الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هاروكى موراكامى.. روائى المزيج المستحيل

هاروكى موراكامى
هاروكى موراكامى

ليس عليك بالضرورة أن تصدق الروائى اليابانى الأشهر هاروكى موراكامى وهو يقول «لم أرغب أبدًا فى أن أصبح كاتبًا، ولكننى صرت كذلك، ولدىَّ الآن الكثير من القراء فى كثير من البلدان، أعتقد أنها معجزة، وينبغى علىَّ أن أتواضع أمامها.. فأنا فخور بذلك وأستمتع به».. ربما يستريح البعض فى القول إنه أصبح روائيًا بالمصادفة، أو أنه فوجئ بإلهام أولى رواياته يأتيه خلال استمتاعه بمشاهدة مباراة «بيسبول» حسبما يَروى هو عن نفسه، ويُروى عنه، ولكن معرفة أنه وُلِد عقب الحرب العالمية الثانية لوالدين يعملان فى تدريس الأدب اليابانى ربما يفتح بابًا لتأويلات أو تصورات أخرى، غير المصادفة أو الإلهام، أو عدم الرغبة أو الاستعداد، فهناك دائمًا الكثير من الأسباب والدوافع التى قد لا تبدو ظاهرة لعين صاحبها، لكنها ساعة الحقيقة تكشف عن نفسها، وربما لا تكون للكاتب معرفة بها، أو استعداد لما تمليه عليه، خصوصًا أن السمات الغالبة على منتج موراكامى الأدبى تغلب عليها بصمات الوالدين المتخصصين فى الدراسات النقدية والأدبية، وتحديدًا فيما يتعلق بالنقد المقارن، والجمع بين سمات وتقاليد الكتابة اليابانية الغارقة فى تأمل الذات وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وانعكاسات ممارسات الآخرين على الروح، وبين الثقافة الغربية الأكثر ميولًا للطابع الاستهلاكى بمعناه الإيجابى، من حيث الاقتصاد فى اللغة، والدخول مباشرة فى الموضوع، دون تمهيد، أو مقدمات، أو حتى وصف للأجواء المحيطة.. ولك أن تتصور طفلًا وحيدًا لوالدين يعملان فى تدريس الأدب، ماذا سوف يتسرب إلى عقله الباطن، وما يمكن أن تفعل به الجينات أو تترك له خلفها؟! فإن لم تفعل جينات الأب والأم، فربما يفعل تعرضه لمناقشة عابرة حول قصيدة شعر أو قصة أو رواية، وربما بشأن فكرة أو معضلة لم يلتفت إليها كاتب، ما يعنى بالضرورة كثيرًا من الأفكار، والتصورات، والاختلافات والاتفاقات والآراء المتصالحة والمتخاصمة حول ماهية الأدب، والاختلافات الأسلوبية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، حول الحياة ودروبها وتنويعات أيامها، وربما كان ذلك هو السر فى تحوله إلى حالة فريدة فى تاريخ الأدب اليابانى شديد الخصوصية بين آداب العالم، والحافل بالأسماء المجيدة من كتاب وفنانين لا يضاهيها سوى الكتاب الروس، وإن لم ترتبط أسماؤهم بـ«نوبل» ورفيقاتها من جوائز ومنح ومهرجانات يراها الغرب معيارًا للجودة.. إلا أن أسماءهم تبقى أكبر وأهم وأكثر تأثيرًا، وأدل على فساد الحياة الثقافية فى عموم الكرة الأرضية.. لا فرق بين جائزة عربية وأخرى سويدية أو أمريكية أو بريطانية.. فكل الساسة فى السوء وفساد التعامل مع الفن والأدب والثقافة سواء.

هاروكى موراكامى

لكل رواية مقطوعة موسيقية

كان من الطبيعى أن يقرأ موراكامى كثيرًا من الأدب فى سنوات نشأته الأولى، وأن يدخل مراحل حياته قارئًا نهمًا، يقرأ فى عيون الأدب الغربى بنفس الكثافة التى يتناول بها جرعاته الطبيعية من الأدب اليابانى، ما يفتح له طريق التميز فى كلا المسارين، خصوصًا مع حالة التراجع الكبير فى منتجات الثقافة الغربية مع نهايات القرن العشرين، إذ عانت الرواية والشعر والآداب الأوروبية والأمريكية بشكل عام من غياب تام لتلك النوعية من الكتاب الكبار، فلم يعد هناك من أمل فى بزوغ نجم كاتب كبير من نوعية تشارلز ديكنز وفيكتور هوجو وأندريه مالرو، لم تشهد الحياة موهبة ضخمة كموهبة دستويفسكى فولبير، أو حتى هنرى ميللر وهيمنجواى.. واحتلت المنتجات الثقافية الاستهلاكية «تيك أواى» أرفف المكتبات وقوائم الأكثر مبيعًا فى كل مكان بالقارة العجوز، وصنيعتها المعروفة باسم القارة الجديدة أو أمريكا الشمالية، وامتلأت أسواق الكتب بحشد من روايات الرعب والتنمية البشرية، وغزو الكواكب، وغيرها من القصص العاطفية والألغاز المسلية، والكتابات التى تتجه إلى شريحة تمتلك المال الكافى لشراء الكتب، ولكنها تفتقد إلى الذائقة الأدبية السليمة، والحس الثقافى الرفيع، وهو ما مهد الطريق لكتابات تبدو فى ظاهرها عميقة، وتجمع ما بين ثقافات مختلفة ومتعارضة، ومنها كتابات البرازيلى باولو كويلهو، والبريطانية التركية المولودة فى فرنسا إليف شافاق، واليابانى هاروكى موراكامى، وفريق كبير من الكتاب الذين يعتمدون ذات الوصفة أو الخلطة الثقافية التى تستلهم التراث الصوفى، وتصف الحياة الروحية لأفراد يعانون من اغتراب الروح وانقسام الذات، فى قالب غربى مادى شديد القسوة فى التعامل مع الذوات المعذبة أو الأرواح الخام، وهى الوصفة التى تذوب وتتلاشى فيها الحدود الفاصلة ما بين الخيال والواقع، وما بين الحلم والحقيقة.. ما بين الذات والآخر.. وربما كان ذلك هو السر فى أن كثيرًا من النقاد يذهبون إلى أن أهم ما يميز كتابات موراكامى هو تحليله المجهرى للأفراد، والاقتصاد فى استخدام الكلمات، وأنه يستطيع بكلمات قليلة أن يرسم صورة واضحة تعبر عن عواطف شخصياته، ما يجعل من قراءة أعماله سهلة وبسيطة لدى مختلف الثقافات حول العالم، وما يدفع البعض إلى تصنيف كتاباته تحت تيار «الواقعية السحرية»، رغم براءتها من كل ما جاء به ذلك التيار من سمات وحيل أسلوبية، فأغلب كتابات موراكامى هى رحلة للكشف عن غموضٍ ما، فى ضفيرة أقرب للسريالية منها للواقعية السحرية، وأبطاله بوجهٍ عام عبارة عن أشخاص وحيدين فى عمر صغير، منعزلين ومثقلين بالأحزان، هائمين فى رحلة بحث عن أرض صلبة أو حقيقة يتمسكون بها.. «لماذا يجب على البشر أن يكونوا بهذه الوحدة؟! ما الهدف من هذا كله؟! ملايين البشر فى هذا العالم، كلهم فى توق، ينتظرون من الآخرين إرضاءهم، مع هذا ينعزلون بأنفسهم.. لماذا؟! هل وجدت الأرض لتعزز وحدة البشر فحسب»؟!

وإلى جانب روح الدعابة الفريدة التى تتسم بها كتابات موراكامى، غالبًا ما تتناول موضوعات الانسلاخ الاجتماعى والوحدة والأحلام، تعيش شخصياته الرئيسية فى أكثر من مستوى حياة متقشفة، وبأقل الإمكانات، لكنها لا تخلو من الكتب، كما لا تخلو من الموسيقى، فكثير من رواياته تحتوى موضوعات وعناوين مستلهمة أو مقتبسة من الموسيقى الكلاسيكية، وبعض الأفلام السينمائية فى كثير من الأحيان، حتى قيل إن موراكامى اعتاد أن يملأ نسيج رواياته بالمقطوعات الموسيقية والكتب.. «لكل رواية مقطوعة موسيقية واحدة، وكتاب أو كاتب واحد كفكرة رئيسة، ولإيجاد جو عام، وإضفاء بعد روحانى على الأحداث».

فى مقال نشر فى أكتوبر ٢٠٢٢، قال موراكامى إنه لا توجد شخصية فى أعماله «تقريبًا» تم تشخيصها استنادًا إلى أفراد فى الحياة الواقعية، كما زعم كثيرون، وكتب ما نصه: «نادرًا ما أقرر مسبقًا أننى سأقدم نوعًا معينًا من الشخصيات، ما يحدث أنه أثناء الكتابة، يتشكل نوع ما من المحور الذى يجعل من الممكن ظهور شخصيات معينة، وأمضى فيه قدمًا، فأضع تفصيلة تلو الأخرى بحيث تكون فى مكانها بالضبط، ومثل برادة الحديد التى تلتصق بالمغناطيس تبدأ الصورة الإجمالية للشخصية فى التشكل، بعد ذلك غالبًا ما أعتقد أن بعض التفاصيل تشبه تفاصيل شخص حقيقى أعرفه، لكن معظم العملية تحدث تلقائيًا، ولهذا أعتقد أننى أسحب المعلومات والشظايا المختلفة دون وعى تقريبًا من خزائن دماغى ثم أنسجها معًا».. «أحد الأشياء التى أستمتع بها أكثر فى كتابة الروايات هو الشعور بأننى أستطيع أن أصبح أى شخص أريد أن أكونه».

الحياة بخمس روايات وحانة لموسيقى الجاز

يبدو أن قدر هاروكى موراكامى كان قد تحدد منذ ما قبل ولادته، كنتاج للجمع بين ثقافتين متناقضتين ومتعارضتين، فهو الذى ولد فى مدينة كيوتو اليابانية فى ١٢ يناير ١٩٤٩، فيما بعد سنوات الحرب العالمية الثانية، ونشأ كطفل وحيد لوالدين متوسطى الحال يعملان فى تدريس الأدب اليابانى، وربما كان التناقض الأول والأهم فى حياته يتمثل فى أن والده كان ابنًا لكاهن بوذى، بينما كانت أمه ابنة لتاجر من أوساكا، ولأن والده عانى من صدمة عنيفة بسبب مشاركته فى الحرب الصينية اليابانية الثانية، امتد ذلك إليه، وكان له تأثير كبير على كتاباته وحياته بشكل عام.. وبسبب عمل والديه فى تدريس الأدب، قرأ سلسلة طويلة من أعمال الكتاب الأوروبيين والأمريكيين الكبار وتأثر بهم، من أمثال فرانتس كافكا وجوستاف فلوبير وتشارلز ديكنز وفيودور دستويفسكى، ودرس الدراما فى جامعة «واسيدا» بطوكيو، حيث التقى بيوكو، التى أصبحت زوجته فيما بعد، واتفقت معه على عدم إنجاب أطفال.

وكثيرًا ما ذكر موراكامى أنه تأثر بخمس روايات أكثر من غيرها، ولهذا قام بترجمتها إلى اليابانية، وفى مقدمتها رواية «جاتسبى العظيم» للكاتب الأمريكى سكوت فيتزجيرالد، والتى قال عنها: «إذا اضطررت إلى اختيار كتاب واحد فقط كان يعنى لى أكثر من كونه مجرد كتاب، فسأختار (جاتسبى العظيم) بلا تردد، لولا رواية فيتزجيرالد لما كنت أكتب نوع الأدب الذى أنا عليه اليوم»، وكانت الرواية الثانية هى «الوداع الطويل» للأمريكى رايموند تشاندلر، وقال عنها: «فيليب مارلو هو خيال تشاندلر، لكنه حقيقى بالنسبة لى، أترجم ما أحب قراءته، لقد قمت بترجمة جميع روايات رايموند تشاندلر، أنا أحب أسلوبه كثيرًا، وأذكر أننى قرأت الوداع الطويل خمس أو ست مرات.. وربما أكثر».

الثالثة هى رواية «القلعة» للتشيكى فرانتس كافكا، وقال عنها: «صادفت عمل كافكا عندما كان عمرى ١٥ عامًا، وكان الكتاب هو القلعة، لقد كان كتابًا كبيرًا لا يصدق، وأصابنى بصدمة هائلة، كان العالم الذى وصفه كافكا فى ذلك الكتاب حقيقيًا وغير واقعى للغاية فى نفس الوقت، وقد مزق فيه قلبى وروحى إلى جزءين».. وكانت الرواية الرابعة هى «الإخوة كرامازوف» للروسى الأشهر فيودور دستويفسكى، وقال عنها: «يصبح معظم الكتاب أضعف وأضعف مع تقدمهم فى السن، لكن ذلك لم يحدث مع دستويفسكى، هو الكاتب الوحيد الذى ظل يكبر أكثر فأكثر، وكتب «الإخوة كارامازوف» فى أواخر الخمسينيات من عمره، هذه رواية رائعة»، أما الخامسة فهى «الحارس فى حقل الشوفان» للأمريكى جى دى سالينجر، التى قال عنها: «إنها قصة مقلقة للغاية.. لقد استمتعت بها عندما كنت فى السابعة عشرة من عمرى، لذلك قررت أن أترجمها، تذكرتها على أنها مضحكة، لكنها مثيرة للقلق والأفكار وقوية، لا بد أننى كنت قلقًا عندما كنت صغيرًا».

بدأ موراكامى حياته العملية خلال فترة الدراسة، حيث بدأ بالعمل فى متجر لبيع التسجيلات الموسيقية، وقبل تخرجه بوقت قصير افتتح هو وزوجته مقهى وحانة لموسيقى الجاز، أسماها «بيتر كات»، فى مدينة كوكوبونجى، غربى طوكيو، وظلا يديرانها معًا منذ ١٩٧٤ حتى ١٩٨١، عندما بدأ موراكامى بكتابة الأعمال الأدبية، وبدأ اسمه فى الانتشار، وقال: «قبل ذلك، لم أكتب أى شىء. كنت واحدًا من أولئك الأشخاص الاعتياديين وحسب، أتولى إدارة نادٍ لموسيقى الجاز ولا أبتكر أى شىء على الإطلاق»، وحكى أنه حصل على الإلهام لكتابه الأول «أسمع الريح تغنى» وهو فى التاسعة والعشرين من عمره خلال مشاهدته لمباراة «بيسبول» فى عام ١٩٧٨، وقال إنه كان فى ملعب «جينجو» يشاهد مباراة بين فريقى «ياكولت سوالوز» و«هيروشيما كارب»، حين ضرب ديف هيلتون، وهو لاعب أمريكى، الكرة. ووفقًا لقصة تكرر سردها مرارًا، خلال اللحظة التى ضرب هيلتون فيها الكرة، أدرك موراكامى فجأة أن بوسعه أن يكتب رواية، ووصف ذلك الشعور بأنه «إحساس دافئ» ما زال يشعر به فى قلبه، فذهب إلى المنزل وبدأ بالكتابة تلك الليلة.

عمل موراكامى على «اسمع الريح تغنى» لمدة عشرة أشهر على جلسات قصيرة للغاية، خلال الليل بعد نهاية يوم العمل فى الحانة، وعندما أنجز الرواية وانتهى من كتابتها، أرسلها إلى المسابقة الأدبية الوحيدة التى تقبل أعمالًا بذلك الطول، ففازت بالجائزة الأولى، وتشجع موراكامى بسبب نجاحه الفورى على متابعة الكتابة، وبعد عام، نشر جزءها الثانى، ثم أتبعهما بالثالث لتتشكل ثلاثية «الجرذ» التى أضاف إليها فيما بعد جزءًا رابعًا بعنوان «رقص، رقص، رقص» لكن أحداثه لا تعتبر جزءًا من السلسلة التى تتركز حول نفس الراوى الذى لا يرد اسمه وصديقه الجرذ، والطريف أن موراكامى يعتبر روايتيه الأوليين غير ناضجتين وواهيتين، ولم يكن يريد ترجمتهما إلى الإنجليزية، بينما كانت «مطاردة خروف برى»، وفقًا لأقواله «أول كتاب جعلنى أشعر بإحساس من نوع ما، وكان ذلك هو الإحساس ببهجة قص حكاية.. فأنت حين تقرأ قصة جيدة، تستمر بالقراءة وحسب، وهو نفسه ما يحدث حين تكتب قصة جيدة، عليك أن تستمر فى الكتابة وحسب».