الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

كشف ثقافى تاريخى عمره 80 عامًا

أم كلثوم عصر الصحابة.. حقيقة تلحين الأغانى والحفلات الموسيقية فى المدينة

حرف

- استمع الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى بعض المطربات والمطربين ومنهن حمامة وأنجشة

- أذن عمر لرباح بن المعترف بأن يغنى لأصحابه الذين كانوا معه فى طريقه إلى الحج ليقصر عنهم الطريق والمسير

- الحفنى ينفى عن عمر- رضى الله عنه- أن يكون قام بتلحين أغنية ولا يثبت ذلك ولا يثبته لعمر بن عبدالعزيز

- كانت ميلاء– -كأم كلثوم تمامًا-  تقيم مجلس غنائها فى المدينة المنورة كل أول شهر

فى العام 2013 صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتاب للملحن والمؤرخ الموسيقى والكاتب الصحفى محمد قابيل عنوانه: «هل الموسيقى حرام؟». 

تناولت الكتاب وقتها بالعرض، وأخذت عليه عنوانه، فمسألة الموسيقى والغناء والفن أصبحت محسومة، بحيث يصبح سؤال من هذه النوعية خارجًا عن المألوف، لكننى التمست العذر لمحمد قابيل لأننا واجهنا طويلًا قومًا من غير الأسوياء نفسيًا، أجبرونا على النقاش الطويل حول حرمة الموسيقى وفسوق من يسمعها، وحرمة الغناء وتخنث من يستمع إليه. 

رأيت وقتها أنه من المفروض أن يكون عنوان الكتاب واضحًا وصريحًا ومباشرًا وحاسمًا، وهو أن الموسيقى ليست حرامًا، لكن الفكرة لا تزال مترددة، واليد لا تزال مرتعشة، خاصة أن البحث المميز الذى قدمه محمد قابيل فى كتابه يؤكد بالأدلة الشرعية أن الموسيقى ليست حرامًا على الإطلاق. 

من بين ما توقفت أمامه يومها ما ذكره محمد قابيل عن المتقشف الزاهد المجاهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقد أورد أنه كان محبًا للغناء بالصوت الجميل. 

دلل محمد قابيل على ما ذهب إليه بخصوص الخليفة الثانى، فأورد أن عمر بن الخطاب مر بدار قوم فسمع ضجة، فقال: ما ذلك؟ فقيل له: إنه عرس، فقال: وما يمنعهم أن يخرجوا بغرابيلهم فإنها أمارة العرس «والغربال نوع من الدفوف كان يستخدم فى البادية فى فجر الإسلام». 

ومن بين ما أورده أيضًا أن عمر أذن لرباح المعترف أن يغنى لأصحابه الذين كانوا معه فى طريقهم إلى الحج ليقصر عليهم الطريق والسير، ويسهل صعوبة الصحراء المقفرة، وغنى رباح للحجيج، ومن بينهم كثير من الصحابة والتابعين والأنصار. 

ويؤكد محمد قابيل أن عمر لم يكن راضيًا عن الموسيقى فحسب، بل كان من ذوى الرأى والتميز فيها، ولم يكن، رضى الله عنه، يكره الموسيقى، لكنه كان يكره المخنث منها. 

كانت فى كتاب قابيل مفاجأة كبرى، فقد قال: إن هناك من ينسب إلى عمر بن الخطاب أنه لحن أغنية بنفسه، وهو ما ذكره الدكتور محمود أحمد الحفنى فى مقال نشر فى المجلة الموسيقية عام ١٩٢٣ العدد ١٢ بعنوان: «عمر بن الخطاب فى الموسيقى». 

كانت المفاجأة التى كشف عنها محمد قابيل صادمة ومدوية، وهو ما دعانى لأن أقول: انتظرت من الأستاذ محمد قابيل أن يبحث عن مقال الدكتور الحفنى ويعيد نشره كاملًا فى كتابه، لكن يبدو أنه اكتفى بالمعلومة التى لديه، وأعتقد أن البحث عن هذا المقال وإعادة نشره سيكونان مفيدين جدًا للتأكيد أن كبار الصحابة، وتحديدًا عمر بن الخطاب لم يكونوا ضد الموسيقى والغناء، وأن الحديث عن أن عمر بن الخطاب كان يكره الغناء ولا يرحب به لم يكن إلا من باب النصب الدينى ليس إلا. 

منذ سنوات وما ذكره محمد قابيل عالق فى ذهنى لم يغادره، وأعترف بأننى تكاسلت كثيرًا فى البحث عن المقال، كما أن وسائل البحث فى الأرشيف الصحفى لم تكن على ما أصبحت عليه الآن، لكننى وبعد هذه السنوات وجدت ما تكاسل قابيل عن البحث عنه، وما تغافلت أنا عنه كثيرًا. 

لم يكن ما ذكره محمد قابيل عن مقال الدكتور محمود أحمد الحفنى صحيحًا بدرجة ما. 

فالمقال لم ينشر فى المجلة الموسيقية، ولا أعرف من أين حصل على هذه المعلومة، فمجلة «الموسيقى»، وهكذا كان اسمها وليس المجلة الموسيقية صدر أول أعدادها فى ١٦ مايو فى العام ١٩٣٥، وكانت ترجمة لتوصيات مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذى عقد سنة ١٩٣٢، وكان وقتها حدثًا مدويًا، وعليه فليس منطقيًا ولا صحيحًا أن يكون الدكتور الحفنى قد نشر مقالًا فى مجلة لم تصدر بعد. 

محمد قابيل

مجلة «الموسيقى» التى أسسها ورأس تحريرها الدكتور محمود الحفنى «١٨٩٥ –١٩٧٣» كانت حدثًا مهمًا فى حد ذاتها، فقد عنيت بمعالجة كل نواحى وموضوعات الموسيقى، كالتاريخ الموسيقى، وعلاقة الموسيقى بالفنون الجميلة والعلوم والبحوث الفنية فى المقامات والضروب والسلم والآلآت، وعلم الموسيقى المقارنة، والموسيقى وعلم النفس، وأدب الموسيقى وفلسفتها، والتعليم الموسيقى وما يتصل به من التربية، وتسجيل القيم من الأغانى والأناشيد والموسيقى القديمة والجديدة بالتدوين الموسيقى «النوتة» والشعر الغنائى والموسيقى المسرحية والوصفية، والنوادر والفكاهات الموسيقية والإذاعية. 

اعتبر الحفنى مجلته كما قال هو موسوعة ثقافية وأدبية وعلمية وموردًا عذبًا سائغًا ينتجعه كل مثقف وكل عالم وكل متأدب، شيخًا وكهلًا وشابًا وناشئًا. 

فى العام ٢٠٠٧ احتفلت مصر باليوبيل الماسى لمؤتمر الموسيقى العربية الأول، الذى كان الدكتور محمود الحفنى فى قلبه والمحرك الأساسى له. 

كان من بين حضور هذا المؤتمر والمشاركين الأساسيين فيه الدكتور جابر عصفور الذى كان وقتها أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة، والذى كتب مقالًا مهمًا عن المؤتمر وعن بطله الأساسى الدكتور الحفنى فى مجلة العربى الكويتية فى عدد يونيو ٢٠٠٧. 

فى مقاله يقول الدكتور جابر عصفور عن الدكتور محمود أحمد الحفنى- وهو بالمناسبة والد الدكتورة رتيبة الحفنى- إن الموسيقى فى العالم العربى تدين له، باعتباره الرائد الذى حصل على أولى درجات الدكتوراه فيها من برلين، والذى عمل جاهدًا لانعقاد مؤتمر الموسيقى العربية الأول وكان سكرتيره، كما كان مفتشًا للموسيقى بوزارة المعارف العمومية وقت انعقاد المؤتمر، وقام بإعداد الكتاب التذكارى الذى يقوم بالتوثيق الكامل للمؤتمر، فى مجلد ضخم أصدرته المطبعة الأميرية سنة ١٩٣٣ فى حوالى ٥٠٠ صفحة من القطع الكبير. 

وأنا أفتش فى أرشيف المجلات العربية، توقفت عند مجلة الهلال فى عددها الصادر فى نوفمبر ١٩٤٣، فقد كان من بين مقالاتها مقال بعنوان: «عمر والموسيقى»، وكان هو نفسه المقال الذى أشار إليه محمد قابيل فى كتابه ولم يقدم لنا نصه، ولم يكن فى المجلة الموسيقية كما ذكر. 

بعنوان فرعى نصه «لقد نهضت الموسيقى فى عهد عمر» قدم الدكتور الحفنى الذى تم تعريفه بأنه مدير إدارة التفتيش الموسيقى بوزارة المعارف لمقاله. 

بدأ الحفنى مقاله بقوله: قد يدهش لهذا العنوان قراء السيرة عامة، والملمون بحياة عمر بن الخطاب رضى الله عنه خاصة، ووجه الدهشة فى هذا العنوان أن تلتصق الموسيقى بعمر بن الخطاب، فيكاد يخيل للقراء من هذا العنوان أنه موسيقى أو أنه على الأقل شغل نفسه بالموسيقى، وهو ذلك المتقشف الزاهد، البالغ فى التقشف والزهد غاية ما تصل إليه القسوة من حرمان النفس وكبح شهواتها، وهو كذلك المجاهد الفاتح الذى لازم الغزو والفتح الإسلامى أيام حياته وعلى الأخص أيام خلافته. 

يشرح الحفنى طبيعة عمر بن الخطاب التى نعرفها جميعًا لكنه يبدأ فى تفكيكها، يقول عنها: طبيعة التقشف والجهاد تقتضى ولا ريب الانقطاع عن ملذات الحياة ومسرات النفس والتفرغ إلى وسائل النجاح والغلبة فيها، ولكن هذه الطبيعة التى تقتضى الانقطاع والتفرغ لشئونها ووسائلها، تستلزم أيضًا الترفيه عن النفوس كلما حزب الأمر واشتد نصب النضال، وفاض بالمجاهدين كرب الحرب والسجال، ومنها استنبطت أغانى الحروب، بل وحداء الإبل تخفيفًا من ويلات الأولى وترويحًا لمتاعب الثانية. 

ويعود الحفنى إلى عمر بن الخطاب مرة أخرى، فيقول عنه: كان شديدًا فى جاهليته، شديدًا فى إسلامه، حتى لقد كان يخافه كل مبطل، ويخشاه كل منافق، بل لقد ملأت خشيته قلوب المسلمين جميعًا فهابوه لفرط استقامته، وشدة جرأته فى الحق، ومضاء عزيمته فى الإيمان، وغلوه فى الأخذ بناصية المستهترين، ولقد تجلى أثر هذه الخشية والخوف يوم نذرت جارية من قريش لئن رد الله الرسول من غزوه لتضربن فى بيت عائشة بدف، فلما رجع الرسول الكريم جاءت الجارية تريد أن تفى بوعدها، فذهبت عائشة- رضى الله عنها- لرسول الله تخبره، قالت إن فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردك الله تعالى أن تضرب فى بيتى بدف، فقال لها الرسول صلى الله عيله وسلم: فلتضرب. 

لا يحكى لنا الحفنى عما فعله عمر، ولكنه فضل أن يترك الساحة لبيان شاعر النيل الأكبر المرحوم حافظ إبراهيم بك الذى وصف الموقف فى قصيدته العمرية الشهيرة، التى اقتطع منها الأبيات التالية: 

أرايت تلك التى لله قد نذرت

أنشودة لرسول الله تهديها. 

قالت نذرت لئن عاد النبى لنا

من غزوه لعلى دفى أغنيها. 

ويممت حضرة الهادى وقد ملأت

أنوار طلعته أرجاء ناديها. 

واستأذنت ومشت بالدف واندفعت

تشجى بألحانها ما شاء مشجيها. 

والمصطفى وأبو بكر بجانبه

لا ينكران عليها من أغانيها. 

حتى إذا لاح من بعد لها عمر

خارت قواها وكاد الخوف يرديها 

وخبأت دفها فى ثوبها فرقا منه

وودت لو أن الأرض تطويها 

قد كان حلم رسول الله يؤنسها

فجاء بطش أبى حفص يخشيها 

فقال مهبط وحى الله مبتسمًا

وفى ابتسامته معنى يواسيها 

قد فر شيطانها لما رأى عمر

إن الشياطين تخشى بأس خازيها

لم يبحث الحفنى عن رواية يقول لنا من خلالها ما الذى فعله عمر، لكنه اكتفى بأبيات حافظ إبراهيم، لكنه يعود ليفسر لنا ما جرى على ضوء الواقعة. 

محمود الحفنى

يقول: قد يقع فى بعض الأذهان أن هذا الخوف الذى كاد يردى هذه الجارية لرؤيتها عمر أثناء تغنيها أمام الرسول وأبو بكر بجانبه، منشأه كراهية عمر للموسيقى أو تحريمه لها، أو أنه يرى فيها ما يمس العقيدة والإيمان، لأن العقل والمنطق والاعتدال فى الحكم، كل أولئك يقضى بأن عمر يستحيل عليه أن يكره شيئًا لم ينكره رسول الله، ولا يحرم شيئًا أباحه رسول الله، إنما الخوف كما قدمنا ناشئ مما وهب الله به عمر من الهيبة والجلالة، ومما اشتهر به من الشدة فى جاهليته وإسلامه. 

وحتى يدلل الحفنى على وجهة نظره فيما يراه من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الموسيقى والغناء، يضع بين أيدينا بعض المرويات عن مواقفه المثبتة فى كتب الصحاح. 

فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على زوجته أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها، وهى تزف جارية لها من الأنصار فقال لها: يا عائشة ألا تبعثين معها من يغنى..فإن أهل هذا الحى من الأنصار يحبون الغناء؟ 

وقد امتدح صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعرى، حيث قال: لقد أعطى مزمارًا من مزامير آل داود. 

وتناقل الرواة والثقات من أنه صلى الله عليه وسلم تغنى بالقرآن، وأذن لبلال بن رباح الحبشى فى الأذان بصوته الجميل. 

ويسأل الحفنى: كان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يعرفون هذا حق المعرفة، فهل من المعقول أن يجهله أخص أخصائه، وأحب المقربين إليه كأبى بكر وعمر؟ 

ويجيب على سؤاله: الحق الذى لا مرية فيه أن عمر- رضى الله عنه- كان يعرف ذلك، مدركًا له كل الإدراك، ملمًا به كل الإلمام، مقدرًا له كل التقدير، محبًا للغناء بالصوت الجميل، فقد مر بدار قوم فسمع ضجة فقال: ما هو؟ فقيل: عرس، فقال: وما يمنعهم أن يخرجوا غرابيلهم فإنها من أمارة العرس، وإذا علم أن الغربال ضرب من الدفوف كان يستعمل فى موسيقى الجاهلية وفجر الإسلام، فقد ندرك على التحقيق رضاء عمر عن الموسيقى والغناء، وعدم التحرج من سماعهما. 

ولقد أذن- رضى الله عنه- لرباح بن المعترف بأن يغنى لأصحابه الذين كانوا معه فى طريقه إلى الحج ليقصر عنهم الطريق والمسير، ويسهل صعوبة سبيل الصحراء المقفرة، وقد غنى رباح بإذن عمر للحجيج وهم محرمون، وكان من بينهم كثير من الصحابة والتابعين والأنصار. 

ويصل الحفنى إلى رأى قاطع فيما كان عليه عمر رضى الله عنه فيقول: ما كان راضيًا عن الموسيقى والغناء فحسب، بل كان أيضًا من ذوى الرأى والتمييز فيهما، وأحسبنى غير مسرف فى هذا. 

فقد حدث عبدالله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبدالله بن عمر، قال: مر بنا عمر بن الخطاب، أنا وعاصم ابن عمر، وكان مشغوفًا بالغناء، نغنى غناء النصب، فقال: أعيدا على، فأعدنا عليه، فقال لهما مازحًا: أنتما كحمارى العبادى، قيل له: أى حماريك شر؟ قال: ذا ثم ذا. 

يعتقد الحفنى أن هذا وحده ينطق بالذوق الموسيقى لدى عمر. 

يقول: وأحسبنى أيضًا غير مسرف إن قلت إن هذا الذوق الموسيقى يناسب نشأة عمر وسيرة حياته، فقد روى صاحب العقد الفريد أن عمر بن الخطاب قال للنابغة الجعدى: أسمعنى بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك، فأسمعه كلمة له، قال: وإنك لقائلها؟ قال: نعم، قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب. 

يتوقف الحفنى أمام هذه الرواية قليلًا، ويفهم منها أن الغناء لدى عمر كان صنفين: 

صنفًا يعفو الله عنه، وصنفًا لا يعفو الله عنه، وهو تعبير دقيق يدل بأجلى بيان على أدب عمر وجمال ذوقه ورهافة حسه، وما من ريب فى أن كثيرًا من الأغانى التى تداولتها العصور المختلفة تدخل فيما لا يعفو الله عنه، لأنها أبعد ما يكون عن الحمية والفضيلة والنجدة وتشجيع الخلق الكريم، وتزويد الشعوب بأرقى صفات الرجولة، وحسبنا ما نشكو منه الآن. 

إذن لم يكن عمر- فى رأى الحفنى - ليكره الموسيقى إطلاقًا، إنما كان يكره منها المخنث الذى يبعد الشعب عن الجهاد الخشن، ويسلمه إلى الرفاهية والتواكل، وما كان ذلك من طبيعة الإسلام ولا من خلق عمر. 

وهنا يحدثنا ابن الفقيه الهمذانى أن عمر سمع مرة قينات يضربن بالدفوف ويتغنين بما لا يعفو الله عنه، فكان نصيبهن منه قسوة التأنيب والقرع بالعصا. 

ونصل مع الحفنى إلى القضية التى أثارها محمد قابيل، وهى أن هناك من نسب إلى عمر- رضى الله عنه- أنه قام بتلحين أغنية، فالحفنى يرى أن بعض ذوى الآراء غالوا فنسبوا إلى عمر أنه لحن أغنية، والمغالاة فى هذا الرأى بينة، بل ويترجح الشك فيها. 

لكنه لا يترك هذا الرأى دون أن يضع حوله هامشًا مهمًا، يقول: وأكبر الظن أن يكون الأمر قد اختلط على أصحاب هذه القولة بين عمر الأول وهو ابن الخطاب وعمر الثانى وهو ابن عبدالعزيز، نظرًا لما عرف عن ابن عبدالعزيز من ميله للغناء والشعر، وإن كنا نستبعد عليه أيضًا صفة التلحين. 

الواقع أن الحفنى ينفى عن عمر- رضى الله عنه- أن يكون قام بتلحين أغنية ولا يثبت ذلك، ولا يثبته لعمر بن عبدالعزيز، بل يرجح ذلك دون أن يكون لديه دليل عليه، لكنه يظل متمسكًا بأن عمر كان يمتلك حسًا مرهفًا ويميل إلى الصوت الجميل. 

ويؤكد ذلك من خلال الذين يستشهدون على إباحة ترتيل القرآن وتلاوته بصوت، ويثبت ما تحدث به ابن أبى ذئب عن مسلم بن جندب عن نوفل بن إياس الهذلى الذى قال: كنا نقوم فى عهد عمر بن الخطاب فرقًا فى المسجد فى رمضان، ها هنا وها هنا، فكان الناس يميلون إلى أحسنهم صوتًا، فقال عمر: أما والله لئن استطعت لأغيرن هذا، قال فلم يمكث إلا ثلاث ليال حتى أمر أبى بن كعب فصلى بهم ثم قام فى آخر الصفوف، فقال: لئن كانت هذه بدعة لنعمت البدعة. 

وقد يسأل سائل: إن كان هذا ميل عمر وحبه للغناء، حتى لقد تغنى بنفسه خلف بعران الخطاب، وحتى لقد اتهم بالتلحين، فلماذا لم تزدهر أيامه بالموسيقى والغناء، ولماذا لم يشجع المغنين والموسيقيين؟ 

يجيب الحفنى: هذا سؤال يرده أن عصر عمر كان عصر جهاد اشتغل المسلمون جميعًا فيه بالفتح والغزو وبث الدعوة الدينية، وما يتصل بها من العلوم، وفى البلاد المغزوة والمدائن المفتوحة، فما كان لعمر أن يغفل الجهاد فى سبيل الله، ويؤثر عليه الاشتغال بمرافه الحياة، وهو نفسه يكره هذه المرافه، ويقتنع بالنذر اليسير من القوت الجاف. 

ينتقل بنا الحفنى نقلة مهمة، ويضع أمامنا مفاجأة جديدة، فهو يرى أن الموسيقى شبت وترعرعت فى أيام عمر، واقتحمت منازل الأمراء والأشراف، وسايرت مجالس الشعر والأدب، فما كاد يهل عصر عثمان- رضى الله عنه- حتى سجلت أخبار المدينة أن رائقة المغنية المشهورة وتلميذتها الفتية عزة الميلاء وغيرهما، كن يحيين فيها حفلات موسيقية رائعة يحضرها أشراف القوم وفنانوهم، وعلى رأسهم حسان بن ثابت رضى الله عنه. 

تركت مقال الحفنى جانبًا ورحت أبحث عن مغنيات عصر الصحابة، وقد ذكر منهن رائقة وعزة الميلاء. 

لم أجد كثيرًا عن رائقة- اسمها الصحيح رائعة- وهى التى علمت عزة الميلاء التى كانت أشهر المغنيات فى عصر عثمان بن عفان، وهناك من يطلق عليها من المؤرخين أنها كانت أم كلثوم عصر الصحابة. 

طبقًا لكتابات عديدة منها مقال مهم لمحمد حبش كتبه فى يونيو ٢٠٢١ فإن عزة الميلاء كانت جارية لدى أروى بنت كريز أم عثمان بن عفان، وهناك من يؤكد أنها كانت جارية لدى حسان بن ثابت. 

كانت ميلاء– كأم كلثوم تمامًا– تقيم مجلس غنائها فى المدينة المنورة كل أول شهر، فتغنى الجديد من كلام العرب، وكانت تطلب من المستعمين لها أن يلتزموا بالأدب والنظام، وكانت لديها فتيات يقمن بترتيب منازل المستمعين ومجالسهم، وكان يشرف على الفتيات مساعد لها اسمه عون يحمل فى يده عصا طويلة، فمن تحدث أو تلفت فى مجلس غناء الميلاء يشير إليه بالعصا، وربما نقر رأسه بها حتى يضمن جو الاستماع والإصغاء والوقار. 

المدهش أننا نجد أن ثنائية أم كلثوم– أحمد رامى تتكرر فى حالة الميلاء– حسان بن ثابت، فقد كان أكثر غنائها انتشارًا وعذوبة هو ما تغنيه من كلام حسان بن ثابت شاعر الرسول، وكان ابنه عبدالرحمن يتخير لها رائع شعر أبيه، وكان حسان يذهب عن نفسه ويأخذه البكاء عند سماع شعره بصوت الميلاء. 

لم يصادر حسان بن ثابت حنجرة الميلاء، فكما غنت أم كلثوم لشعراء غير أحمد رامى، غنت الميلاء لشعراء غير حسان، فقد غنت أغانى القيان القدماء مثل شيرين وزرياب وخولة والرباب وسلمى ورائقة التى هى رائعة، وقال عنها الزبيرى المؤرخ: وجدت مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا: لله ما درها.. ما كان أحسن غنائها وأطل صوتها وأندى حلقها وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهى، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها وأحسن مساعدتها. 

وقد يعتقد البعض أن الميلاء كانت المطربة الأولى لدى الصحابة، وهؤلاء لم يقرأوا ما جاء فى كتب الصحاح عن المطربات فى عصر الرسول، وأعتقد أنه جرت محاولات لإخفاء أخبارهن لحاجة فى نفس من أرادوا تحريم الموسيقى والغناء. 

فقد استمع الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى بعض المطربات والمطربين، ومنهن حمامة وأنجشة، وحمامة هذه كانت الأشهر فى إحياء أفراح أهل المدينة. 

وفى كتاب ابن حجر العسقلانى «فتح البارى بشرح صحيح البخارى» نعثر على اسم اثنتين من المغنيات المشهورات فى المدينة وهما حمامة وزينب، أما أنجشة كما ورد فى صحيح البخارى فهو مغنٍ معروف، كان يصحب رسول الله فى أسفاره، ويغنى حتى تبكى من غنائه العذارى، وكان رسول الله يقول له: رويدك يا أنجشة رفقًا بالقوارير. 

وفى حديث السيدة عائشة أنها أرادت زفاف امرأة من الأنصار، فقال لها النبى، صلى الله عليه وسلم: يا عائشة أرسلى لها أرنب «وهى مغنية بالمدينة» تغنيهم.

وفى رواية أخرى أن هذه المغنية التى تحدث عنها الرسول كان اسمها جميلة، وأن الرسول قد ذكرها ببعض الغناء، فقال لها قولى: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم، ولولا الحبة السمراء لم تسمن عذاراكم. 

أعود بكم مرة أخرى إلى مقال الحفنى المجهول، فنجد أنه لا يترك ما توصل إليه دون أن يضع له تفسيرًا منطقيًا، فازدهار الموسيقى والغناء فى عصر عثمان بن عفان رضى الله عنه وإقامة الحفلات الموسيقية كان أمرًا طبيعيًا بعد تلك الفتوحات التى هيأها الله على يد عمر، والممالك العريقة فى الموسيقى التى دخلت فى الإسلام، فكان طبيعيًا أن تتأثر الموسيقى العربية بموسيقى تلك البلاد، وأن يتفنن العرب بمواهبهم السامية فيرتقون بموسيقاهم أرق مدارج الفن ويطبعونها بطابع خاص يلازمها طوال أيام مدنياتهم. 

ولأن الحفنى كان يعرف أن قراءه لن يستقبلوا ما كتبه استقبالًا طبيعيًا، فقد أنهى مقاله بقوله: وأكبر ظنى ألا يتهمنى القارئ بالتحيز للموسيقى حتى ولو جعلت عمر موسيقيًا، فإننى فى هذا الموضوع لم أتوخ غير سرد الحقائق التاريخية الثابتة والروايات المحققة إنصافًا للعلم والتاريخ.