويلة حتى قال لى الخبر، كان الرفاعى داخل الثغرة يشرف على العمليات من فوق تبة دفاع جوى، فرصده الإسرائيليون وقتلوه، كان إبراهيم مكشوف لأنه كان بيتحرك بجهاز لاسلكى ويرسل توجيهات لمن معه. 
سألته: كيف استقبلت الخبر.. ماذا كان رد فعلك؟ 
قال: أول كلمة قلتها كانت فى الجنة يا إبراهيم، فكرت فى لحظتها أن موته أصبح واقعًا لكنه سيكون عند الله وسيحصل على ما يستحق، وهو ما ساعدنى على تجاوز الصدمة الكبيرة، لكن حزنى على الرفاعى سيظل إلى يوم يبعثون، فلم يكن بالنسبة لى قائدًا ملهمًا فقط، ولكنه كان صديقًا حقيقيًا. 
كانت الكلمة الأخيرة من عبده مباشر عن السادات، سألته: هل تعتقد أننا ظلمنا الرئيس السادات؟ 
قال: الذين عارضوا السادات وأشعلوا النار تحت قدميه بعد زيارته للقدس تسببوا فى اغتياله، وليت الأمر كان مجرد خلاف سياسى، لقد قاموا بتخوينه واتهامه بالعمل ضد مصلحة وطنه، لكن الآن تكشفت الأمور، وأصبح السادات هو الرئيس الذى حارب وانتصر، وهو الرئيس الذى حقق السلام وأعاد الأرض.