الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المستبصر.. هل رأى محمود العلايلى وقائع وفاته فى روايته الأخيرة؟

محمود العلايلى
محمود العلايلى

- سيدات فى حداد وجثة تصدروا غلاف «عزرائيل وطقوس الدماء الذهبية»

- الراحل يقول فى تصدير الرواية: «الموت يطاردنى من أيام وأسابيع»

- فاطمة ناعوت: «رأى موته ومع ذلك عاش الحياة كأنه سيعيش أبدًا»

فى منتصف مارس الماضى، صدرت رواية «عزرائيل وطقوس الدماء الذهبية»، عن مكتبة «مدبولى» للنشر والتوزيع، وبعدها بـ4 أشهر فقط، فى يوليو الماضى على وجه التحديد، توفى صاحبها طبيب الأسنان والإعلامى والسياسى، الدكتور محمود العلايلى، متأثرًا بمرض السرطان.

بعد الوفاة خرج الشاعر «إبراهيم داود» فى إحدى الفضائيات راثيًا صديقًا بقوله: «كان رجلًا محبا للحياة، له طلة نادرًا ما تتوافر لأحد. كان ضد التوريث، ولم يحب العمل فى السينما نظرًا لكونه ابن الفنان الكبير عزت العلايلى».

وأضاف «داود»: «كان قريبًا من أطياف المثقفين والسياسيين، ومناهضًا لجماعة الإخوان بشكل شرس، لم يهادنها ولم يحب تكتلاتها أو وجودها من الأساس، ويرى أنها الخراب الوحيد على مصر. كما كان مجنونًا بالتاريخ الفرعونى».

ورغم أن كل مقالات محمود العلايلى وكتاباته تؤكد أنه «كان محبًا للحياة»، كما وصفه «داود»، وقالته صديقته المقربة الشاعرة والكاتبة فاطمة ناعوت لـ«حرف»- يمكن القول إن هذا الرجل أبصر موته، فى روايته سالفة الذكر، تمامًا مثلما تحكى القصص الصوفية عن رجال يحملون عصيهم ويشيرون لمواضع موتهم.. فما القصة؟

خايف أموت

منذ ١٠ سنوات أصيب الدكتور محمود العلايلى بمشكلة فى الكبد وتجاوزها. ومع أنه لم يكن مدخنًا أُصيب بسرطان الرئة، ليدخل نفق مرضه الأخير، قبل نشره غلاف روايته الأخيرة على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، وتحديدًا فى ١٧ مارس الماضى.

صدرت الرواية بغلاف تجلس فيه ٤ سيدات متشحات بالسواد، وبينهن جثة شاب مُسجى يشبه كثيرًا محمود العلايلى، وكأنه يهيئ نفسه إلى موت حتمى مقبل. وصحيح أن كلنا مُقبلون على تلك الحقيقة الوحيدة فى هذه الحياة، لكن يبدو أن «العلايلى» كان يراه قريبًا، قريبًا جدًا.

يقول «العلايلى» فى تصديره للرواية: «من أيام وأسابيع كان الموت بيطاردنى، كنت خايف أموت»، مضيفًا: «إحنا بقينا نتكلم عن الموت أكتر ما بنتكلم عن الشغل والأكل والعيال. أنا كنت فاكر إن عزرائيل شغلته يقبض الأرواح بس، لكن طلع إنه ممكن يدمر حياة الناس وهما عايشين».

كل شىء فى الرواية كان عبارة عن «نبوءة» بالموت، كأن «العلايلى» يكتب آخر لحظاته، فى استبصار غريب من رجل نقى القلب والسريرة، رجل صوفى بامتياز، ومثل كل الصوفيين، كان عدوًا لجماعة «الإخوان» وغيرها من المتاجرين بالدين.

كان «العلايلى» يرى الزائر القادم بكل وضوح: الموت، وكان يهيئ نفسه للرحيل. وفى نفس الوقت لم يفصح عن مرضه الخطير لأصدقائه، وكأنه يرى أن المرض رسول، وسر لا ينبغى البوح به لأحد.

وبالرغم من أنه كتب الرواية قبل مرضه الأخير، كان واضحًا فيها، يغمض عينيه ويكتب، وكأنه كان يكتب نفسه فى فعل مستقبلى، يطير إلى رحاب أيام وأسابيع مقبلة، فيرى «العلايلى» محمولًا على الأعناق، ومن خلفه جمع كبير يشيعه إلى مثواه الأخير.

وبالفعل، فاضت روح الدكتور محمود العلايلى إلى بارئها، فى يوليو الماضى، ليصيب الحزن الكبير القاسى كل من عرفه، سواء كمثقف أو سياسى أو طبيب أسنان أو إعلامى شهير، أو حتى ابنًا للفنان عزت العلايلى.

عزيز

فى رواية «عزرائيل وطقوس الدماء الذهبية» تبرز شخصية «عزيز»، الذى يريد التبرع بأعضائه بعد وفاته، وبالفعل يقرأ الإجراءات اللازمة لهذا الفعل الإنسانى، ولا يتوقف عند هذا الحد، بل يحاول إقناع الكثيرين بالتبرع بأعضائهم بعد وفاتهم ليستفيد منها الأحياء.

و«الدماء الذهبية» فى عنوان الرواية يُقصد بها الفصائل النادرة من المتبرعين بأعضائهم، وتسمى «ذهبية» لأن هناك عددًا قليلًا جدًا ممن يملكون هذه الفصائل.

وضمن أحداث الرواية، يقابل «عزيز» رجلًا لديه ابن مريض بالفشل الكلوى، يشكو له فقره، وعدم امتلاكه النقود اللازمة لشراء كلية، فيخبره «عزيز» بأنه أمامه، وحين يموت يمكنه أخذ أى عضو يشاء.

يقابل «عزيز» الكثير من الأشخاص الذين يحاولون الاتفاق معه على أخذ بعض أعضائه بعد رحيله، وكلهم يتمنون موته فى أقرب فرصة. لكنه كان يحقق نجاحًا تلو الآخر فى عمله.

شركة من غانا تطلب من «عزيز» أن يتولى مهام التصدير لهم، ويكون مندوبهم فى مصر، لكنه لم يقابل العرض بالأهمية، قبل أن يسافر إلى أكرا ويقابل «كوفى» و«جورج» العاملين فى هذه الشركة، إلى جانب رئيسها «بيتر جوناثان».

يكتشف «عزيز» أن هذا المدير مصاب بفشل كلوى أيضًا، وأن عرض العمل كان للتحايل عليه من إجل إخضاعه لتحاليل طبية، والحصول على كليته لصالح هذا المدير، خاصة أن فصائل الدم بينهما مُتطابقة.

يخاف «عزيز» لكنهم يطمئنونه، ويغادر إلى مصر، لكنه يفاجأ بأن «مستر بيتر» تبعه إلى القاهرة، لأنه كان ميتًا قبل أن يراه، وهو من منحه الأمل فى حياة جديدة.

يخبره «بيتر» فى القاهرة بأنه يريد منه التبرع فى حياته وليس بعد موته، وإنه كان يمكنه أن يشترى «كلية» تعمل بشكل جيد. لكن الفصائل غير متطابقة، وأن «عزيز» واحد من أصحاب «الدماء الذهبية» النادرة.

على الجانب الآخر، هناك «سلوى» زوجة «سيد»، التى تراقب «عزيز» بشكل متواصل، انتظارًا لاستغلال وفاته فى نجاة زوجها المريض، ليجد «عزيز» نفسه مُطاردًا من الجميع للتبرع بأعضائه، حتى يفاجأ بأمر غائب عن الجميع، أن «عزرائيل لا يأتى للمقبلين على الموت»!

الرواية فى مجملها يسيطر عليها هاجس الموت، الكل يريد موت «عزيز»، الكل يحتاجه ميتًا وليس حيًا، الكل يتمنى رؤية سيارة تصطدم به، أو يحدث له وقوع مفاجئ من عَلٍ، أو أى وسيلة تضمن له موتًا آمنًا، وتترك جسده بحالة جيدة يمكن معها أن يستفيدوا بأعضائه.

ويطل الموت فى الرواية كضيف مرحب به دائمًا، بل يصبح أمنية لمن قرأوا إعلان «عزيز» عن تبرعه بأعضائه، أمنية حقيقية، ففى موته حياة لهم، لذا الجميع يحبون الموت له والحياة لهم، فى مفارقة عجيبة.

محاكمة القمح

توفى محمود العلايلى بعد صدور الرواية بـ٣ أشهر. ولم يكن قد مهد لموته بين أصدقائه. ولم يكن أحدهم قد قرأ الرواية حتى يفكر فى الأمر..

كيف قرأ «العلايلى» موته بهذا الشكل؟، موت «عزيز»، وموت كل شىء جميل من حوله، كيف تحول فى الرواية إلى رجل مطلوب للموت، ومثل اسمه، كان عزيزًا على هذا الموت؟

لكن «عزيز» الذى كان يتمنى الموت فى الرواية، مات بالفعل فى الحقيقة، مات حتى يمنح الجميع ذلك التساؤل الكبير: كيف قرأ محمود العلايلى موته بهذا الشكل، وهل كان مستبصرًا فعلًا؟

مِن بين مَن أجابوا عن هذا السؤال الشاعرة فاطمة ناعوت، التى أفردت فصلًا كاملًا عن «العلايلى»، فى كتابها «محاكمة القمح.. حوار مع صديقى المتطرف».

قالت فاطمة ناعوت فى كتابها، موجهة الحديث إلى «العلايلى»: «كيف يحقُّ لك أن تمضى قبل أن أوقّعَ لك نسخةً من كتابى (حوار مع صديقى المتطرِّف)، الذى أقنعتنى بضرورة إعادة طباعته من جديد، تحت عنوان: (محاكمةُ القمح)، عسانا نسهمُ فى تنبيه النشء الصغير لخطر جماعة الإخوان، الذى عشناه نحنُ، ولم يعشه الصغار؟!».

وأضافت: «كيف ترحل قبل أن ترى الكتاب الذى قلت إنه جرس إنذار للأجيال الجديدة لئلا تقع فى شرك الجماعة الإرهابية، التى تكيد للوطن منذ عام ١٩٢٨ وما زالت، ولا تزالُ؟!».

وواصلت: «كتابى، الذى تدورُ صفحاتُه الآن فى المطابع يعود إليك فضل ميلاده الجديد. فأنت من قرأ الكتاب وقت صدوره قبل ٨ سنوات وتحمس له، وأنت من ناقشه فى (صالون علمانيون) فى أبريل الماضى، مع الصديق أحمد سامر، وأنت من تكلم عن أهمية طباعته مُجددًا، واقترح دار النشر، وأنت من عطل نفسه عن أعماله، فى أحد صباحات مايو الماضى، ليلتقى بى فى مكتبة مدبولى بوسط البلد، لنقدم نسخةً من الكتاب للصديق محمود مدبولى، ونشرح له أهميته وضرورة طباعته، وأنت من وعدتُه بتوقيع النسخة الأولى له».

وأكملت: «لهذا، عوضًا عن توقيع إهداءٍ عابرٍ مكتوبٍ بخط اليد على صفحة الكتاب الأولى بالقلم الحبر، سيكونُ الإهداءُ مطبوعًا فى صدره كجزء أصيل من متنه. ومثلما أهديت الكتاب فى طبعته الأولى عام ٢٠١٦ إلى مُحيى الدّين بن عربى وغاندى وجبران وجلال الدين الرومى، وغيرهم من رسل السلام والمحبة، وكذلك إلى ابنى عمر عساه يعيش فى مجتمع عادل خير، يليق بجماله ونقائه، أهديه اليوم إلى روحك الوطنية المثقفة أيها الصديق النبيل: الدكتور محمود العلايلى، الذى غدرنا وغادرنا مبكرًا جدًا».

المستبصر

تواصلت «حرف» بدورها مع الشاعرة فاطمة ناعوت للإجابة عن سؤال: هل تنبأ محمود العلايلى بموته قبل الرحيل؟ فقالت: «كلنا فوجئنا بموت محمود العلايلى. أنا تواصلت مع زوجته، وقالت إنه لم يكن يدرك بمرضه، كان متفاجئًا، هل كان يعرف ولم يذكره، لا أعرف».

وأضافت فاطمة ناعوت: «فى اللا وعى، كان محمود العلايلى يشعر بموته، وهذا ما بينه فى روايته الأخيرة. لكنه وحتى آخر يوم كان يلعب التنس، كان يحيا كأنه سيعيش أبدًا. كان فى الحياة مقاتلًا وتنويريًا وجريئًا وجسورًا ووطنيًا إلى أقصى حد».

وواصلت: «الحقيقة أن الرواية تحمل سمات صوفية. كُتبت بحس صوفى رهيف. ليس تنبؤًا بالموت بقدر ما هو استبصار. مكتوبة بشكل أدبى، واستشراف الفنان والشاعر. هو شاعر بالمعنى الوجودى. روح صوفية متصوفة شفافة، تستشرف ما هى مقبلة عليه».

وأكملت: «الأنقياء دائمًا لديهم استشراف. الله يمنح الطيبين الأنقياء بصيرة بدنو الأجل، وهذا يسمح لهم بمساحة من الترتيب الدنيوى والأخروى فى العلاقة مع الله لضبط ميزانها، وترتيب الأمور مع الأولاد، وغيرها».

وأشارت إلى نشرها قصة قصيرة فى «حرف» بعنوان «أول كل شهر»، تدور حول موتها، ودخول ابنها «عمر» فى حالة من عدم القدرة على فعل أى شىء، فتطلب من الله أن تنزل مرة كل شهر لرعايته.

واختتمت بقولها: «محمود العلايلى كتب فى الرواية ما لا يستطيع كتابته فى غير عمل فنى. وفى الأخير الله أعلم فيما كان يفكر فيه. لكننى أعرف أنه استشراف حقيقى».