بفقرة كاذبة منسوبة على لسانه إلى الموسيقار الكبير محمد فوزى.. التدليس بمذكرات بليغ حمدى
- مقتطع من رواية صادرة فى العام 2017 حاولوا به الإساءة إلى ثورة يوليو وجمال عبدالناصر
- بليغ حمدى لم يترك وراءه مذكرات.. والرواية نسبت له من خيال مؤلفها وقائع وأحاديث ليست حقيقية
- محمد فوزى غنى للثورة 4 أغنيات.. وغنى لجمال عبدالناصر: يا عيون نطق فيها الأمل/ والعزم والحب لجمال
- دخل فى نزاع قضائى مع محمد عبدالوهاب ليسجل أغنية ناصر.. وقال: ليس من حق عبدالوهاب احتكار الأغانى الوطنية
- قبل وفاته بشهر ونصف الشهر شكر جمال عبدالناصر على قرار علاجه على نفقة الدولة
- لم يمت فقيرًا وترك خلفه تركة تصارع عليها الورثة ووصل الخلاف بينهم إلى المحاكم
كالنار فى الهشيم انتشر عبر صفحات «فيسبوك» الغشيمة والمدفوعة نصٌ قال من اقتطعوه من سياقه إنه جزء من مذكرات الموسيقار العظيم بليغ حمدى.
سأضع أمامكم النص كاملًا كما نُشر حتى نعرف معًا عن أى شىء نتحدث.
يقول النص المنشور: «أتذكر دومًا كلمة فوزى: لازم نحكى حكاية هذا الرجل الطيب.. النقى.. والموسيقار الجميل فى آخر لقاء لنا، الله يرحمه كان المرض قد اشتد عليه، كان وزنه نقص جدًا وبقا ضعيف بدرجة مرعبة، وقال لى: أوعى تفتكر إنى زعلان على فلوسى ولا شركتى.. أنا زعلان إن شوية (صبيان عساكر) يسرقونا وإحنا مش عارفين نعمل حاجة، البلد دى كبيرة يا بليغ، وعيب نتفرج عليها وهى بتتسرق كده، اتفرج على مصر دى لو عاشت ديمقراطية حقيقية وحكمها بقا حكم حر فى إيد ولادها، شوف كام أم كلثوم هتطلع وكام عالم وكام عبقرى فى كل مجال.
ومرت الأيام وأثبتت أن كلامه كان صح».
مَن دفعوا بهذا المقطع دون تعليق كانوا يعرفون ما يفعلون، استخدموه ضمن حربهم ضد الدولة المصرية، قاصدين منه الإساءة الواضحة إلى القوات المسلحة، فى حرب تصفية حسابات بدأت ولا تزال مستمرة منذ العام 1952 وتجددت بعد ثورة 30 يونيو 2013 العظيمة.
من اللحظة الأولى شكك متابعون على السوشيال ميديا فى صدق الكلام المنسوب لبليغ، على أساس أن الموسيقار الكبير لم يكتب مذكراته من الأساس، وهناك من عرف مصدر هذا المقطع اللقيط، وأكد أنه جزء من رواية لطلال فيصل التى صدرت فى العام 2017 عن دار الشروق، وهى رواية «بليغ».
عُدت إلى رواية «بليغ» لأجد أن هذا المقتطع موجود بالفعل فى صفحة ٢٧٤.
الرواية التى لا شك فى قيمتها الأدبية تنقسم إلى قسمين، القسم الروائى الذى يقسمه طلال بين نفسه وبين بليغ، والقسم الثانى الذى نشره تحت عنوان «يوميات وأوراق متناثرة»، ورغم أن هذا الجزء من خيال الكاتب تمامًا، إلا أن إثباته تحت عنوان «يوميات وأوراق» أوحى لمن اقتطعوا هذه الفقرة أن هذه مذكرات بليغ.
ما جرى فعليًا أن هذا الجزء ليس إلا محاولة من كاتب الرواية للتدليس فيما أعتقد بشكل مقصود لتمرير روايات وحكايات عن بليغ، وقد أثبت فى الهوامش مصادره، ليعتقد من يقرأ أنها وقائع حقيقية رواها بليغ.
من ذلك مثلًا مقطع عنوانه «الست» فى صفحة ٢٦٤، ويحيلنا طلال فى الهامش إلى أنه خطاب طويل كتبه الموسيقار الراحل لصديقه محمود عوض فور وصوله إلى باريس ولم يرسله آخر الأمر، حيث ظل ينقحه ويعيد كتابته فترات طويلة.
الفقرة التى شاع خبرها كانت جزءًا من هذا الخطاب المخترع، وما يؤكد لنا اختراعه أنه قبل أن يقول هذا الكلام على لسان فوزى، يقول موجهًا كلامه لمحمود عوض: أنت رأيت بعينك ماذا حدث لأبويا وحبيبى وصاحبى فوزى، الله يرحمه، فجأة طلع فى دماغهم وقرروا يؤمموا شركته التى بناها بعرقه وكده، من أجل ذلك رفضت دائمًا وأبدًا أن أغنى لاسم شخص أو حاكم أيًا كان تهليل الناس لاسمه أو حبهم له، وأنت بنفسك شهدت خناقتى مع عبدالحليم واتصلت لأشهدك عليه، وقلت لك: صاحبك مزرجن، عاوزنى أقدم أغنية عن أنور، وأنا أقول له يا حليم أمرك، نغنى لمصر، للجيش والناس والشوارع، لكن نغنى لحاكم أبدًا، وفى الآخر حلها محمد حمزة بحل وسط وكانت غنوة عاش اللى قال، تعرف إنها أبعد أغنية فى الأغانى الوطنية عن قلبى رغم نجاحها.
كثيرون يتبنون هذه الرواية، فهى واحدة من الروايات الشفهية التى يتداولها محبو بليغ، ويستشهدون بها على منهجه فى الأغنية الوطنية، لكن شيئًا مما جاء فى الجزء التوثيقى لكتاب طلال لم يكن دقيقًا ولا حقيقيًا.
والحكاية يرويها الإذاعى الكبير وجدى الحكيم الذى كان شاهدًا على تسجيل الأغنية.
يقول وجدى: بعد أغنيته «لفى البلاد يا صبية» بحث عن كلمات أغنية تليق بنصر أكتوبر، وبالفعل وجد ضالته فى كلمات كتبها محمد حمزة، وكان مطلعها «عاش اللى قال الكلمة بحكمة فى الوقت المناسب.. عاش».
وضع حليم- طبقًا لوجدى- الكلمات بين يدى بليغ الذى كان يعرف أنه أفضل من يقوم بتلحينها، وبالفعل قدم بليغ لحنًا مميزًا للكلمات، وبدأت البروفات فى بيت حليم بالزمالك، وبدأت الصورة النهائية للأغنية تتضح وتظهر، حيث استعان بليغ بمجموعة من الكورال التى رافقت «حليم» فى معظم أغنياته وكان يستريح لأصواتهم.
ويحكى الحكيم: كان مقررًا فى الصورة النهائية للأغنية أن يقوم حليم بغناء «عاش اللى قال.. عاش اللى قال الكلمة بحكمة فى الوقت المناسب.. عاش عاش»، ليأتى صوت الكورال مرددًا: عاش السادات.
ويؤكد الحكيم أن السادات عندما علم بما سوف يتغنى به حليم، اعترض على وجود اسمه فى الأغنية، معللًا ذلك أنه لم يحارب وحده، وأن الزعماء العرب شاركوا مصر فى الحرب، كما أن كل جندى فى هذه الحرب هو شريك فيها، وطلب من حليم حذف اسمه أو ذكر جميع زعماء العرب، ولما كان ذلك مستحيلًا، فقد اضطر الثلاثى حليم وحمزة وبليغ إلى حذف اسم السادات، وقاموا بتسجيل الأغنية مرة أخرى بدون أسماء.
لم يتحدث وجدى الحكيم عن أى اعتراضات لبليغ، لكن يبدو أن دراويش بليغ هم من اخترعوا هذه الحكاية، كما اخترع طلال فيصل ما قاله بليغ على لسان محمد فوزى.
قد يقول طلال إنه لا يمكن أن يلومه أحد على ما فعله، فهو يكتب رواية، والرواية بنت الخيال، فما يذكره لا يمكن التعامل معه على أنه حقائق يرددها الناس على أنها وقعت بالفعل، وهو كلام مقبول أدبيًا، لكن ما يمكن أن يؤخذ عليه هو أنه وضع على لسانهما كلامًا يتنافى مع موقف فوزى وبليغ من ثورة يوليو ومن زعمائها، كما أنه خالف به الواقع.
وهو الكلام الذى لا يمكن أن يتهرب طلال من أنه يعبر عن قناعاته وأفكاره، وهو لا يختلف فى ذلك عن كتيبة من الروائيين المصريين يعانون بالفعل من مشكلة نفسية تحكم علاقتهم بالجيش المصرى والضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو ١٩٥٢، وتجدهم فى كل أعمالهم يحاولون بكل ما يستطيعون إدانتهم والإساءة إليهم.
الأمثلة كثيرة وهذا حديث آخر يطول.
ما يمكننا أن نتوقف أمامه أن طلال وهو يعمل على رواية الشخصيات لا يلتزم بما يجب عليه أن يلتزم به، فهو يخلط بين الحقائق والخيال، ويروج لأكاذيب ويمرر وقائع غير حقيقية، وهو فى ذلك يظهر حالة من الاضطراب النفسى فى رؤيته لكل الشخصيات التى تحيط ببطل روايته.
فعل طلال ذلك فى روايته «سرور» التى صدرت عن دار الشروق أيضًا فى العام ٢٠١٣، ويروى فيها حكاية الشاعر الشهير نجيب سرور، وقد أظهره خلالها فى صورة الملاك الذى يتآمر عليه الجميع، وعندما قرأ المخرج الكبير جلال الشرقاوى هذه الرواية وجد أن كاتبها يدلس ويكذب ويشوه صورته، وفكر بالفعل فى مقاضاته، لكنه تراجع نزولًا على نصيحة من رفاقه بأن الأمر لا يستدعى، فأنت أمام كاتب شاب لا يزال يخطو خطواته الأولى، بما يعنى أنه سيمنحه شهرة لا يستحقها.
الجدل الذى حدث بسبب المقطع المنزوع نزعًا من رواية طلال يمنحنا فرصة لتحقيق يسير فى مسارين.
المسار الأول نُجيب من خلاله على تساؤلات ظهرت حول ما إذا كان بليغ حمدى ترك وراءه مذكرات أو سيرة ذاتية.
والمسار الثانى حول ما يتردد إفكًا وكذبًا عن علاقة محمد فوزى بالضباط الأحرار، وما يقال حتى الآن عن تأميم شركته «مصر فون»، وعن موته فقيرًا مشردًا بسبب ما فعله به جمال عبدالناصر.
أما عن مذكرات بليغ فقد حصلت على تأكيدات من عدد ممن يهتمون بسيرة بليغ ومن تتبعوا أثره أنه لم يترك أى مذكرات من أى نوع.
لكن لماذا حدث هذا اللبس؟
أعتقد أنه حدث لسببين.
الأول كان كتابًا أصدره الكاتب الصحفى والناقد الفنى أيمن الحكيم فى العام ١٩٩٩ عن دار ميريت، وكان عنوانه «مذكرات شخصية وشهادات مثيرة لرفاق رحلة بليغ».
رسخ من وقتها أن لبليغ مذكرات.
سألت أيمن الحكيم عما قدمه فى كتابه وهو ما أعاده بعد ذلك فى كتابه «بليع حمدى سلطان الألحان.. حياته.. تجلياته.. مأساته»، الذى صدر عن دار إنسان فى العام ٢٠٢٠.
يقول أيمن إنه نشر فى كتابيه بعض الخواطر التى كتبها بليغ بنفسه، إضافة إلى تفريغ لحوار إذاعى مطول كان قد سجله معه الإذاعى الكبير وجدى الحكيم.
أكد أيمن، الذى يمكننا التعامل معه على أنه المؤرخ الرسمى لبليغ حمدى، أنه خلال اطلاعه على أوراقه وكتاباته وحواراته الإذاعية والتليفزيونية، لم يقل شيئًا فيه خطأ أو إساءة لأحد من ضباط الثورة، لا على لسانه ولا على لسان محمد فوزى.
السبب الثانى الذى جعل البعض يعتقد أن بليغ حمدى ترك وراءه مذكرات، كانت الحلقات التى نشرها الصحفى اللبنانى الكبير محمد بديع سربية فى مجلة «نورا» بداية من عدد ٤ سبتمبر ١٩٦٨، وكانت تحت عنوان ثابت هو «حقيبة الذكريات»، وكان عنوان الحلقة الأولى منها «ليل بليغ طويل.. طويل.. عندما حمل عوده وفر هاربًا من المستشفى».
ظل كثيرون يتعاملون مع الحلقات التى نشرها محمد بديع سربية على أنها مذكرات بليغ الرسمية، لكن عندما قمنا بمراجعتها اكتشفنا أن سربية بطريقته المعتادة أضاف إلى حياة بليغ، ووضع على لسانه آراء لم يقلها، وقد أثارت هذه الحلقات غضب بليغ وقتها، إلا أنه حتى لم يعاتب صديقه، وذلك على طريقته فى التعامل مع من يسيئون إليه.
ورغم إضافات واختراعات محمد بديع سربية فى حواراته مع بليغ، إلا أننا لم نجد أثرًا لكلام قاله عن محمد فوزى أو بلسانه، وهو ما يؤكد للمرة الثانية أن النص المقتطع لم يكن إلا خيالًا لا يعبر أبدًا عن الواقع.
وهو ما ينقلنا إلى المسار الثانى والحديث عن علاقة محمد فوزى بضباط ثورة يوليو، وما قيل عن إصابته بالمرض الملعون بعد تأميم شركته، مما جعله يموت مريضًا وفقيرًا.
لكن قبل أن نبدأ فى تفنيد هذه الرواية ما رأيكم أن نعرف كيف بدأت القصة؟ ومن يقف وراء نسج حكاية العداء بين فوزى وثورة يوليو؟
الكارهون لثورة يوليو كثيرون، والغاضبون مما فعل الضباط الأحرار كثيرون أيضًا، ولا فرق فى ذلك بين من ينتمون إلى اليسار ومن يسيرون فى ركاب جماعة الإخوان، فجميعهم كان لهم ثأر عند جمال عبدالناصر، وقد فكروا جميعًا فى تصدير قصة محمد فوزى على أن ما فعلوه كان دليلًا على تدمير صرح فنى عظيم أقامه فوزى وهو شركة «مصر فون».
البداية كانت من صورة شهيرة لمحمد فوزى وهو يرقد على سرير المرض قبل أيام من وفاته نحيفًا لدرجة مفزعة وهزيلًا لدرجة محزنة.
نسجت القصة على نول هذه الصورة على النحو التالى: عندما طلب جمال عبدالناصر من محمد فوزى أن يغنى له وللثورة رفض بحجة أنه لا يغنى لأفراد، ولكن يغنى للوطن، وهو ما دعا عبدالناصر الذى كان لا يتصور أن يقول له أحد: لا.. لأن يؤمم شركة فوزى ويطرده منها ويشرده، وعندما وجد فوزى أن حلم عمره يضيع أمامه، بعد أن تحول من مالك للشركة إلى موظف فيها، أصابه مرض غامض استهلك كل ما يملكه من مال، ثم كانت النهاية الطبيعية وهى الوفاة المأساوية.
وحتى يصور من فبركوا هذه القصة الأمر على أنه كان حقيقيًا، فإنهم يسيرون فى طريقهم ليقولوا إن الإذاعة بعد هزيمة ٦٧ قررت ألا تذيع الأغانى التى بها اسم جمال عبدالناصر حتى لا تستفز الناس، ولم يجدوا أمامهم إلا أغنية فوزى الشهيرة «بلدى.. أحببتك يا بلدى»، فى إشارة خبيثة إلى أن فوزى الذى قتله عبدالناصر بقرار التأميم هو من أنقذه بعد الهزيمة، دون أن يقولوا لنا كيف تم هذا الإنقاذ؟
ما جرى على الأرض كان مخالفًا تمامًا لهذه الرواية البائسة التعيسة، فيما يخص رفض فوزى للغناء للثورة، أو يخص تأميم شركته، أو فيما يخص موته فقيرًا.
أما فيما يخص غناء فوزى للثورة، ففى أرشيفه الغنائى أغنية «غنوا لـ٢٣ يوليو»، وهى الأغنية التى غناها فى الاحتفالات بالسد العالى فى أسوان سنة ١٩٥٩.
تقول كلمات الأغنية التى كتبها مصطفى عبدالرحمن: «غنوا لـ٢٣ يوليو/ عيد الثورة عيد الأحرار/ عيد كل الأحرار فى الدنيا/ يوم الجيش والشعب ما ثار/ صحانا وهدانا ضياه/ وسبقنا الأيام وياه/ وبنينا أمجادنا معاه/ وانهزم الطغيان وانهار/ صحانا على صبح جديد/ وصدقنا معاه المواعيد/ وحتفضل يا أجمل عيد/ للأمة العربية منار/ فى بلادنا صرنا الحكام/ ومشينا يا دنيا لقدام/ وشعارنا محبة وسلام/ ودا أغلى وأعز شعار».
وفى العام ١٩٦٠ دخل محمد فوزى فى معركة قضائية مع محمد عبدالوهاب على أغنية «ناصر»، وهى المعركة التى سجلتها صفحات الصحف.
دخل فوزى مع عبدالوهاب فى خلاف حاد بسبب أغنيتين من ألحان عبدالوهاب وهما «أيظن» و«ناصر».
فقد أراد فوزى تسجيلهما على أسطوانات، وأغنية «ناصر» بالذات كانت ستسجل بصوته، وكان سلاحه فى ذلك المادة ٢٧ من قانون حماية الملكية الفكرية الذى صدر عام ١٩٥٥.
لجأ عبدالوهاب إلى القضاء مستندًا إلى المادة ٤٢ من القانون ذاته والتى تنص على أنه لرئيس المحكمة بناء على طلب المؤلف أو من يخلفه، وبمقتضى أمر يصدر على عريضة أن يأمر بالإجراءات التالية بالنسبة لكل مصنف نشر أو عرض بدون إذن كتابى من المؤلف، وفسرت هذه المادة تفصيل الإجراءات التى تتخذ لحماية حق المؤلف.
كان الخلاف بين فوزى وعبدالوهاب يحمل فى طياته خلافًا حول مبدأ عام، هو: هل العمل الفنى ملك لصاحبه، أم ملك للشعب والتاريخ؟
تقدم محمد فوزى إلى جمعية المؤلفين والملحنين يطلب ترخيصًا بطبع أغنية «ناصر» على أسطوانات، وأصدرت له الجمعية الترخيص بالفعل، لكن محمد عبدالوهاب لجأ إلى القضاء طالبًا منع فوزى من تسجيل الأغنية.
ويومها علق محمد فوزى، الذى كان يسعى إلى تسجيل أغنية «ناصر» بصوته، قائلًا: إن محمد عبدالوهاب يحاول أن يحتكر غناء ألحانه الوطنية وحده، ناسيًا أو متناسيًا أن الأغانى الوطنية ليست ملكًا لفرد، بل ملك للشعب، والذى حفزنى إلى تسجيل هذه الأغنية ما لاحظته من أن سوق الأغانى المسجلة تفتقر إلى الأغانى الوطنية، وليس غريبًا أن يغنى مطرب أو مطربة ألحان غيره، إن هذا يقع كثيرًا عندنا وفى الخارج.
وفى العام ١٩٦١ غنى فوزى أغنية «رشوا الملح» التى كتبها الشاعر محمد على أحمد، وتقول كلماتها: «رشوا الملح وغنوا وقيدوا شموع الفرح/ رشوا الملح زرعنا حصدنا جمعنا الطرح/ رشوا الملح لعيد الثورة/ رشوا رشوا الملح/ ثورة بتبنى بعزم وهمة للحرية/ ثورة فى كل حياتنا العامة واشتراكية/ ثورة بتجرى فى دم عروقنا/ ندى وناخد كل حقوقنا/ رشوا الملح بنينا علينا نادينا الفرح/ رشوا الملح زرعنا حصدنا جمعنا الطرح/ رشوا الملح لعيد الثورة/ رشوا رشوا الملح».
والمفاجأة التى من المؤكد أنها ستكون عاصفة لكثيرين أن محمد فوزى غنى هذه الأغنية بعد صدور القرارات الاشتراكية التى كان من بينها تأميم شركته.
المفاجأة الأكبر أن آخر أغنية غناها محمد فوزى قبل وفاته كانت «أم البلاد» وكتبها الشاعر أحمد كمال بدر، وتقول كلماتها: جايلك بشوقى يا بلادى من بعيد/ جايلك وحاسس إنى مخلوق من جديد/ عديت بحور خطيت جبال دست السحاب/ ومشيت على جرحى وأنا فى عز الشباب/ علشان أبوس منك بشوق حبة تراب/ جاى من بعيد… إنسان جديد/ جايلك وأول مرة أحس إنى سعيد.
فى هذه الأغنية يغنى محمد فوزى لجمال عبدالناصر، فقد كان من بين كلماتها: «يا عيون نطق فيها الأمل/ والعزم والحب لجمال».
المفاجأة الأكبر ما نجده فى أرشيف الإذاعة المصرية، فقبل شهر ونصف الشهر من وفاته استضافت إذاعة الشرق الأوسط محمد فوزى، الذى كان يتحدث عن رحلة مرضه وعلاجه فى عدة دول منها الولايات المتحدة وإنجلترا وألمانيا، وفى التسجيل المتاح الآن على «يوتيوب» يقول فوزى: مساء الخير إخوانى وأحبابى أهل بلدى، اللى حسيت من جواباتهم اللى كانت أكتر من ٨٠٠ جواب إنى فى مصر، لقد شعرت وكأن كل فرد فى البلد يدعو لى بالشفاء، وهو ما حفزنى على الشفاء والعودة إلى مصر.
تحدث فوزى عن عبدالناصر، قال: قبل بدء حديثى أريد أن أشكر بحرارة السيد الرئيس جمال عبدالناصر، ورجال الحكومة المصرية، والسفارة المصرية فى إنجلترا على الدور الذى قامت به خلال فترة علاجى.
ويضيف فوزى: وأنا فى الخارج كنت أستمع إلى الإذاعة أحيانًا، إنما خطب الريس كنا بنسمعها كلها، معرفش بقى يظهر كان له تأثير على الجو وبيخلينا نسمعه من كل مكان فى العالم.
ويؤكد فوزى: كنت أشعر بسعادة لا توصف لحظة استماعى لخطابات جمال عبدالناصر، وكنت أشعر بالقوة والاعتزاز، وكنت فخورًا بما يقوله الأجانب عن مصر، مبيقولوش مثلًا إنت من مصر، لا بيقولوا إنت من عند ناصر.
هذه الروح التى غنى وتحدث بها محمد فوزى عن عبدالناصر تجعل من الصعب أن يكون له رأى سلبى لا فى الثورة ولا فى رجالها، لكنه الهوى والغرض الذى يزور التاريخ لحاجة فى نفس من يفعلون ذلك.
يمكننا الآن أن ننتقل إلى مسألة تأميم شركة «مصر فون» التى كان يملكها فوزى، وهو التأميم الذى تم فى يوليو ١٩٦١ تطبيقًا لصدور القرارات الاشتراكية، ولم تكن شركة فوزى هى الوحيدة التى خضعت للتأميم، فقد كانت هناك مئات الشركات غيرها.
كانت ملكية شركة «مصر فون» تتوزع على النحو التالى: ٢٥ بالمائة من الأسهم مملوكة لمحمد فوزى، و٢٥ بالمائة مملوكة للسيدة أم كلثوم، أما الـ٥٠ بالمائة المتبقية من الأسهم، فقد كانت تمتلكها شركة فيليبس، وهو ما جعل قرار التأميم ينطبق على الشركة لأن بها شريكًا أجنبيًا.
وهنا لا بد أن نتوقف أمام ملاحظة مهمة، وهى أن قرارات التأميم لم يكن يتم تطبيقها طبقًا للهوى، أو بسبب خلافات سياسية، فلو فرضنا أن عبدالناصر أمم شركة فوزى لأنه رفض أن يغنى له وللثورة، وهو ما لم يحدث، فلماذا لم يراعِ عبدالناصر شراكة أم كلثوم فى الشركة، وهى التى لم تقل له لا، بل كان عبدالناصر واحدًا من مريديها ومحبيها؟
طبقًا لقرار التأميم الذى أصبحت به شركة «مصر فون» هى شركة «صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات»، وفى المادة الثالثة منه التى تقول: تؤدى الدولة قيمة ما آل إليها من أموال المنشآت المشار إليها بموجب سندات اسمية على الدولة لمدة خمس عشرة سنة بفائدة ٤ بالمائة، وتكون السندات قابلة للتداول بالبورصة.
ونزولًا على هذه المادة كانت شركة فوزى دينًا على الحكومة بموجب سندات بقيمة الشركة، وكان من حقه أن يبيع السندات فى البورصة أو أن يتصرف فى جزء منها كما يشاء.
لم يتم إخراج محمد فوزى من الشركة، بل تمت الاستعانة به حيث عُين مديرًا للشركة باسمها الجديد، وظل يعمل بها حتى دخل فى أزمة مرضه فى العام ١٩٦٥، ورغم أن هناك من حاول الإشارة إلى أن فوزى أصيب بالمرض بسبب إساءة معاملته فى الشركة، إلا أن شيئًا من هذا لم يحدث.
وهنا يمكن أن نستشهد بما قاله نجله الدكتور منير الذى كان يتحدث فى حوار مطول مع مجلة الكواكب فى ٢٨ أغسطس ٢٠١٨، حيث قال: رغم تأميم بعض ممتلكات محمد فوزى مثله مثل غيره لم يكن ضد ثورة ٢٣ يوليو، ولم أسمع منه يومًا أنه اشتكى أو قال شيئًا سيئًا عنها، ولم تتخل عنه الدولة وقتها فى مرضه وسفره إلى أمريكا وألمانيا لتلقى العلاج فى آخر أيامه.
لم يكن محمد فوزى مريضًا عاديًا، فشل الأطباء فى مصر فى تشخيص دائه، فأطلقوا على مرضه «مرض فوزى» وعندما علم الرئيس عبدالناصر بحالته أصدر قرارًا بعلاجه على نفقة الدولة، فتوجه فى البداية إلى لندن لكنه لم يعثر على علاجه، فسافر إلى ألمانيا ومن هناك أصدر الأطباء بيانًا قالوا فيه إنهم لم يتوصلوا إلى معرفة مرضه الحقيقى، ولا كيفية علاجه، وأنه خامس شخص فى العالم يصيبه هذا المرض.
بعد سنوات تم تشخيص مرض فوزى بأنه كان تليفًا فى الغشاء البروتينى الخلفى ونتج عن أورام سرطانية، وكان المرض منتشرًا وقتها دون توصيفه بشكل دقيق.
السؤال الآن، وهو السؤال الأخير: هل مات محمد فوزى فقيرًا؟ هل كان تأميم شركته وراء ضياعه وتبديد ثروته؟
هنا يمكننا أن نستعين بتقرير صحفى نشر بعد وفاته كان عنوانه «مأساة فى بيت محمد فوزى.. لم يختلفوا فى حياته واختلفوا بعد وفاته والموضوع هو الثروة المتبقية».
فى هذا التقرير الذى كتبه المحرر الفنى حسين عثمان فى مجلة الكواكب نتعرف على حجم الثروة التى تركها محمد فوزى، فقد كانت تركته عبارة عن شقة فاخرة فى برج جاردن سيتى، وشقة فى المعمورة فى الإسكندرية، وشقة ثالثة فى عمارة الإيموبيليا بالقاهرة، كان بها بعض المكاتب والكراسى، ودولاب ملابس يحتوى على مائتى بدلة منها حوالى ١٥٠ بدلة جديدة لم يرتدها فوزى بسبب مرضه، هذا غير أرصدته فى عدد من البنوك.
لم يقتصر تقرير حسين عثمان على رصد التركة ولكنه أورد بعضًا من الحكايات الجانبية التى تؤكد الصراع على التركة.
فقد طالب أولاد فوزى من زوجته الأولى زوجته الثالثة الفنانة كريمة التى كانت تُعرف بفاتنة المعادى بساعة والدهم الرولكس التى كان ثمنها وقتها مائة جنيه، وكان فوزى قد وعد ابنه الأكبر نبيل بإهدائها له، لكن كريمة رفضت وتمكست بها باعتبارها ذكرى من زوجها.
ويحكى عثمان أنه بعد عشرة أيام من وفاة الموسيقار محمد فوزى سافرت الفنانة مديحة يسرى، التى كانت زوجته الثانية، إلى الإسكندرية للعمل فى أحد الأفلام، وكان مكان التصوير فى المعمورة بجوار الفيلا التى كان يستأجرها فوزى فى إجازة الصيف، وأنها رأت سيارة نقل وعمالًا ينقلون إليها بعض الأثاث، وعرفت مديحة أن أحد أقارب كريمة ينقل محتويات الفيلا، وأنها أبلغت الشرطة التى تدخلت وأعادت الأثاث إلى الفيلا وأغلقتها ووضعتها تحت الحراسة حتى تنتهى إجراءات إعلام الوراثة.
وقبل مرور أربعين يومًا على وفاة فوزى، قامت زوجته الثالثة كريمة برفع دعوى قضائية ضد أولاده من زوجته الأولى اتهمتهم فيها بالاستيلاء على منقولات شقة برج جاردن سيتى، فسارعوا باتهامها بالاستيلاء على ملابس والدهم التى كانت فى شقة الإيموبيليا، وحاول أصدقاء فوزى الإصلاح فيما بينهم، لكن كل محاولات الصلح فشلت بشكل كامل.
لم يمت فوزى فقيرًا إذن، بل ترك وراءه تركة كبيرة كانت سببًا فى صراع عنيف بين ورثته.
غفر الله لمحمد فوزى الذى توفى فى ٢٠ أكتوبر ١٩٦٦، ورد كيد من حاولوا أن يستخدموه بعد كل هذه السنوات للإساءة إلى الثورة وإلى جمال عبدالناصر إلى صدورهم.