نساء فى المعركة.. الحرب بلا أفرول ولا خوذة
بعض النماذج للمرأة المصرية الفدائية، من عشرات النماذج، فى جبهة القناة، وفى وديان وجبال سيناء، كان لهن دور عظيم فى بعض المشاركات الفدائية، ومساعدة رجال الجيش، أيام حرب الاستنزاف، وأيام حرب السادس من أكتوبر: فلاحات فى الغرب، وبدويات فى الشرق.
أم الصاعقة.. فلاحة من عزبة أبوعطوة
«سيبهولى يا بطل.. وروح إنت للعدو»
من لحظة زحف معارك ثغرة الدفرسوار نحو منطقة «أبوعطوة» الواقعة جنوب الإسماعيلية، قادمة من الدفرسوار ثم سرابيوم، حيث كان للقائد الإسرائيلى أريل شارون الطموح الأكبر لاقتحام مدينة الإسماعيلية، فتقوم قواتنا المسلحة بكسر شوكته عند عزبة «أبوعطوة»، وذلك فى الساعات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار فى ٢٢ أكتوبر ٧٣، فيتراجع متوجهًا ناحية الجنوب، فى اتجاه مدينة فايد ثم السويس، وفى أثناء احتدام المعارك فى تلك المنطقة، تلك المنطقة كثيفة الجناين، سخَّرت هذه السيدة عربتها الكارو لخدمة المجهود الحربى، فكان المجهود الحربى يقتسم عربتها الكارو مع حمل البرسيم لبقرتها ومعزتها، ونقلة السباخ البلدى لقراريطها القليلة بجوار حدائق المانجو، والتى تحوّلت لميدان حرب، لم يصدر لها تكليف من قيادة الجيش الثانى الميدانى، ولا من العقيد أحمد أسامة إبراهيم، قائد مجموعة الصاعقة فى تلك المنطقة، فما أن تسمع صراخًا واستغاثات على أطراف الجناين، أو بداخلها، فتوجه حمارها بالعربة الكارو فى الفراغات بين جذوع الأشجار، باحثة عن مصدر الصوت، وسوف يساعدها ويعينها على حمل الجريح أو الشهيد، لو كان بجواره أحد الأبطال، «شيل معايا يا بطل، شيل معايا يا بطل»، ولو كان هذا البطل قد حمل الجريح على كتفه ليتوجه به إلى المستشفى الميدانى على أطراف الإسماعيلية، أو الشهيد ليتوجه به إلى مقابر الشهداء، تتوقف أمامه «سيبهولى يا بطل، سيبهولى يا بطل وشوف أنت العدو».
وللتمويه تقوم بتغطية الجريح أو الشهيد بالبرسيم، أو بأعشاب الشجر، حتى لا تلفت نظر جنود العدو إليها، فيقتلونها، لتعاونها مع جيش بلادها.
فلاحة أظافر يديها وقدميها مُحناة بخليط من طين خط القناة، وخضار أعواد البرسيم، فى الخامسة والعشرين من عمرها، لم تهاجر مع من تهجَّروا عقب هزيمة الخامس من يونيو، ظلت مع زوجها ترعى قراريطها وبقرتها، وتحمل النساء اللاتى لم يهاجرن أيضًا إلى السوق بقرش ونصف القرش للمرأة بقفتها، قائلة: الرب واحد والعمر واحد.
وكان زوجها يشجعها على ذلك، وأحيانًا كان يساعدها فى حمل المصاب أو الشهيد، دائمًا معها كيس من قماش تحرص على وضع ميكركروم وأربطة من أقمشة الهدوم القديمة فيه، لإسعاف من تفاجأ به جريحًا وسط الجناين أو على أطرافها.
وإن لم تجد من يعينها على رفع الجريح أو المصاب، فكيف كانت تتصرف؟
حيلة المرأة البسيطة، بعقلها الناضج، ومشاعرها الوطنية المشتعلة، تُرخى عريش العربة من ظهر الحمار، فينكفئ سطح العربة للخلف بزاوية ٤٥ درجة، ثم تجر الجريح أو الشهيد، لتمكين جزءًا من جسده على سطح العربة، وتقوم بتثبيته بحبل، ثم تدوس على العريش بيديها، فتستوى العربة، لتعيد إحكام عريشها فى بردعة الحمار، ثم تنهمك فى شد البطل لمنتصف سطح العربة!
وشهادة لبطل من أبطال الموقعة، وهو لا يزال على قيد الحياة، يتذكر ويتأمل فى أيام البطولات، يقول:
«.. بينما كنت أتسلق بين جذوع الأشجار، فى عملية تسلل نحو عناصر العدو، سمعت صوت أنين مكتومًا وتوجعًا، وحينما رآنى صاحب الأنين؛ انطلق ليستغيث بى: (إلحقنى يا سعودى.. إلحقنى يا سعودى)، فأسرعت إليه وساعدته فى النهوض، كان العريف محمد ربيع شاهين ضارب الآر بى جى، مشيت أنا وهو بتعثر شديد، الواضح أن إصابته شديدة، كان يتحامل على نفسه وهو يتلوى، ويجتهد فى نقل خطواته على الأرض بتوجع وألم حاد، رأسه على كتفى، ويداه تطوقان عنقى، وخيط من الدم يسير خلفنا. فجأة؛ ومن بين أشجار الجناين، ظهرت لنا امرأة من فلاحات القرية، كانت تقود عربة كارو بحمارها، العربة كأنها تنقل الذبائح إلى السلخانة، الدم يغطى سطحها، ويلطِّخ عجلاتها وعريشها، وما إن رأتنا الفلاحة، ولمحت الدم على أفرول المصاب، ونحن نتعثر فى المشى، انطلقت لتقول: «سيبهولى يا بطل.. سيبهولى يا بطل، روح أنت للعدو».
ويواصل البطل قائلًا:
«كنا مشغولين بالعمليات الحربية، منا من يراها ويساعدها فى حمل الجرحى والشهداء، ويتضح لنا فيما بعد أن هذه المرأة كانت تنقل الجرحى بعربتها الكارو، ممن يسقطون بالقرب من قريتها، أو على الطريق الذى تسير عليه، أو فى قلب الجناين، إلى المستشفى الميدانى منذ اشتعال المعارك فى السادس من أكتوبر/ العاشر من رمضان، ، كما تحمل الذين سقطوا أمواتًا، إلى مقابر الشهداء على مشارف الإسماعيلية.
وبعد وقف إطلاق النار عند مساء ٢٢ أكتوبر، وقد تحطمت أحلام شارون على صخرة أبوعطوة، يفشل فى الاقتراب من الإسماعيلية، حلمه الأكبر، هنا توقف شارون ليتقهقر، أو قل يتجه نحو الجنوب، أسندنا ظهورنا لجذوع الأشجار العتيقة، نتذكر ونتسامر فى استراحة المحارب، سألنا أهل القرية عن هذه المرأة؛ فقالوا: هى خضرة، (أم إبراهيم)، وفى خلال حديثنا، أطلقنا عليها لقب (أم الصاعقة)».
فلاحة من قرى مركز فايد.. «عشان خاطر بلدنا»
لمس فيها الضابط روح الوطنية والشجاعة والجسارة، والكرم أيضًا، فكانت تجود للجنود بما عندها من طعام، فسألها إن كان لديها استعداد لمعاونتهم، بمعرفتها، وعلى قدر إمكاناتها، فأبدت استعدادها للتضحية «عشان خاطر بلدنا»، حسب تعبيرها، فتشجع ضابط السرية المجاورة للقرية التى تسكن فيها على شاطئ ترعة الإسماعيلية، وطلب منها أن تذهب إلى مكان تمركز قوات العدو فى إحدى جناين منطقة فايد، لترى وتستطلع تلك القوات، الدبابات والمدرعات والجنود، «تشوفى فى أى ركن فى الجناين فقط»، فانطلقت لتلك المهمة فى شجاعة نادرة، كانت تسلك طريقها على القنوات بين الأشجار، وطفلها على كتفها، فمن سيشك فى تلك التى يبدو عليها الفقر والبؤس، تلك الحافية، المجهدة بطفلها، والتى ربما هى ذاهبة لكى تبحث له عن طعام من سقط جناين المانجو والبرتقال، كانت تركز نظراتها دون أن تلفت أنظار جنود العدو، وقد فاتت عليهم، لم يكترثوا بها، تضع فى ذاكرتها، الركن المرتكزة فيه قوات العدو، كم دبابة وكم مدرعة وكم عربة، وكم من الجنود رأت، أو بالتقريب، ثم تعود من طريق غير الطريق، لتدلى للضابط بأوصاف ما رأت وشاهدت، فتقوم القوة المصرية ليلًا بالإغارة على تمركزات العدو فى الركن، أو المنطقة التى حددتها.
شجعها نجاح هذه المهمة الفدائية لأن تقوم بمثلها أكثر من مرة، فى جناين فايد وأبوسلطان، ولم يقف دور هذه المرأة عند ذلك؛ دفعتها شجاعتها، وخبرتها فى رؤية جنود العدو ومعداته وأسلحته؛ أن تطلب من الضابط سلاحًا أو قنبلة تلقيها على دبابة إسرائيلية، أو عربة دورية تتجول على شاطئ الترعة، فيقول لها الضابط: «خللى القنبلة لنا والاستطلاع عليكى، ودى مهمة مش سهلة».
أم رفاعى فلاحة من ضواحى مدينة فايد..
«إن ماشالتكوش الأرض نشيلكوا فى عنينا»
طائرات العدو تجوب أجواء المنطقة على ارتفاع منخفض، وكذلك الدوريات بالعربات الجيب والمدرعات، قوات العدو منهمكة فى البحث عن كل أفرول كاكى مصرى، صامد بسلاحه فى خندق، أو فقده وتخفى فى الأحراش، أو خلف جدران متهدمة، كما يبحثون عن كل جندى متخفٍ فى ملابس مدنية، قد تبدو عليه مظاهر العسكرية، فمن كانت يده ناعمة فهو جندى، استراحت بشرة يده من طين القنوات، ومن عزيق الأرض، فالمنطقة منطقة فلاحين وزراعات، اركب اللورى!، ومن كانت ملابسه الداخلية من ماركة جيل وكابو، الناعمة، وغالية الثمن، فهو ضابط، اركب اللورى.
الضحايا معظمهم من المدنيين العزل، ومصيرهم ما بين التصفية الجسدية أو الأسر، الدوريات تقطع شاطئ ترعة الحلوة فى مسيرات مكوكية، رصاص وسناكى أسلحتهم تسبقهم، يجوبون المزارع ويتخطون القنوات، الممتدة من الترعة حتى حافة القناة، ومن نقطة الثغرة فى الدفرسوار، بدأوا من يومى ١٥/ ١٦ أكتوبر يتغلغلون فى المنطقة، من مركز الثغرة فى الدفرسوار، يتجهون جنوبًا نحو منطقة أبوسلطان، ثم منطقة فايد، المعارك مشتعلة بين قواتنا وقوات شارون فى معظم تلك المناطق، ولقوات الصاعقة والمظلات النصيب الأكبر فى ذلك القتال المتلاحم والدائر بين أشجار الجناين، وبين جدران وأسطح بيوت القرى والعزب.
وهو عائد من عمله فى مجلس المدينة، فى طريقه لبيته فى إحدى العِزب الواقعة بين مدينة فايد وشاطئ قناة السويس، التقى ولدها «رفاعى» أربعة من الجنود الشاردين، فقدوا أسلحتهم، أو قاتلوا حتى آخر طلقة، ولا يستطيعون التسلل لأقرب وحدة مصرية لينضموا إليها، فالمنطقة محاصرة، فأخذهم رفاعى إلى البيت، وحكى لأمه حكايتهم، فما كان منها إلا أن هتفت مرحبة بهم وهى تقول: «إن ماشالتكوش الأرض نشيلكوا فى عنينا، إحنا لنا رجالة فى الجيش برضه»، حيث كان ابنها الثانى بعد رفاعى جنديًا وانتهت خدمته، وكذلك زوج ابنتها.
راحت تدبر لهم أمر إقامتهم بين جدران بيتها الفقير، فوق سطح الدار غرف صغيرة لأحوال المعيشة، وبجوارها عشش للفراخ والبط، وبداخل الدار حظيرة للمعيز والغنم، علاوة على غرف إعاشتهم، دبرت لهم ملابس مدنية، أى هلاهيل من بيتها البسيط، أو من عند أقاربها أو الجيران، أولادها وشقيقتها رصدوا مواعيد حضور دوريات العدو، فقد كانوا يفاجئون القرى يومًا بعد يوم، ويكون ذلك فى التاسعة صباحًا، اتفقوا على إشارة معينة مع الجنود القابعين بداخل الدار، وتتعمد أم رفاعى ترك باب الدار مفتوحًا، فهذا أدعى لبعث الثقة فيها، فيأتى جنود الدورية الإسرائيلية ويسألون وبنادقهم مصوبة «فيه عندكم عساكر هربانة؟» فتقول لهم أم رفاعى وبكل ثقة: «ادخلوا فتشوا»، وفى أحد الأيام التف أربعة جنود إسرائيليين حول شقيقتها، سألوها عن إن كان هناك عساكر هاربة بداخل الدار، سمعت أم رفاعى أصواتهم وجلبتهم فى الخارج، فخرجت مرفوعة الرأس وهى تقول بثبات: «الدار خالية من الرجال، ادخلوا فتشوا»، وتبرر قولها الجرئ هذا قائلة: «ما هو لما أقول لهم كده، هايروح الظن من دماغهم».
وتتجلى وطنية وحرص أم رفاعى وعائلتها على هؤلاء الجنود، فيقوم ابنها رفاعى باستخراج تصاريح إقامة لهم من مجلس المدينة، على أنهم مدنيون من أبناء مركز فايد، وعلى التصاريح صورهم، ويقوم بختم الأوراق بـ«بريزة معدنية» بعد غمسها بالحبر الخفيف، كنوع من التوثيق.
صارت حماية الجنود المصريين شغلها الشاغل، كانت تتجول فى قلب المزارع، على الحدود والقنوات، كما تقف على جسر مقابل لبيتها، فوق الترعة الحلوة، وتظل تتلفت حولها، لربما لمحت جنديًا هنا أو هناك، فى حاجة للحماية، فتقوده إلى دارها.
اقتحم الجنود الصهاينة بيتها أكثر من مرة، كأنهم يشمون رائحة الجنود المصريين، ويخرجون بلا نتيجة، بينما هؤلاء يتخفون فى تلافيف الدار، وتأتى على هؤلاء الجنود لحظة يشعرون فيها بالخجل من وجودهم فى بيتها، فتقول: «هاتروحوا فين، نموت سوا أو نعيش سوا، خلوها على الله».
كان هؤلاء الجنود قد تركوا وثائق مهمة فى بيت مجاور لمطار فايد، كانوا قد أخفوها فيه، وكان لا بد من الحصول عليها، خوفًا من اقتحام جنود الصهاينة البيت والاستيلاء على تلك الوثائق، فما كان من أم رفاعى أن كلفت شقيقتها الصغرى، فأعطوها المفتاح، أخذت ابنة أم رفاعى الصغرى فى يدها، والطفلة أيضًا تكون نوعًا من التمويه وخلق الحجج، ثم عبرت ترعة الحلوة، تسللت بين الهيش والبوص والغاب الذى يملأ المنطقة، اعترضها جندى إسرائيلى فقالت إنها سوف تُحضر حاجة من عند أحد أقربائها، راحت إلى البيت، لملمت الوثائق، ودفنت بعض الأشياء، وعادت من طريق آخر وهى تحمل مشنة فوق رأسها فيها الوثائق مغطاة بالحشائش، حتى وصلت للبيت بها سالمة، المشنة والابنة الصغرى فعلًا كانتا نوعًا من التمويه.
بعد فترة قصيرة حصل الرجال على أسلحة، وبمعاونة أم رفاعى دبرت لهم طريقة وصولهم إلى إحدى الوحدات القريبة.
يرحل من عندها جندى أو مجموعة من الجنود، ليأتى غيرهم، استمر هذا الحال من حين بداية الثغرة ليلة ١٥ أكتوبر تقريبًا، حتى بعد وقف إطلاق النار فى ٢٢ أكتوبر، مرة أخرى جاء رفاعى، ابنها، بجنديين التقطهما من الأحراش، رفض الجنديان النزول فى بيت فيه «حُرمة»، وذلك حينما رأوا البطلة وشقيقتها، لم يدركوا أنهما أمام امرأة بألف رجل، وشقيقتها لا تقل عنها شجاعة ووطنية، وأن أم رفاعى فى سن أو فى حكم والدتهما، ولما أصر الجنديان على الاستقلال ولو فى جحر أو عشة، آوتهما أم رفاعى فى بيت مهجور، من البيوت التى تركها أصحابها وهاجروا إلى الشرقية عقب هزيمة يونيو، وفَّرت لهما الفراش البسيط ووابور جاز وبعض الأدوات البسيطة، وملابس مدنية، صحيح مهلهلة، لكن هذا هو المتاح، وتكفل أولادها الصغار بإمدادهما بالطعام والشراب والشاى سرًا.
بعد فض الاشتباك الأول، وإنهاء الحصار المضروب على المنطقة منذ حدوث ثغرة الدفرسوار، واستقرت الوحدات، وبدأ الجنود فى نزول الإجازات، والعودة منها، جاء إليها يومًا جندى من هؤلاء، قادم من الإسكندرية بعد أن انتهت إجازته، وبينما كان فى طريقه لوحدته العسكرية، هذه المرة يذهب إلى بيتها وهو مطمئن، هذه المرة لم يأتِ طالبًا الحماية، بل راح يطلب أن يرى ويشكر السيدة التى آوته يومًا، ويقدم كل الامتنان لأهل هذا البيت، فما كان من أم رفاعى إلا أن تتلقاه بحضن الأم، تحتضنه كما ابنها بالضبط، كما يظهر فى الصورة التى التقطها لهما لحظتها المراسل العسكرى الأديب جمال الغيطانى، وحولها الأولاد وبعض الجيران.
كانت وقت الحرب فى عمر الخمسين، لها أربعة من الذكور، وخمس من البنات، منهن واحدة متزوجة، تعيش فى بيت مثل الكهف، على معاش زوجها البالغ ٧ جنيهات، المتوفى منذ سنوات فى حادث سيارة، قصيرة القامة، مرفوعة الرأس، بجلبابها الأسود لباس الفلاحة المصرية، رفضت التهجير الذى حدث لمدن وقرى خط قناة السويس، بعد هزيمة ٥ يونيو، ظلت مع أولادها الصغار وقتها، وزوجها إلى أن مات، يرعون مصلحة أرضهم وبهائمهم، كل الذين رفضوا التهجير قالوا الرب واحد والعمر واحد، فضلوا البقاء بجوار الوحدات العسكرية تحت قصف مدافع العدو.
ورغم ما قدمته لبلدها، كانت مطالبها بسيطة، تطلب فى خجل أن تعمل عاملة نظافة فى الوحدة الصحية، وأن تلتحق ابنتها «منى» فى وظيفة بمجلس المدينة، وأن يدخل صغيرها جمال المدرسة، بعد أن تخطى السن القانونية.
ذاع صيتها بين وحدات الجيش المصرى وقتها، عرفها الجنود والضباط، حتى قيادة الجيش الميدانى عرفت قصتها. ولم تكن ترغب فى ذلك، تقول: «دعونى أساعدكم بدون شوشرة».
فاطمة زوجة على بركات.. راعية الأغنام فى منطقة أبورديس
بعد انتهاء العملية العسكرية التى قامت بها كتيبة الصاعقة المصرية، ظهر السادس من أكتوبر، فى منطقة جنوب سيناء، نجحت كتيبة الصاعقة فى المهمة المكلفة بها، فى صد وتعطيل وشل حركة قوات إسرائيل فى جنوب سيناء حتى لا تتوجه ناحية جبهة القتال على طول خط المواجهة على قناة السويس، وكذلك ضرب مطار أبورديس لتعطيل الطائرات وتدمير ما يمكن تدميره منها، استُشهد البعض من أبطال كتيبة الصاعقة المصرية، وتم أسر البعض، ونجا من الموت والأسر فريق قليل منهم.
وأثناء تحرك خمسة من الأبطال الناجين، وكانوا فى بداية طريقهم إلى السويس سيرًا على الأقدام، من المقرر السير حوالى ٢٠٠ كم، ولم يكونوا قد ابتعدوا عن نطاق منطقة المعركة سوى كيلومترات قليلة؛ أطلق كمين للعدو دفعة من طلقات الرشاش المتعدد عليهم، أصابت الطلقات الجندى عبد الرءوف جمعة عمران أسفل بطنه «فى محاشمه»، حمله الرفاق إلى أقرب مغارة، وآووا إليها، ألح الجندى المصاب على رفاقه بأن يواصلوا سيرهم إلى السويس، ليقوموا بتسليم أنفسهم للقيادة- فلا أحد يعرف عنهم شيئًا- ثم يذهبوا لأهاليهم، فهو فى حكم الميت، لكن رفاق السلاح، اثنين من الضباط واثنين من الجنود، رفضوا تركه وحيدًا رفضًا تامًا، وبإصرار، وبكل إخلاص، قرروا البقاء معه، مهما طالت المدة، حتى يأذن الله فى أمره.
خرج منهم اثنان للبحث عن ماء، فقابلهما أعرابيان، كل واحد يعتلى جمله، فتعاطفا معهما، ووصفا لهما مكان أقرب بئر، وكانت على مسافة ساعتين سيرًا على الأقدام، وفى اليوم الثانى، جاء لهم الأعرابيان فى المغارة، ومعهما زوجة أحدهما، ومعهما طعام وماء وشاى ساخن، من تلك اللحظة تولت هذه البدوية، فاطمة، زوجة على أبوبركات، شقيق صبحى البدوى الثانى، تولت أمر هؤلاء الرجال، هى ترعى أغنامها فى المنطقة، أغنامها ستزيح عنها شبهة معرفتها بمكان وخدمة الأبطال، ذلك لو قابلتها دورية إسرائيلية، وتلك جريمة عندهم عقوبتها القتل، وغالبًا يكون شك التعاون والتستر فى الرجال أكثر.
وبلا مناسبة كانت الدوريات الإسرائيلية تدهم خيام قبيلتها، وتقوم بتفتيشها، ورغم ذلك كانت فاطمة أم على تتردد على المغارة، مرة هى وزوجها على أبوبركات، ومرة هى وصغيرتها، ومرات تذهب وحدها، فزوجها على له أعمال يقوم بها، فى غير أوقات الرعى تصطحب معزة على الأقل، تتوارى من دوريات الصهاينة خلف المعزة، تواليهم بالطبيخ والفراشيح «الخبز البدوى» والشاى، والكبريت والملح، وبعض الأعشاب التى ساعدت على التئام وتطهير جروح الجندى عبدالرءوف، ابن قرية أبوالشوس/ سوهاج، والذى قال عنه البدوى للمخابرات المصرية «يا فندم الراجل ده المفروض نصلى عليه صلاة الغائب»، كانت تذهب إليهم تقريبًا كل ثلاثة أيام، وكثيرًا ما كانت الدوريات الإسرائيلية تقابلها وهى تسوق أغنامها فى قلب الوديان والممرات، كانوا يضغطون عليها إن كانت تعرف كوماندوز مصريين «هاشحوريم» هاربين فى مكان ما، فتؤكد لهم عدم معرفتها بهذا الشأن، ظلت فاطمة زوجة على أبوبركات تساعد الأبطال المأزومين فى مغارة المنجنيز الأسود ستة أشهر، إلى أن غادروها، بعد أن تماثل الجريح للشفاء إلى حد ما، بحيث يستطيع السير معهم حتى السويس، يرتاحون هربًا فى الأحراش بالنهار، ويواصلون السير ليلاً، غادروا المكان فى شهر أبريل ١٩٧٤، بعد انتهاء الحرب بعدة شهور، ويوم مغادرتهم، جاءت فاطمة مع زوجها بالجدى «زبيدة» هكذا كانوا يسمونه، وذبحوه، وصنعوا وليمة الوداع للأبطال، وقالت فاطمة إن هذا الجدى، عمره من عمر المدة التى عاشها الأبطال فى تلك المغارة٠
سالمة شميط.. أم الأبطال فى سيناء
بعد استشهاد زوجها فى ظروف حرب الاستنزاف، قامت بلملمة أشلاء زوجها، جندت نفسها واحتشدت مع أولادها للمقاومة، لم تستسلم للحزن وسح الدموع، تعلمت فك وتركيب الألغام فى الصحراء على يد ابنها موسى، أثناء، وتحت ستارة رعى الأغنام.
أجبرتها ظروف مقتل زوجها على أن تسلك مسلك المقاومة، وتنخرط فى عمليات فدائية ومقاومة، لهؤلاء الذين راحوا يهجمون على خيامهم ليل نهار، ثم تقوم بحشد أولادها: موسى ومحمد ومريم، وبعد عمليات فدائية كثيرة، بالاشتراك مع ابنها الأكبر موسى، بينما كان العدو يضرب أخماسًا فى أسداس، فلا يعرف من أين تأتيه تلك الضربات القاصمة لدورياته، كانت تضع الألغام فى الخُرج على ظهر الحمار، إلى المكان الذى يحدده موسى ولدها، ليقوما بزرعها فى طرق مرور سيارات العدو، ثم تفقد ابنها الأكبر موسى الروشيد، الفدائى المعروف آنذاك، فى عملية تركيب لغم فى طريق رتل عسكرى إسرائيلى، فتزداد غضبًا على غضب، وعزيمة على مواصلة جهادها، فتواصل زرع الألغام مع ابنها الأصغر محمد، ومع توالى الأيام والعمليات الفدائية، يصاب ابنها محمد، يفقد إحدى عينيه ويتهتك قفصه الصدرى، من تطاير مئات الشظايا، فى انفجار لغم زرعه فى طريق دورية إسرائيلية، انفجر اللغم فى الدورية، وطالته الشظايا، سكن الكثير منها فى جسده، وتقوم دورية النجدة الإسرائيلية بأسره، واقتياده لداخل إسرائيل، وهو لا يقدر على الكلام أو الحركة، فلا تتراجع سلمى شميط عن مقاومة المحتل بزرع الألغام، لم يتبقَ لها سوى مريم، فيطلقون عليها أم الأبطال.
يأتى لها خبر استشهاد ولدها فى السجون الإسرائيلية، فلا تصدق، وتصر أمام قيادات العدو فى سيناء على السفر لرؤيته، سمحوا لها بالتوجه إلى إسرائيل، عصَّبوا عينيها، وأدخلوها على ولدها فى مكانه فى السجن، شعرت بحاستها أنه لا يزال حيا بجسده المتهتك وعينه المفقودة، لا يستطيع الكلام، فراحت تضغط عليه بأن يعترف للمحققين بأنه وراء الانفجارات الأخيرة، ويُصاب الولد بنوبة من الإحساس بالعجز، أمام ممارسات العدو غير الإنسانية معه ومع الأسرى، فلا يكون من تلك المرأة القوية إلا أن تقول له: «لا تبك يا ولد خليك راجل، ما زالت أرضنا محتلة، اصمد فالشدائد تصنع الرجال». فتقع كلماتها على المحققين وأفراد الحرس كالصاعقة!
فكيف لهذه المرأة التى غادرها الشباب، والمصابة فى رجال عائلتها، أن تملك كل هذه الجرأة وهذه القوة؟!
صارت تجيد تمامًا فك وتركيب وزرع الألغام، ستعتمد على نفسها فى كل خطواتها، دربت ابنتها مريم، لكن لم يحن الوقت لتدفعها للمقاومة، حمل الألغام مأمون العواقب عن حمل البندقية، البندقية تلفت نظر جنود الصهاينة، ومن يحمل بندقية من البدو فهو عدو لهم، تحمل اللغم فى تلافيف هدومها، أو فى خُرج الحمار، فلن يشك فيها أحد، وجنود العدو كانوا يتحاشون قدر الإمكان الاحتكاك بنساء البدو.
أحيانًا تعلق اللغم فى رقبة نعجة، وسط عشرات النعاج والخراف التى تصنع سحابة أرضية من التراب! تسير بأغنامها بعيدًا عن مدقات سير عربات العدو، ولو فى منعطفات وعرة، تترك الأغنام فى حضن جبل أو تلة أو منخفض، بحيث لا يكتشفها العدو، وتصطحب مجموعة صغيرة منها، تمشى أمامها، تتوجه نحو مدقات أو طرق سير العربات، تزرع اللغم، وتعود كما جاءت، آثار قدميها تمحوه حوافر الأغنام، يمكن أن تسمع وترى الانفجار عن قرب، أو بعد أن تعود لمضارب قبيلتها، كانت تسرح بغنماتها على نطاقات واسعة، لتوزع الموت على جنود الاحتلال فى أكثر من مكان.
كانت بطولة سالمة شميط نموذجًا حيًا لمقاومة بدو سيناء المحتل الإسرائيلى، أثناء حرب الاستنزاف، وفى ٦ فبراير ٢٠١٥ فاضت روحها الطاهرة إلى ربها.