الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

غابة الصواريخ.. قصة بطولة أخفاها الجيش لحماية مصر قبل حرب أكتوبر

عبدالناصر
عبدالناصر

- غضب الناس من الرئيس لقبوله وقف إطلاق النار.. فلماذا لم يدافع عن نفسه؟

- الفريق فهمى: ليلة خضنا فيها صراعًا مع الزمن.. وأنجزنا خطط شهور فى ساعات

- قصر الصفا بالإسكندرية.. هنا سهر عبدالناصر وهيكل فى «ليلة الصواريخ»

تعلّمت الصحافة المصرية درس 5 يونيو 1967. خلال سنوات حرب الاستنزاف لم تعد الصحف تُبالغ فى التفاخر بنتائج العمليات العسكرية على الجبهة؛ وإن استحق أبطالها الفخر بهم. لكن ما جرى على صفحات الجرائد المصرية والعربية بعد ليلة 8 أغسطس 1970 يستحق أن يصبح مضربًا للمثل فى ضبط النفس والشعور بالمسئولية المهنية والوطنية.

فى قصر الصفا بالإسكندرية، اجتمع الرئيس جمال عبدالناصر، ومحمد فوزى وزير الحربية، ومحمد حسنين هيكل بصفته وزيرًا مسئولًا عن الشئون الإعلامية والخارجية، مع عدة فرق دبلوماسية وإعلامية معاونة؛ لمتابعة عملية تحريك «حائط الصواريخ» إلى أقرب نقطة ممكنة على شاطئ قناة السويس، قبيل 4 ساعات فقط من وقف إطلاق النار تطبيقًا لمبادرة «روجرز» الأمريكية، فى خدعة عسكرية وإعلامية تستحق أن تُروى وتُدرَّس.

 

الرئيس يعلم أكثر

فى يوليو ١٩٧٠، أعلن عبدالناصر موافقة مصر على المبادرة الأمريكية لوقف إطلاق النار، فقامت الدنيا، وزايد عليه الجميع، بمن فيهم أشد أنصاره ولاءً، بدعوى أن مبادرة «روجرز» ستكون مقدمة لوقف نهائى لإطلاق النار والتسليم بالأمر الواقع فى سيناء. ولم يترك أحد مساحة لحسن الظن بالرئيس ومستشاريه، والفطنة إلى أن الأمر لا يعدو كونه خطة مصرية لخداع إسرائيل وأمريكا، باستغلالها ترتيبات وقف إطلاق النار لتحقيق «الوثبة الأخيرة» لبطاريات صواريخ الدفاع الجوى تجاه الجبهة، لتكون قادرة على صد أى غارات جوية للعدو أثناء العبور المنتظر.

حاول الرئيس العراقى إحراج مصر بخطاب ظاهره الحماس، وباطنه المزايدة؛ إلى جانب تنظيم حزب البعث العراقى مظاهرات ضد موقف مصر؛ فنشر عبدالناصر ردًا عليه فى «الأهرام» مؤكدًا أن «معارك التحرير لا تُخاض بالشعارات». 

جاء الهجوم الأكثر حدة على موقف مصر من الإذاعات الفلسطينية التى ينطلق بثها من على أرض مصر ذاتها! مما اضطر عبدالناصر إلى وقف بثها مؤقتًا. كما وزع بعض الشباب المتحمس فى مصر منشورات غاضبة، فتم القبض على عدد منهم إلى حين.

وأمام كل الغضب والمزايدة، لم يكن بإمكان الرئيس الدفاع عن نفسه؛ فليس معقولًا أن يخرج على الناس ليشرح خططه العسكرية. لذا اكتفى بتأجيل الرد على الجميع لحين نجاح خطته، وواصل طريقه إلى ليلة ٨ أغسطس. وكان ذلك تحديًا إنسانيًا بالغ الصعوبة؛ أن يملك الإنسان دليل براءته، ويرفض رفعه فى وجه الجميع، مقدمًا مصالح بلاده على مصلحته الذاتية.

القيادة فى قرص الصفا

فى الليلة الموعودة، كانت الجهات المعنية فى الدولة تنسق فيما بينها لتوفير التغطية الإعلامية والدبلوماسية لما يخطط الرئيس لتنفيذه. كان عبدالناصر فى «قصر الصفا» بالإسكندرية مع الفريق فوزى للتواصل تليفونيًا مع اللواء محمد على فهمى قائد «الدفاع الجوى». 

وفى القصر نفسه، حشد وزير الإرشاد القومى محمد حسنين هيكل فريقًا إعلاميًا للتواصل مع وكالات الأنباء الأجنبية أولًا بأول، إلى جانب فريق دبلوماسى يعمل تحت إشرافه؛ لظروف سفر وزير الخارجية محمود رياض بالخارج.

ومع غروب الشمس، كانت ساعة الصفر، لتبدأ قواتنا المسلحة ملحمة نقل باقى كتائب الدفاع الجوى إلى الجبهة فى حِمى الظلام. وكان التحدى أن تُنجز المهمة «شبه المستحيلة» قبل موعد وقف إطلاق النار فى منتصف الليل، لكن اللواء فهمى طلب من المجتمعين فى «قصر الصفا» توفير تغطية سياسية ودبلوماسية لتبرير تأخير وقف إطلاق النار ساعة أخرى. وفى النهاية، جاء الاتصال المُنتظر: «الصواريخ فى وضع الاستعداد يا فندم، جاهز للمواجهة مع أول ضوء».

تمكنت قواتنا فى ليلة واحدة من «مضاعفة» عدد قواعد الصواريخ على الجبهة، ومد «حائط الصواريخ» ليغطى كل مناطق القناة.

وذهب الليل، وطلع الفجر، والعدو فى ذُعر. فوجئت القيادة الإسرائيلية بصور أقمار التجسس الأمريكية تظهر مواقع جديدة لبطاريات الصواريخ المصرية على الجبهة. وسرعان ما طلبت تل أبيب النجدة من أمريكا للتدخل باعتبارها وسيط مبادرة «روجرز»؛ فطلبت واشنطن مهلة للتأكد مما إذا كانت هذه البطاريات جرى تحريكها بعد وقف إطلاق النار، أم قبله؟

وصار فى حكم الأمر الواقع أن العدو أنشأ «ساترًا ترابيًا» لحماية قواته على شاطئ قناة السويس، فأقامت مصر أخيرًا على الشاطئ المقابل «ساترًا صاروخيًا» لقطع الذراع الطولى لإسرائيل.

الصحافة المصرية  تخدع العدو

رغم أن «هيكل» كان حاضرًا ومشاركًا فى إدارة هذه الملحمة، إلا أن «أهرام هيكل» صدرت فى اليوم التالى بلا أى إشارة لهذه البطولة الصامتة. واكتفت الصفحة الأولى بخبر عن قصف مدفعى عنيف وجهته مصر إلى قوات العدو بدءًا من الساعة الثامنة ليلًا قبيل وقف إطلاق النار، دون أن يعرف القارئ هدف هذا القصف فى هذه الساعة تحديدًا.

وظل الترقب سيد الموقف، و«أهرام هيكل» تتكتم على المسألة برمتها، حتى صدرت الجريدة فى اليوم الخامس بخبر قصير من ١٠ أسطر فقط فى ذيل الصفحة الأولى؛ ينقل عن راديو إسرائيل أن «تل أبيب تنتظر رد أمريكا على الأنباء التى رددتها الصحف الأجنبية حول استغلال مصر وقف إطلاق النار لإرسال معدات عسكرية إلى القناة».

وفى اليوم التالى انفجرت الأزمة المتوقعة؛ فصدرت «الأهرام» بمانشيت: «موشيه ديان يعلن: مصر أقامت بطاريات صواريخ جديدة فى جبهة القناة». أخيرًا، جن جنون الرجل الذى صرح يومًا بكل غرور: «لن نسمح لمصر بامتلاك منظومة دفاع جوى بصواريخ سام السوفيتية، وسوف نكسب معركتنا فوق سماء القاهرة».

ومنذ هذه اللحظة، بدأ «هيكل» لعبته المفضلة فى انتقاء الألفاظ والأوصاف المناسبة رغم علمه التام بالحقيقة كاملة؛ فوصفت «الأهرام» تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلى «موشيه ديان» بأنها مجرد «ادعاءات». وفى الوقت نفسه، أبرزت وصفه لتحريك حائط الصواريخ بأنها «مسألة بالغة الخطورة، وليست مجرد قصفة من مدفع رشاش، وعلى أمريكا التدخل لصد هذا الخطر عن إسرائيل فورًا».

ولعدة أيام تالية، شغلت عملية حائط الصواريخ مانشيتات «الأهرام» وباقى الصحف المصرية؛ لكن بوصفها مجرد «حكايات ومزاعم وادعاءات». وكان من اللافت أن تتعمد «الأهرام» وضع وصف «حكاية» حائط الصواريخ بين قوسين، لأن «هيكل» كأى مصرى يريد أن يفخر بحقيقة بطولة الدفاع الجوى المصرى، لكنه مضطر إلى استخدام هذه الكلمة ذات المغزى، مع تكرارها فى عدة مانشيتات متتالية، فى إصرار قد يرسم الابتسامة على وجهك وأنت تطالع الصفحات الأولى لـ«الأهرام» يومًا بعد يوم، وتتخيل ردود الفعل الإسرائيلية الهيستيرية.

ولأن لرئيس تحرير «الأهرام» علاقات وطيدة بالصحافة اللبنانية خصوصًا، كانت صحيفة الأنوار اللبنانية تصنع مانشيتاتها فى تلك الأيام نقلًا عن تصريحات «هيكل»، بل وتتبنى الموقف المصرى المعلن عنه على صفحات «الأهرام»؛ دون أن تدرك هى الأخرى أن النفى المصرى فى هذه المسـألة تحديدًا، هو نفى فى مقام التأكيد!

ولعل إتقان «هيكل» لحملة التمويه الصحفى لمصلحة الوطن فى هذه المغامرة؛ لا يقل أهمية ورمزية عن ذلك السلاح البسيط الذى استخدمته قواتنا المسلحة بالقرب من كبارى العبور فى حرب أكتوبر. وكان عبارة عن آلات لإطلاق الدخان بكثافة؛ بغرض تغطية سماء المعركة حتى لا تتمكن أجهزة الرصد فى المدفعية والطيران الإسرائيلى من تحديد مواقع أهدافها، فتنجو قواتنا وتواصل إنجاز مهامها القتالية فى سلام.

«بناء» القوة الرابعة

لم يكن نجاح قوات الدفاع الجوى فى مهمة «ليلة الصواريخ» حدثًا عارضًا فى تاريخها، وإنما للنجاح جذور دائم.

فى فبراير ١٩٦٨، أصبح «الدفاع الجوي» قوة مستقلة، وحسب كتابه «حائط الصواريخ فى حرب أكتوبر»، أوضح اللواء «محمد سعيد على» أن جهود إعادة بناء «الدفاع الجوى» بدأت برفع المستوى المهارى للمقاتلين المتفوقين علميًا، والقادرين على استيعاب تكنولوجيا الرادارات وبطاريات الصواريخ.

وبعد مماطلة، وافق الاتحاد السوفييتى أخيرًا على منح مصر صواريخ أكثر تطورًا، يمكنها إنجاز المهام فى ظل الإعاقة الإلكترونية من جانب العدو، بعد شهور من تعمد الطيران الإسرائيلى استعراض قوته فى العمق المصرى.

ولم يمنح الطيران الإسرائيلى مهندسينا الفرصة لإتمام بناء مواقع وتحصينات الصواريخ، فكان يدمرها قبل أن تجف مواد البناء، واستشهد العشرات من العمال المدنيين الأبطال فى تلك الغارات. وتغلب مهندسونا على الأزمة بتطوير نوع من الخرسانة سابقة التجهيز، يجرى نقلها ليلًا إلى المواقع المحددة على الجبهة.

ولجأت القيادة المصرية إلى حيلة ذكية لحماية المواقع تحت الإنشاء، أسماها هيكل «قفزة الضفدعة»، بحيث يتم إنشاء موقع محصن للصواريخ على أطراف القاهرة، ليحمى موقعًا آخر تحت الإنشاء شرقًا فى اتجاه قناة السويس، وبعد نقل الصواريخ إلى الموقع الجديد، يتولى الموقع الجديد بدوره حماية الموقع التالى تحت الإنشاء، وهكذا، حتى تقترب مواقع الصواريخ من الجبهة.

«أسبوع تساقط» الفانتوم

فى ٣٠ يونيو ١٩٧٠، اكتمل بناء حائط الصواريخ، ونجح أبطالنا فى إسقاط طائرتى «فانتوم»، وطائرتى «سكاى هوك»، وأسر ٣ طيارين. وصدرت الصحف اللبنانية تبشر العرب: «الصواريخ المصرية فى المعركة». وكانت هذه المرة الأولى التى تتمكن فيها قواتنا من إسقاط هذا العدد من الطائرات والأسرى دفعة واحدة، فأصبح ٣٠ يونيو عيدًا سنويًا لقوات الدفاع الجوى.

وفى «أسبوع تساقط الفانتوم»، اعتادت الصحف المصرية والعربية نشر صور الطيارين الأسرى وبطاقاتهم العسكرية وحطام الطائرات الإسرائيلية لرفع الروح المعنوية للقوات المسلحة المصرية. وتحت تأثير الخسائر اليومية للعدو، وهو ما دفع أمريكا إلى التقدم بمبادرة «روجرز» لوقف إطلاق النار.

العبرة بالنتائج

شاع وصف «حائط الصواريخ» فى الصحف والكتب، بينما كان يفضل الفريق «فهمى» أن يطلق عليه وصف «غابة الصواريخ»، وهو ما نلحظه فى حوار له مع «الأهرام» فى يونيو ١٩٧٦، وفيه قال عمّا جرى ليلة ٨ أغسطس ١٩٧٠: «لم يكن الأمر مجرد قواعد صواريخ أسقطت طائرات فانتوم، وإنما كانت شبكة الصواريخ تجسيدًا لتفوق الإنسان المصرى وقدراته الخلاقة، وكانت مؤشرًا على أن الجيش المصرى مسك زمام المبادرة، وضمِن لأول مرة فى تاريخ الصراع أهم دعائم النصر فى معركة التحرير المنتظرة».

وأشار «فهمى» إلى كتاب عسكرى صدر حديثًا- يقصد عام ١٩٧٦- فى إسرائيل، يراوغ فى الاعتراف بخسائر إسرائيل فى سلاح الطيران، إلا أن المشاركين فى تحرير الكتاب اعترفوا بما نصه: «ليست العبرة بمعدل الخسائر، وإنما بقدرة الدفاع الجوى المصرى على حرمان القوات الجوية الإسرائيلية من تقديم المساندة الفعالة لقواتها البرية فى حرب أكتوبر».

ليلة بكت فيها إسرائيل

حين وجّهت أمريكا تحذيرًا لمصر بأنها ستراقب منطقة الجبهة لرصد أى مخالفات لقرار وقف إطلاق النار فى ٨ أغسطس ١٩٧٠، أبدت مصر التزامًا شفويًا، بينما كانت فى الواقع تجهز للأمريكان والإسرائيليين هدية من النوع الفاخر؛ آلاف الصواريخ، أو يمكنك القول آلاف «الخوازيق» فى انتظارهم على شاطئ قناة السويس فجر ٨ أغسطس!

ولإدراك قيمة ما جرى فى هذه الليلة الحارة، نفتش فيما جاء بأحد خطابات جولدا مائير إلى الرئيس الأمريكى نيكسون، فنجدها تلقى باللوم على أمريكا لعدم قدرتها على التدخل الحاسم وإجبار مصر على إعادة كتائب الصواريخ المصرية إلى مواقعها البعيدة عن قناة السويس. واختتمت خطابها بصيغة سؤال غارقة فى الشعور بالغيظ وقلة الحيلة: «كيف نتركهم يفلتون بما صنعوه»؟

وفى مذكراته، برر «إيلى زعيرا» مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية فشله فى التنبؤ بحرب أكتوبر بقوله إنها ليست مسئوليته، لأن الأمر يعود إلى ليلة ٨ أغسطس ١٩٧٠ حين نجح المصريون فى تحريك حائط الصواريخ دون رادع من جانب أمريكا أو إسرائيل!

وقد كان السفير الأمريكى فى إسرائيل يتوقع نجاح اتفاق وقف إطلاق النار عام ١٩٧٠؛ مبررًا ذلك فى اجتماع مع موشيه ديان بأن القوات المصرية والإسرائيلية مرهقة بعد عمليات حرب الاستنزاف، ما يعنى أن الجميع فى حاجة إلى الراحة أخيرًا. لكن الواقع فى مصر كان على العكس تمامًا، فرغم إرهاق قواتنا المسلحة؛ إلا أن أبطالنا أحسنوا استثمار وقف إطلاق النار واعتبروه فرصة لبذل مزيد من الجهد لتحريك حائط الصواريخ.

«اخبط رأسك فى الحيط»

بين الفترة من ٨ أغسطس وحتى وفاة عبدالناصر المفاجئة فى ٢٨ سبتمبر، تصاعدت ردود الأفعال الإسرائيلية والأمريكية، ووثقتها الصحف فى عدة مانشيتات، نقرأ منها: «الخارجية الأمريكية تؤكد وجود انتهاكات مصرية لوقف إطلاق النار». و«الحكومة البريطانية على قناعة بحدوث انتهاكات مصرية فى منطقة القناة». و«إسرائيل تقدم شكواها العاشرة لهيئة الرقابة الدولية ضد قواعد الصواريخ». 

وفى ٢٠ سبتمبر ١٩٧٠ هدَدَت جولدا مائير بشن هجوم وقائى ضد قواعد الصواريخ المصرية إذا لم يتم تحريكها إلى مواقعها السابقة، لكن مصر لم تحرك ساكنًا. وحتى حان موعد نصر أكتوبر العظيم، تركت مصر العالم الغاضب من حولها «يخبط رأسه فى الحائط».. حائط الصواريخ!