الروبوت البرى.. فيلم رسوم متحركة يتنبأ باكتساب الآلة للمشاعر والعاطفة!
- الفيلم يتحدى الفهم التقليدى للإنسانية ويتعاطى مع جدلية المشاعر والهوية
- القصة تتجاوز أبعادها السطحية لتجذب المشاهد نحو إعادة التفكير فى علاقته بالعالم والآلة والطبيعة
من قاعات السينما الغربية إلى السينمات العربية، استطاع فيلم الأنيميشن «الروبوت البرى»، المأخوذ عن كتاب للأطفال للمؤلف بيتر براون نشر فى عام 2016 بنفس العنوان، الاستحواذ على اهتمام المشاهدين والنقاد من مختلف الأعمار، ليصبح من أكثر الأفلام التى نالت تقييمات مرتفعة خلال هذا العام.
أسباب عديدة تجعل أفلام الرسوم المتحركة بشكل عام تحظى باهتمام وتقدير كبيرين. فمن خلال قصة بسيطة، تتيح هذه الأفلام استكشاف أعماق المشاعر الإنسانية بطرق غير تقليدية. وبينما تحقق نجاحًا فى تقديم الترفيه والتسلية للأطفال، تحمل فى طياتها خطابًا عميقًا وأسئلة مثيرة للتفكير. فضلًا عن أنها فى تجسيدها لشخصيات بأشكال غير بشرية، يتمكن المشاهدون من رؤية أنفسهم فى تجارب متنوعة، ما يعزز التعاطف ويساعد على فهم المشاعر بشكل أعمق. كما تتميز هذه الأفلام بقدرتها على تناول قضايا اجتماعية وثقافية قد تكون ملحة، بطريقة سلسة ومشوقة.
من هنا، يمكن فهم التقدير الكبير الذى حظى به فيلم «الروبوت البرى»، فمن خلال قصة بسيطة عن روبوت ضلّ طريقه وإوز يتيم فقد عائلته، يثير الفيلم مشاعر المشاهدين ويمكنهم من رؤية ذواتهم بمواقف وتحديات مختلفة، كما يفتح الباب واسعًا لأسئلة حول ماهية المشاعر الإنسانية، وما إن كان من الممكن للآلة اكتسابها، والآفاق المنتظرة مستقبلًا من حياة مشتركة مع الروبوتات، ويعيد الفيلم على نحو غير مباشر إثارة التخوفات والتساؤلات حول مصير جنسنا البشرى.
الروبوت فى حياة برية
يتناول الفيلم، الذى أخرجه كريس ساندرز، قصة الروبوت روز، التى تصل إلى جزيرة بعد حادث غرق بدلًا من أن تصل إلى وجهتها. هناك، لا تجد أيًا من البشر، الذين تفرض عليها برمجتها أن تساعدهم فى أى مهمة يطلبونها، لكنها بالمقابل تجد الحيوانات البرية التى تفر منها خائفة رغم محاولتها القيام بأى مهمة من خلالها يمكنها المساعدة. وبينما تحاول روز إيجاد مكان لها فى هذا العالم الغريب، تتسبب عن طريق الخطأ فى مقتل عائلة من الإوز لا يبقى منها سوى بيضة، تعمل روز على حماية البيضة حتى تخرج الإوزة الوليدة منها، ثم تتولى مسئولية تربيتها وتعليمها حياة جنسها.
تقضى الروبوت روز أيامًا فى محاولة تعلُم لغة الحيوانات كى يكون بمقدروها التواصل معها. وبالفعل، تنجح فى مهمتها وتصير قادرة على التواصل معها. ولكن رحلة التعلم لا تقف عند حدود ذلك، إذ إن الروبوت، المعتمدة على برمجة آلية، تصير قادرة على أن تكتسب مشاعر الحب والصداقة والأمومة، وتنجح فى أن تنال ثقة وحب الحيوانات من حولها، والأهم أنها تتصرف باعتبارها أمًا متجاوزة بذلك طبيعتها الآلية وبرمجتها المسبقة، وهو ما ستحاربه لاحقًا الشركة المؤسسة التى تسعى أكثر من مرة لإعادتها لبرمجتها ولاستكشاف الآلية التى من خلالها حدثت كل تلك التغيرات لها.
القصة تنأى عن عالم البشر، حيث العلاقات فى الفيلم بين روبوت وحيوانات، لكنها مع ذلك تطرح الأسئلة المعقدة لعالم اليوم على نحو أكثر بساطة مجردة إياه من طابع الصراع. يكتشف الفيلم الإمكانات المحتملة لعالم الروبوتات فى المستقبل، متخليًا عن وضعه فى إطار صراع تقليدى، ومتبنيًا نظرة أكثر تفاؤلًا بالإمكانات الهائلة الموعودة لجنة الروبوت المنتظرة. فبإمكان الروبوت، حسبما صوّره الفيلم، أن يكون أكثر الأصدقاء إخلاصًا، وأمًا بديلة ترعى ببراعة وكفاءة غير معهودة، كما بمقدوره أن يعيد ترتيب العالم من حوله بتعليم المحيطين ضرورة تجاوز النقائص الذاتية والتفكير فى مصلحة الجماعة وأساليب العيش الجماعى فى وئام.
تجيد «روز» فهم الدروس التى يلقنها لها «الثعلب؛ فينك»، وهذا الفهم يتجاوز بكثير مجرد التطبيق الآلى للنصائح والتوجيهات التى تُعطى لها. فعلى الرغم من كونها روبوتًا مُصممًا لأداء وظائف معينة، تستطيع التطور إلى حد يجعلها قادرة على التفكير المنطقى والعقلانى. وبفضل هذا التطور، تصبح قادرة على تقييم النصائح والمعلومات المعروضة أمامها بعمق، مما يُمكنها من قبول ما يتناسب مع احتياجاتها ورؤيتها الجديدة، أو رفض ما قد تعتبره غير ملائم. وفى جميع الأحوال، تجد «روز» أنها قادرة على تجاوز تلك النصائح إلى آفاق أفضل، فتسعى دائمًا إلى تحسين تجربتها واكتساب خبرات جديدة تُثرى حياتها فى العالم الغريب الذى وجدت نفسها فيه.
ردود أفعال قوية
على مدار الأسابيع الماضية، ظل فيلم «الروبوت البرى» محط اهتمام إعلامى غربى، وقدّم الكثير من المراجعات المشيدة به. فى صحيفة «الجارديان»، أشاد مقال بالصنع المتقن للفيلم، وجاء فيه: الفيلم متقن الصنع من جميع النواحى، وأحد أعمدته الأساسية الأداء الصوتى المميز للوبينا نيونجو التى تُجسّد شخصية الروبوت «روز» الذى يجد نفسه عالقًا فى جزيرة مليئة بالحيوانات البرية، فتنقل تطوّر شخصيته من الذكاء الاصطناعى البارد والشبيه بـ «سيرى»، إلى شخصية مثقلة بالتجارب فى النهاية.
فى مقال بصحيفة «التلجراف» يقول الكاتب: لم تفتقر الرسوم المتحركة فى العقود الأخيرة إلى الإبهار التكنولوجى، لكن من الصعب تذكر وقت كانت فيه التكنولوجيا المتقدمة تُشعرنا بهذا القدر من الفن. يرى الكاتب أن الفيلم يكتسب تميزه من التسلسل المحكم والواضح الذى يؤدى إلى ذروة عاطفية مشابهة لفيلم Inside Out. كما أن الطريقة التى يستخدم بها ساندرز وفريقه الأسلوب البصرى للفيلم لتصوير تحول روز إلى دور الأم مميزة، إذ يبدأ جسد روز تجسيدًا لآلة، لكن مهمة تربية «برايتبيل» تترك على الجسد علامات وخدوشًا بمرور الوقت، هذه العلامات تبدو وكأنها تضفى جمالًا طبيعيًا. علاوة على ذلك، فإن تصميم روز الجسدى يضعها فى سلسلة معينة من الروبوتات الأسطورية فى الرسوم المتحركة.
أما الموقع الهندى NDTV، فقد سلط الضوء فى تقريره عن الفيلم على الأبعاد العميقة التى تختبئ خلف بساطة القصة الظاهرية، مستعرضًا رسائل تتناول قيمة التعايش السلمى ومعاناة الفئات المهمشة والمستضعفة داخل الأنظمة البيئية التى يحكمها الأقوياء. تتشارك الروبوت روز والإوزة برايتبيل هذا الهامش فى عالم يبدو غريبًا عنهما؛ إذ ترى الحيوانات فى روز وحشًا منبوذًا، بينما تعامل برايتبيل بتجاهل. وعلى هذا النحو، يشكو الثعلب فينك من انعدام الثقة والقبول، ما يدفع هذه الكائنات الثلاثة إلى تشكيل فريق مترابط على الجزيرة، حيث تفرض الطبيعة قوانينها الصارمة، ويجد الجميع أنفسهم أمام خيار التعايش أو الوقوع ضحية لتراتب القوى.
وفى السياق، لفتت تقارير صحفية أخرى إلى أن أفلام الأنيميشن اليوم صارت قادرة على تغيير قواعد شباك التذاكر، بتفوقها على الكثير من الأفلام الشهيرة لكبار النجوم. إذ أشار تقرير نشر منذ أيام بموقع collider إلى أن الفيلم حقق إيرادات فى الولايات المتحدة الأمريكية وصلت إلى ١١١ مليون دولار، ما جعله من بين أكثر ١٠٠ فيلم خيال علمى تحقيقًا للإيرادات فى تاريخ شباك التذاكر الأمريكى. هذا النجاح، دفع صناع الفيلم إلى إعلانهم، بعد أسبوعين من عرضه، العمل على جزء ثان من الفيلم قريبًا.
أسئلة مطروحة
يمكن القول إن الفيلم بصورة عامة يتأمل فى أسئلة كبرى حول ماهية الحياة فى ظل التكنولوجيا، إلى أى مدى وبأى صورة قد تؤثر على علاقاتنا بالعالم المحيط، وعلى مدى قدرتنا على احتضان إنسانيتنا وسط ثورة تكنولوجية لا تتوقف. تتعلم «روز»، الروبوت التى تكتشف كيفية البقاء فى بيئة طبيعية معادية، أن الحياة تتجاوز الأوامر البرمجية الجافة إلى عالم آخر ينبض بالمشاعر والتعاطف والفهم، وهو ما يكسبها منظورًا جديدًا للحياة، إذ يتجسد فى «روز» المعنى المجازى لقدرتنا على التأقلم وفهم الآخر المختلف عنا، حتى وإن بدا فى البداية بعيدًا عنّا حد التعجب.
من خلال رحلة «روز» مع برايتبيل، يقدّم الفيلم دعوة للتأمل فى معانى الأمومة والتواصل. تتحول «روز» من مجرد آلة مصنوعة لأداء وظائف محددة إلى كائن يستشعر معنى المسئولية والحب من خلال تربية برايتبيل ورعايتها. إن قدرتها على تجاوز البرمجة المعتمدة إلى دور إنسانى عاطفى يجعل منها أيقونة للتضحية والرعاية، وهو ما ينعكس فى جهدها المضنى لتعليم برايتبيل الطيران والسباحة، لكى يكون قادرة على الاندماج فى السرب والهجرة فى الشتاء. تظهر «روز» كأنها نسمة من الرياح الصناعية، تحمل أجنحة برايتبيل نحو الحرية، حتى عندما يقاوم هذا الدعم. وتبرز مشاهد التعاطف بينهما وكأنها انعكاس لعلاقة أى أم بابنها، تلك العلاقة التى تتأرجح بين الحب والاستقلال، بين الحاجة والدفع نحو الاستقلالية.
انطلاقًا من قصته البسيطة، يتحدى الفيلم الفهم التقليدى للإنسانية، رغم عدم حضور البشر فعليًا، عبر تقنية الرسوم المتحركة. فمن خلال شخصية «روز»، الروبوت الذى يجد نفسه فى قلب الطبيعة البرية، يتعاطى الفيلم مع جدلية المشاعر والهوية، إذ يجعلنا نتساءل إذا ما كانت المشاعر سمة خاصة بالإنسان، أم أنها قابلة للاكتساب لتتضمن الذكاء الصناع؟.. تطرح رحلة «روز» التى تتعلم خلالها لغة الحيوانات وتكتشف الحب فكرة أن المشاعر قد لا تكون مقتصرة على التجارب البشرية فقط، بل هى جوهر الحياة بذاتها، وقد يكون من اليسير جدًا على الآلة اكتسابها.
يبشر الفيلم بيوتوبيا التكنولوجيا، فعالم الروبوتات المرتقب ليس وسيلة تهدد إنسانيتنا، بل على العكس، فإن له دورًا كبيرًا فى تعزيز الروابط الإنسانية وإعادتها إلى مسارها الصحيح. فى رحلة «روز» نحو اكتشاف الذات والمشاعر، يعرض الفيلم هذا الجانب الإيجابى للتكنولوجيا، إذ يمكن للروبوت التغلب على برمجتها المسبقة ليكون لها دور فى الصالح العام لمحيطها، تكتسب روز طبيعة خيّرة تدفع المحيطين بها للتخلى عن قانون الغاب، حيث البقاء للأقوى والضعفاء دومًا مهددون بالفناء.
تتجاوز اليوتوبيا التكنولوجية بالفيلم كل ذلك، لتصور إمكانية اكتساب أكثر المشاعر البشرية أو الطبيعية بشكل عام تعقيدًا، وهى مشاعر الأمومة، فالروبوت يصير بمقدورها امتلاك مشاعر أمومة تجاه الإوز «برايتبيل». هنا يتعدى الحب ومشاعر الأمومة لدى الروبوت مفهوم الواجب ليصبح سمة تكتسب من تربية الكائن الآخر؛ فتتجلى الرؤية اليوتوبية التى يطرحها الفيلم، إذ نجد «روز» تتمرد على طبيعتها الميكانيكية البحتة وتكتسب روح الأمومة، مما يعزز فكرة قدرة الآلة على محاكاة السلوكيات الإنسانية وتطويرها بشكل عميق.
ورغم أن الفيلم يدعو للتفاؤل، فإنه على الجانب الآخر يستثير الريبة، رغمًا عنه، من مصير الإنسانية إن تحققت تلك الرؤية التفاؤلية مستقبلًا. إن نجاح روز فى أن تمتلك أكثر المشاعر الإنسانية رهافة، واضطلاعها بنجاح بأكثر المهمات الأمومية المنطلقة من دوافع عاطفية لا عقلانية، يجعلنا نتساءل: إلى ماذا سيئول مستقبل البشر إن عاشوا مع كائنات تتفوق عليهم، ليس فقط فى العقل والتحليل والحسابات المنطقية والرياضية، وإنما أيضًا فى العاطفة والمشاعر؟
مثل تلك الأسئلة تجعل الفيلم مثالًا حيًّا على قدرة الفن على طرح أسئلة وجودية وتقديم مادة للتفكير النقدى عبر قصة تتجاوز أبعادها السطحية لتجذب المشاهد نحو إعادة التفكير فى علاقتنا بالعالم والآلة والطبيعة.