الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

كلنا مريدون.. فى تصحيح العلاقة بين الولى والأتباع

العدد الثامن والثلاثون
العدد الثامن والثلاثون

من هو شيخك؟ 

سؤال مؤكد أنك وجدت نفسك أمامه أكثر من مرة.. وهو أمر طبيعى فى مجتمع له مزاج خاص فى تديّنه، مزاج يتجاوز حدود الحلال والحرام.. ويقفز على القواعد.. ويفتقد فى كثير من تفاصيله إلى المنطق. 

فالمصريون يعرفون الله، يؤمنون برسله وكتبه جميعًا، يعتقدون اعتقادًا صحيحًا فى ملائكته، على يقين من الآخرة.. ينظرون للجنة على أنها حق وأن النار حق كذلك. 

المسلمون يقدسون الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويعشقونه، والمسيحيون يُنزلون يسوع المنزلة التى يستحقها. 

لكنهم جميعًا لا يترددون فى الالتفاف حول الأولياء والقديسين، دون أن يجدوا فى ذلك حرجًا ولا خدشًا لإيمانهم، بل يعتقد بعضهم أن الاعتصام بالأولياء والقديسين من تمام الدين وليس خروجًا عليه أو انتقاصًا منه. 

أليس الولى رجلًا رضى الله عنه، فنفحه من البركات والكرامات ما شهد له به الناس؟ 

أليس القديس رجلًا منحه الله من بركته ومعجزاته، وأعطاه من فضله حق الشفاعة؟ 

فما المانع أن يكون هؤلاء شفعاء لنا نتقرب بهم عند الله؟ 

ربما لهذا السبب يغلب على أغلبية المصريين المزاج الصوفى الذى يجد فى الارتماء فى أحضان الأولياء والقديسين والبكاء على أعتابهم والتماس عونهم ومددهم راحة نفسية لا تنفد وطاقة روحية لا تتبدد، ويعزفون عن المزاج السلفى الذى يحرّم الصلة بالأولياء والقديسين، ويصعّب الحياة فتستحيل إلى مهمة صعبة تشق الأنفس وترهق الأبدان وتجعل الأرواح تمل. 

ولذلك لم أتعجب وأنا أطالع كتاب «رسائل المصريين إلى الإمام الشافعى.. ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى»، وهى الدراسة السوسيولوجية التى أعدها عالم الاجتماع الكبير سيد عويس فى العام ١٩٦٤. 

طَرَق سيد عويس باب الأزهر، طلب منه الإذن والسماح ليطّلع على مجموعة الرسائل التى يتركها المصريون فى ضريح الإمام الشافعى، وبالفعل حصل على ١٦٣ رسالة أخضعها للبحث والدراسة والتأمل أيضًا. 

حصل سيد عويس على ١٦٣ رسالة ألقى بها المصريون فى ضريح الإمام الشافعى يطلبون منه عبرها العون، وعندما قام بتحليل هذه الرسائل توصل إلى نتيجة مهمة، وهى أن الإمام الشافعى ورغم مرور ما يزيد على ١٥٠٠ سنة على وفاته، إلا أنه لا يزال بالنسبة للمصريين شخصًا حيًا يخلعون عليه كثيرًا من صفات الإجلال والتعظيم، فهو صاحب سلطان ملهم، وذو بصيرة يخترق من خلالها الحُجب والأستار، كما أنه مؤتمن على أسرارهم وقادر على تحقيق الكثير من المعجزات. 

عندما نقرأ الرسائل التى حصل عليها سيد عويس سنجد أن شكاوى المصريين وطلباتهم للإمام الشافعى بسيطة حد العجب والدهشة. 

فالشكاوى تتلخص فى بعض المنازعات الأسرية والاجتماعية التى تخلف وراءها مظالم قاسية، فهذا فلاح يتعرض للسرقة أو النصب أو الاعتداء، وهذا مزارع يسرق مجهول منه بقرته، وهذه امرأة يضطهدها زوجها، وهذا صنايعى يهدده صاحب عمله بالطرد والتشريد وقطع لقمة عيشه، وجميعهم لا يطلبون من الإمام الشافعى إلا التدخل بسلطته المطلقة ليعيد لهم حقوقهم، فقد تعطلت لديهم أسباب الأرض الواقعية، فذهبوا يبحثون عن أسباب غيبية افتراضية، علها تكون قادرة على إنقاذهم. 

كان الحرمان هو الذى يسيطر على زبائن الإمام الشافعى، ولذلك تركزت طلباتهم فى تحقيق العدل ورفع الظلم والانتقام من الأعداء والشفاء من الأمراض والإنجاب لمن لم ينعم الله عليهم بذلك وإعادة الغائبين إلى أهلهم وبيوتهم. 

طاحونة البابا كيرلس السادس

الأمر نفسه وجدته- بعد سنوات من مطالعتى دراسة سيد عويس- فى طاحونة البابا كيرلس السادس بمصر القديمة عندما زرتها، فقد وجدت مئات الرسائل التى يرسل بها المصريون إلى البابا كيرلس، وقد حصلت على بعضها وقمت بنشرها. 

ما لفت انتباهى فى الرسائل المرسلة إلى الإمام الشافعى والبابا كيرلس السادس أنها لا تقتصر على المسلمين وحدهم فى حالة الشافعى أو على المسيحيين فى حالة كيرلس السادس، فالمصريون جميعًا، مسلمين ومسيحيين، لا يترددون فى مخاطبة من يعتقدون فى قربهم من الله مهما كانت دياناتهم. 

وهو ما يجعلنا نقف على استعانة المصريين بالأولياء والقديسين. 

فليس مهمًا أن يكون المقصود مسلمًا أو مسيحيًا، المهم فقط هو أن يكون قادرًا على الاستجابة للشكوى أو تلبية الطلب، وقد جعلنى ذلك أتعامل مع العلاقة التى تربط المصريين بالأولياء والقديسين على أنها علاقة براجماتية بحتة فى الجانب الأكبر منها. 

فإذا استجاب الولى أو القديس وتحقق للمصريين ما يريدون يتجدد الإيمان ويتأكد اليقين بهما، وإذا لم يستجب الولى أو القديس يتحول الإيمان إلى شك وتشكك وربما إلى نفور أيضًا، لكن لا يتم الجهر بهذه الحالة اعتقادًا من المصريين بأن النقص منهم وفيهم، وليس فى الولى أو القديس. 

يرفض المصريون وصفهم بالشرك أو بأنهم قبوريون بسبب علاقتهم بالأولياء والقديسين والصلاة فى أضرحتهم والدعاء فيها والتبرك بها، يتمسكون بأن ما يفعلونه من إيمانهم الكامل بالله، فهو من اختار هؤلاء واصطفاهم من بين عباده، فهم بالنسبة لهم أسباب، والله أمرنا أن نأخذ بالأسباب. 

الأمر يختلف عند الحديث عن الأولياء والقديسين الذين لا يزالون على قيد الحياة، يعيشون بيننا، يتفاعلون مع الحياة كما نتفاعل، تحاصرهم نفس مشاكل وهموم وصعوبات المجتمع الذى يتعامل مع الجميع بطريقة واحدة لا تمييز فيها ولا انحياز لأحد.. فلا فرق بين ولى ومريد. 

والسؤال: هل يعيش الأولياء على الأرض؟ وهل يختلط القديسون بالناس؟ أم أن الموت هو من يحولهم إلى أولياء وقديسين بعد أن تنقطع أسبابهم بالدنيا، ويصبحون خارج الحسابات الدنيوية، فتظل أعمالهم الحسنة هى ما يذكره الناس عنهم، وتظل سيرتهم هى التى تؤكد أنهم كانوا يسيرون على الطريق الصحيح، وكونهم أصبحوا فى معية الله، فذلك ما يؤهلهم إلى أن يلعبوا دورًا غيبيًا فى حياة من يجعلون من أنفسهم مريدين لهم؟ 

يقينى أن الأولياء لا يعيشون على الأرض، والقديسين لا يخالطون الناس. 

وإذا قلت لى معترضًا إن فى الحياة أولياء وقديسين يلتف حولهم الناس، يلتمسون منهم البركة ويطلبون منهم العون. 

سأقول لك: الأمر على هذه الصورة يحتاج إلى بعض التصحيح ووضع الأمور فى سياقها الصحيح. 

فما يحدث فعلًا أنه يمكن أن يكون هناك مُعلم يلتف حوله من يريدون التعلم، والمعلم هنا ليس فقط من يمد الناس بالعلم، ولكنه قد يكون مرشدًا روحيًا يستطيع بما لديه من علم وخبرة وقدرة على معرفة النفس البشرية أن يلعب دورًا فى حياة من يتعلمون على يديه، لكن ليس معنى ذلك أن يتحول إلى ولى يستحق التقديس نسير خلفه بلا عقل ولا منطق ولا مراجعة. 

كتاب الحكايات عن الأولياء ومشايخ الطرق الصوفية تحديدًا زاخر بالقصص التى نسمع عنها فنتعجب، ووجه العجب أراه فى حالة الانسحاق التى يبديها المريدون بين يدى وليهم، فهم لا يسمعون لما يقوله فقط، فيعرضونه على عقولهم وقلوبهم، فيأخذون منه ما ينفعهم ويستبعدون ما لا يتوافق معهم، ولكنهم يستسلمون استسلامًا كاملًا لما يقوله من يتوافقون على أنه ولى. 

يلتمس بعض المشتغلين بعلم النفس وعلم الاجتماع فى نقص الثقافة والعلم والتعلم فيمن يسيرون خلف الأولياء وشيوخ الطرق، ويعتبرون ذلك سببًا من أسباب الانسحاق تحت أقدامهم. 

لكنهم يقفون بحيرة أمام من يتبعون هؤلاء الأولياء من المثقفين والمفكرين والفنانين وربما بعض الفلاسفة، بل ويجلسون بين أيديهم مجردين من كل ما لديهم من علم ومعرفة وخبرة وقدرة على فهم الحياة. 

يمكنك بسهولة أن تفسر خضوع كاملى الثقافة والعلم والتعلم لبعض الأولياء بأنه فى الغالب احتياج نفسى، فرغم ما حصّلوه من علم وحصدوه من خبرة وتجارب، إلا أن هناك نقصًا ما فى حياتهم، نقصًا يدركون أن هناك قوة غيبية مطلقة لا يقيدها شىء هى القادرة على إكماله، وهذه القوة يملكها هؤلاء فيقصدونهم. 

وإذا سألت مثقفًا كبيرًا أو كاتبًا متحققًا أو فنانًا شهيرًا أو أستاذ جامعة يصيغ حياة آلاف من الطلاب عن سبب ارتباطهم بالمشايخ والأولياء، فلن تجد فى الغالب إجابة منطقية.. فلدى كل منهم سبب يخصه، وليس ضروريًا أن يكون هذا السبب مقنعًا للآخرين. 

إننا نعيش حياة صعبة ومعقدة ومتشابكة، كثير منها غير مفهوم، وأغلب مشكلاتها عصية على الفهم. من وضع نظام الكون اختار أن يضع القواعد التى تنظمه ولم يطلعنا على مقاصده منها، وعندما نعجز عن فهم هذه القواعد أو دوافع الله من وضعها نستسلم لمن نعتقد أن لديه بعضًا من أسرار هذه القواعد. 

لا أنكر أننا جميعًا مريدون بشكل أو بآخر، وليس شرطًا أن يكون الولى لكل منا شخصًا بعينه، عالمًا أو شيخ طريقة، فقد يكون وليك مكانًا تحبه، فترة زمنية تحن إليها، فكرة تعتقد فيها، محبوبًا لا يفارقك فى صحوك أو منامك، عملًا روائيًا أثّر فى حياتك وصاغك صياغة جديدة، قصيدة شعر أعادت ترتيب مشاعرك من جديد، قاتلًا متسلسلًا ترى فيما يفعله منطقًا خاصًا يعجبك.. وقد يكون طيفًا يخايلك لا تستطع الهروب منه. 

وللناس فيما يريدون مذاهب. 

لكن ما يجب أن نتوقف عنده هو وضع العلاقة بين الولى والمريد فى حجمها وسياقها الصحيح، حتى لا تتحول إلى كارثة تهدد حياتنا، وتحيل ما حصلنا عليه إلى رماد يطاردنا غباره، دون أن نقدر على دفعه. 

لقد انشغل الناس بقصة شيخ الطريقة الذى اتهمته بعض الفتيات اتهامات أخلاقية، وعلقوا فى رقبته أفعالًا لا يستوعب المجتمع أن تصدر من شيخ يصدر نفسه إلى الناس كولى من أولياء الله الصالحين، رغم أن التاريخ يخبرنا بأن الأمر طبيعى ومتكرر ولا جديد فيه على الإطلاق. 

وأعتقد أن هذه الاتهامات- إن صحت- فهى أهون ما فى الأمر، فنحن أمام بشر ليس معصومًا من شىء، حتى لو تخيل أتباعه ومريدوه أنه كذلك، ومن غير المستبعد أن تنزلق قدماه فى مستنقع إنسانى، فلا يوجد شىء بعيد عن تعقيدات النفس البشرية وتشابكاتها ورغباتها وغرائزها الحاكمة والمسيطرة. 

لكن ما يستوعبه كثيرون، ولهم الحق فى ذلك، كان انسحاق العقل أمام الخرافة، استسلام المنطق فى مواجهة الادعاء بالوصول إلى مراقى الروح والشفافية المطلقة التى لا يمن الله بها إلا على القليلين من عباده. 

المشكلة التى وقع فيها العقلاء ممن اتبعوا الشيخ الذى قد يكون صاحب علم ولا يمكن أن نزكيه على الله، فقد يكون مؤمنًا تقيًا نقيًا وقد يكون غير ذلك تمامًا- فهذا أمر يخصه وحده ولا شأن لنا به- أنهم اعتبروه الدين، أو نظروا إليه على أنه التصوف، رغم أنه لا يمثل إلا نفسه ولا يعبر إلا عن تجربته. 

الصدمة كانت كبيرة لأن هناك من اعتبر أن من يدّعى أنه شيخ طريقة هو الطريقة، ومن يقول إنه صوفى أنه الصوفية، ومن يحاول الترويج لنفسه على أنه رجل دين أنه الدين نفسه، وهو ما ليس صحيحًا بالمرة. 

أعتقد أننا لو وصلنا إلى هذه القناعة، قناعة أن كل إنسان لا يمثل إلا نفسه، فرجل الدين ليس حجة على الدين، والصوفى ليس حجة على التصوف، وشيخ الطريقة ليس حجة على الطريقة- فلن يكون هناك شىء غريب أو مدهش أو مفاجئ، كما أننا سنحمى أنفسنا من حالة الاستسلام المريبة التى يبديها البعض بين أيدى من ننظر لهم على أنهم أولياء.

قناعتى أن كل المريدين صادقون.. لكن ليس كل الأولياء كذلك. 

وهى حقيقة لو عملنا بها فسيخلص لنا وجه الدين كله.. لا فرق فى ذلك بين دين سلفى أو دين صوفى أو حتى دين مجرد بلا صوفية أو سلفية.