سرديات المعارك.. أمانى فؤاد: كيف تم إنقاذ مصر من حرب أهلية؟
- زيارة السادات لـ«الكنيست» وراء عدم كتابة روايات بحجم حرب أكتوبر
- واقعية السادات بددت «الأحلام الجهورية الحالمة» لـ«عبدالناصر»
- رواية الحرب والنزاعات صارت الأكثر حضورًا وتأثيرًا بعد «الربيع العربى»
أصدرت الدكتورة أمانى فؤاد، أستاذ النقد الأدبى الحديث بأكاديمية الفنون، كتابها «سرديات الحروب والنزاعات.. تحولات الرؤية والتقنية»، عن الدار المصرية اللبنانية.
الكتاب هو بحث كبير ومتعمق فى أدب الحروب، ويقدم عبر عدة فصول الكثير مما يحتاجه الكُتاب لمعرفة كل شىء متعلق بهذا النوع من الأدب، لتضيف د. «أمانى» إلى المكتبة العربية مؤلفًا كان ينقصها بشدة، ولم يتطرق إلى موضوعه كثيرون.
عن أدب الحروب بصفة عامة، وأهم ما جاء فى هذا الكتاب، ولماذا لا تزخر المكتبة المصرية والعربية بأعمال مهمة عن حرب السادس من أكتوبر، وغيرها من التفاصيل الأخرى، يدور حوار «حرف» التالى مع الدكتورة أمانى فؤاد.
■ يبدو كتاب «سرديات الحروب والنزاعات.. تحولات الرؤية والتقنية» وكأنه حاوية جامعة لكل ما كُتب فى أدب الحرب.. كيف كانت رحلة كتابة هذا العمل الذى استعنتِ فيه بـ٧٣ مرجعًا و٥٢ عملًا أدبيًا؟
- لا يمكن أن يكون هناك كتاب حاوٍ جامع لكل ما كُتب عن أدب الحرب، فالموضوع شديد الاتساع والتنوع، لكن شاءت ظروف اشتراكى فى معظم لجان تحكيم الأعمال السردية خلال العقد الأخير أن تتسع قراءاتى، وتمتد لتشمل معظم المشهد الروائى فى أقطار الوطن العربى، خاصة التى خاضت الحروب بعد ما أُطلق عليه «ثورات الربيع العربى».
ولقد لاحظت أن رواية الحرب والنزاعات صارت الأكثر حضورًا عدديًا، والأكثر وقعًا وتأثيرًا فى الكتابة. ومع توسع القراءات لاحظت مجموعة من السمات السردية الفنية التى تختص بها هذه الأعمال، لم تكن بهذا الشكل ما قبل الثورات والحروب الأخيرة فى الإقليم العربى وشمال إفريقيا. لذا رصدت لهذه السمات رؤية وتقنيات، وقدمت الكثير من الشواهد لهذه الخصائص الجديدة فى سرد الحروب.
ثم اكتشفت أننى بدأت العمل متصورة أننى أُعد دراسة نقدية لرواية أقرب للمنظور السياسى. لكن مع استمرار البحث واتساع الرؤية اكتشفت العمق الاجتماعى والدينى الثقافى، الذى اعتبرته أصل هذه الثورات التى خضناها، بعد رفض الكثير من الموروثات الثقافية العامة فى مصر والمجتمعات العربية الأخرى.
كما توالت فى التجارب الروائية التى تعالج الحروب والثورات الأخيرة العديد من الرؤى المغايرة عما كان فى صراعات الحروب السابقة. ومن هنا انطلقت تلك السرديات المعاصرة لتفصح عن وجود إنسانى عدمى، تهدَّمت يقينياته كافة، سرديات تجسِّد حالة من الضياع غير المسبوق والتشظى، حالة من السيولة الدامية واللايقين فى أى شىء.
لقد استُحدثت طرائق وآليات للسرد لتشكل نهجًا مركبًا فى مسار الحكى وتقنياته، معقدًا كما الواقع المركب والغرائبى، حيث السرد المفتوح على مسارات جحيمية. حكْى أحداث ومشاهد تستطيع أن تترك فى وعى القارئ بصمات وآثارًا لا نهائية من الغضب، والشعور بالقهر والامتهان، بالضياع، بالرفض الشامل للحياة، علامات لا تنمحى، وهو ما أوجد بنية اللا بطل التى أشرت إليها فى السرديات.
لقد باتت الأحداث الواقعية أكثر غرابة من المتخيل فى كثير من الأوقات، لذا يبحث الروائيون عن بنى فنية مغايرة، غنية باكتنازها بالمتناقضات والحيرة والشعور بالعبث، لتجسيد واقع يتوازى فنيًا مع الحقيقة، واقع غير نمطى، أحيانًا يتفوق على الخيال، لخلق نص فنى يعادل ويحمل فى بنيته أحداث حياة يمكن توصيفها بلعبة نرد متروكة للعبث والفوضى.
فى مستوى آخر، تحاول بعض النصوص السردية استيعاب وكشف أنواع القوى المتصارعة فى المنطقة، داخليًا وخارجيًا، وفضح توجهاتها وأطماعها، ليس طلبًا لتغيير مأمول فى القريب، قدر ما يجسد السرد صرخة، صرخة ربما من شأنها تنبيه المعنيين بحماية الأجيال القادمة.
■ هل يمكن توضيح هذا المحور الاجتماعى الدينى الثقافى الذى تحدثت عنه بصورة أوسع؟
- تكشَف لى هذا المحور بعمق فى السرديات الروائية عما بدا عليه ظاهر أهداف هذه الثورات وشعاراتها، التى ترددت على الألسن. تجلى الرفض على ما استقر على أنه من مسلمات الحياة التى يعيشها الإنسان العربى. لم تكن ثورة الجموع، فى الحقيقة، على الأنظمة السياسية فقط، بل كانت فى عمقها ثورة على أفكار ومظاهر كثيرة، انتقادات لمعطيات ومعتقدات تتحكم فى حياة الإنسان، أدركتها النخب وعبّرت عنها، كما شعرت بها الجموع واستنكرتها.
وتجلى الرفض لأنظمة سياسية سكتت عن تطوير حياة الشعوب ثقافيًا وماديًا، أنظمة لم تقصِّر فى التنمية فقط؛ بل جمَّدت واقع الشعوب ومستقبلها، أنظمة جعلت الواقع أقرب إلى الجحيم، وخلقت تدنيًا فى مستوى الوعى، نظرًا لتدنى التعليم والثقافة العامة، ورسَّخت لمنظومات من الفساد؛ تخدم مصالحها الخاصة.
كما توجهت الثورة والرفض نحو كثير من المقولات التى تتضمنها بعض أسس الثقافة العربية الموروثة والسائدة، فى محاورها الاجتماعية والسياسية والدينية، الثقافة العربية بمفهومها الشامل، لتستيقظ رغبات ملحة لدى الجموع غير المؤدلجة فى هذه الثورات، فى فلترة وتصحيح الموروثات والعادات والتقاليد، ورفض الخطابات الدينية، التى تقسِّم الناس إلى طوائف ومذاهب، إلى مؤمنين وكفرة، وكراهية ما تتضمنه الأعراف الاجتماعية، التى تسيطر على الوعى الجمعى من غبن ولا مساواة فى معظم المعايير التى تحدد حياة المرأة، رفض للممارسات السياسية التى ترسخ للحكم المطلق بكل صوره، غضب ورفض للفساد الذى استشرى فى المجالات الاقتصادية، وطال الثقافة ذاتها، واستنكار للوعى المزيَّف الذى بات سمة مستساغة، تمارسه شرائح واسعة تبرِّر الفساد، وطغيان الشعور بغياب العدل وضياع الحقوق، والحقائق أيضًا، وهو أقصى شعور يصيب البشر بالسكتات الفكرية والشعورية، والإحساس بالعدمية.
وكان الرفض لظواهر ومعانٍ اجتماعية ثقافية أشمل وأعمق عما بدت عليه مطالب الثورات وشعاراتها، التى انطلقت فى الميادين والآفاق، لكن لم يكن من السهولة التعبير عن هذه المعانى والقبض على صياغات محددة لها، فمعظمها معانٍ وقضايا فكرية لا يمكن اختزالها فى شعارات، ولا يعبِّر عنها الصوت الجهورى، ولا الهتافات فى الغالب، معانٍ ثقافية وفكرية سلبية سيطرت على الجموع من الشعوب، لكن رفضها البعض فى وعيه العميق، لافتقارها إلى العدالة.
■ ذكرت أنه فى مصر كان يمكن أن تقوم حرب أهلية لولا المؤسسة العسكرية.. كيف ترين دور المؤسسة العسكرية فى ذلك؟
- عند تنشيط ذاكرة مصر التاريخية القريبة، والتى لا بد من تذكير الشعب بها باستمرار، كان بإمكان جماعات «الإسلام السياسى»، خاصة جماعة «الإخوان المسلمين»، تحويل الوضع فى مصر إلى حرب أهلية تتصارع فيها العديد من الطوائف والشرائح، «إخوان» فى مواجهة مسيحيين، «إخوان» فى مواجهة السلفيين، «إخوان» فى مواجهة شباب الثورة، «إخوان» وكل مؤسسات الدولة: القضاء والإعلام والثقافة والشرطة والجيش، فكر إخوانى متشدد فى مواجهة الفكر والطبيعة المصرية السمحة، التى رغم تدينها تميل لمظاهر الحياة الحيوية المتجددة المرنة المتطلعة لسعادة الإنسان.
حسمت المؤسسة العسكرية بتدخلها هذه الاحتقانات المتعددة، وذلك حين وقفت بقوة، بما تملك من قدرات، ودون طائفية ولا انحيازات عدا الإيمان بمصر الوطن والوطن للجميع، دون أن تتحكم فيه جماعة صرحت بأنها إما تحكم هذا البلد أو تحرقه.
لذا ناصرت المؤسسة العسكرية ودعمت رغبة الشعب فى عدم تخليه عن هويته الدينية المتسامحة، حيث الجموع التى تعشق الحرية والحياة. واستطاعت القضاء على الفتنة التى خطط لها «الإسلام السياسى»، وهو ما رأينا أصداءه حتى الآن، بعد أكثر من عشر سنوات، فى بلدان كثيرة بمنطقتنا العربية.
■ هل صحيح أن الكتابات التى صدرت عن حرب أكتوبر لم تشمل كل بطولات هذه الحرب؟
- حال دون كتابة الأعمال الأدبية الروائية الكبيرة والملحمية، التى تعبر عن هذه الحرب، والسعادة بالانتصار التاريخى الوحيد على إسرائيل، مجموعة من الملابسات التى تزامنت مع نهاية الحرب.
فبعد الحرب، بادر الرئيس الراحل أنور السادات بالذهاب إلى «الكنيست»، فى مسعى لحقن الدماء وآثار دمار الحروب، ولملمة اقتصاد يتداعى، وهى الملابسات التى لم تَرُق للكثير من مثقفى ومبدعى مصر.
سياسات «السادات» الواقعية بددت الأحلام الكبرى، التى ضخمها «عبدالناصر» بخطاباته الجهورية الحالمة، التى تشبَّعوا بها وصدَّقوها، ثم شعروا فى سياسات وخطوات «السادات» بتفريغ كل ما آمنوا به من أفكار، وتبددت الأحلام التى نسجها «عبدالناصر»، ولم يقرأ فيها الواقع جيدًا.
هذه الأجواء الرافضة لسياسات «السادات» ومعاهدة السلام انعكست على محدودية كتابة سرديات توصّف هذا الانتصار على إسرائيل، وترصد لمحاوره المتعددة، وفق ما اعتقده.
■ الأديب العالمى نجيب محفوظ قال فى إحدى جلساته: «لم أكتب فى أدب الحرب، لأننى لم أزر الجبهة ولم أعلم ما يتم هناك».. هل ترين أن كل من يكتب عن أدب الحرب لا بد أن يكون محاربًا أو على الأقل رأى الحرب وعايشها؟
- لو توفرت رؤية ومعايشة أرض المعارك لمن يكتب عن الحرب سيكون هذا أفضل بلا شك، خاصة فى المرحلة الزمنية التى كتب فيها نجيب محفوظ. لكن لم تعد هناك ضرورة ملحة لذلك، فوسائط العصر الحديث توفر التغطية والبث المباشر من مواقع الصراع فى الحروب، وصارت توثق المعارك بالصوت والصورة، وتعرضها على الشاشات والمواقع كافة.
كما أن آثار الحروب على الشعوب والنازحين، وقصص قوارب الموت، وعذابات مغادرة الأوطان والشتات، ومظاهر الدمار والهجرات، صارت تُعرض كل لحظة، وطالت الكثيرين. كلها مثيرات ومواد مؤثرة تمكن الروائى من كتابة أدب الحرب، لتوافر المادة التى يحتاجها فى متناول يده. هذا مع عدم إغفالنا للجانب المتخيل، الذى بإمكانه أن يملأ فراغات الواقع الكثيرة، حيث الأدب هو الذى يجعلنا نحتمل نقص الحياة.
■ رصدتِ أن أكثر الكتابات الآن فى أدب الحرب و«الديستوبيا».. هل هذا يعنى أن الحالة الاجتماعية تظل تلح على الكاتب للتأريخ لها؟
- يلحظ الجميع، الكُتاب والمعنيون، الضياع الناتج عن الحروب والصراعات والاستبداد السياسى فى عدد من الدول من حولنا، وتلك الظواهر الجحيمية من أهم أسباب انتشار ما سُمى بـ«أدب الديستوبيا» أو «عالم الواقع المرير»، مجتمع مخيف، جحيمى بطريقة ما، وهو عكس أدب المدينة الفاضلة «يوتوبيا».
من المفترض أن «الديستوبيا» عالم خيالى، ليس للفضيلة والقيم الخيرة مكان فيه، تحكمه الأطماع المطلقة، وأبرز ملامحه الخراب والقتل والقمع والفقر والمرض، تلوِّنه الدماء، عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته، ويتحوَّل فيه المجتمع إلى جموع من المسوخ، تناحر بعضها بعضًا، كما تطغى بها السلطات. والأدب كما نعرفه نتاج تفاعل محاور الحياة فى الآفاق الذهنية للأدباء، الواقع الاجتماعى والنفسى الخاص، فى تداخله وتفاعله مع الواقع السياسى والاقتصادى والثقافى.
■ هل كتابنا الأوائل كانوا مقصرين فى تناول الثورات والحروب فى الرواية؟ وهل تصلح الرواية للتأريخ الحقيقى للحروب؟
- نعم، تصلح الرواية للتأريخ للحرب، التأريخ من منظور إنسانى وفنى، ففى السرديات نحن لسنا بصدد تأريخ سياسى توثيقى للمعارك بتفاصيلها العسكرية واللوجستية كافة. وتأتى خصوصية الرواية من التقاطها الزوايا والمناظير الإنسانية، وهذا الجانب من أهم المناظير التى يمكن أن يُكتب بها التاريخ، تاريخ البشر لا المكاسب والخسائر، ورصد الخطط الحربية وطبيعة المعارك. أما فيما يتعلق بالتقصير فهذا أمر تاريخى يمكن بحثه فى حدود معطيات مراحلهم الزمنية.
■ كيف ترين تحولات المصريين وتعاملهم فى الفترة الحالية، بعد سيطرة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعى على حياة الفرد؟
- التحولات التى استجدت على الشخصية المصرية الاعتبارية كبيرة وخطيرة، ولقد رصدت بعضها فى عدد من المقالات التى كتبتها، ويمكن اختصارها فى عدد من السمات الغالبة التى ساعدت وسائط التواصل الاجتماعى على انتشارها.
بعض هذه السمات إيجابى والآخر سلبى. الشخصية المصرية تتحلى بالنصرة فى الشدة والشهامة والتمسك الدائم بالأمل والإصرار، والحس الساخر، وأيضًا الحس الفنى الذى يميل للحزن، وسرعة البديهة والقدرة على التصرف، وعدم استسهال العجز.
على الوجه الآخَر، هناك بعض السمات السلبية مثل: سطحية تناول القضايا لدى البعض، والتصلُّب النسبى فى العقائد والعادات والتقاليد، والانسياق وراء الشائعات دون منطق. كما أن هناك بعض السمات التى تختص بالمرأة، إذ لم تزل فى قطاعات كبيرة من الجموع الحارسة الأكبر على الثقافة الذكورية بكل غبنها وظُلمها للمرأة.
واحسب أن تلك التحولات يتعين أن يعكف عليها مجموعة من الباحثين فى تخصصات مختلفة، لدراسة تلك الأسباب بطريقة شاملة وعميقة، فوصف الداء وضبطه أول العلاج.
أما التحولات التى نتجت عن سيطرة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعى فهى لم تحدث للمصريين فقط، بل حدثت على مستوى بلدان العالم، ربما تبرز الخصوصية المصرية فى محدودية وعى الكثيرين بالاستخدامات المثلى لتلك التكنولوجيا، ونشر الشائعات والتشكيك فى كل شىء، لذا تُستخدم هذه الوسائط بلا ضابط، وتتسبب فى قتل الوقت فيما لا نفع فيه.
■ فى النهاية.. ما الكتاب الجديد الذى تعكفين عليه الآن؟
- أعكف على مشروع نقدى يقدم قراءة متجددة عن الرواية بعد نجيب محفوظ، وأتمنى الانتهاء منه فى القريب.