رحلة صحفية فى عالم محمد منير من أول مطرب الوادى حتى الكينج
- خبر صغير فى الأهرام فى السبعينيات يوثق دور مخرجة التليفزيون علوية زكى فى الكشف عن منير
- الكواكب أرادت أن تطلق عليه فى بداياته مطرب الوادى.. لكن شخصية منير لم تتقبل حصار هذا اللقب الضيق
- منير أخذ قرار الهجرة إلى ألمانيا من على صفحات الأهرام العربى
- منير رأى أن تجربته تستحق أن تكون محور اهتمام الإعلام «أنا كفنان عاوز الإعلام يدلعنى مش أقدم ورقة دمغة عشان أغنيتى تتذاع»
نجم صاروخى أسمر.. نبوءة كمال الملاخ وخطأ الكواكب
كان الأمر يعنى الكثير لأى فنان، أن تتضمن الصفحة الأخيرة من جريدة الأهرام فى السبعينيات خبرًا عنه بإمضاء كمال الملاخ عمدة الصفحة وصانع هيبتها التاريخية.. فما بالك بشاب جديد ما زال يحبو فى الوسط الفنى المرتبك برحيل الأكابر.
لذلك بالتأكيد فإن عدد الأهرام الصادر يوم ١٩ سبتمبر ١٩٧٨ كان يعنى الكثير لمحمد منير حينها بينما هو يعيش فرحة الألبوم الثانى بنفس أبطال الشريط الأول وكان بعنوان «بنتولد»، وهو النجاح الذى على ما يبدو قد بدأ يلفت الأنظار لهذا الشاب القادم من الجنوب، فأعطاه شرف الذكر ضمن باب شريط الأخبار الذى يكتبه الملاخ بنفسه ومرفقة معه صورة مربعة لشاب باسم الوجه هادئ الملامح، وكان نص الخبر القصير كالآتى:
«نجم صاروخى أسمر بدأ يصعد إلى سماء الغناء والطرب فى مصر وهو الشاب النوبى محمد منير أبا يزيد: والذى اكتشفته مخرجة التليفزيون علوية زكى.. إنه بدأ يشق طريقه إلى المقدمة مع أنغامه النوبية المتطورة».
خبر الملاخ يلفت النظر إلى التفاتة مهمة ومنسية فى حياة منير قبل حتى أن يبدأ رحلته الاحترافية سنة ١٩٧٧ وهى مرحلة التتر التليفزيونى، حيث شاهد الناس لأول مرة اسم محمد منير على تتر مسلسل اسمه «اللسان المر»، كتبه الأديب والصحفى «عبدالوهاب الأسوانى» وكان من بطولة مديحة حمدى وفتى أسمر آخر كان ما زال يتلمس طريقه وسط الموجة الجديدة الهادرة بقيادة عادل إمام وهو أحمد زكى.
علوية زكى التى كانت من جيل الرواد من المخرجات فى التليفزيون الجهاز الوليد بداية الستينيات استمالها صوت منير الطازج المختلف عن السائد، فقررت أن يكون هو مغنى التتر، على الرغم من أنه حينها لم يكن قد أصابته أى مسحة احتراف، فقط مغنٍّ نوبى صوته جميل ويتحمس له مؤلف كلمات التتر عبدالرحيم منصور، فخرجت فعلًا أغنية التتر جميلة «كلمة ولحن» لتفتت الأنظار إليه حتى قبل أن يصدر الشريط الأول له.
كانت كلمات الملاخ على بساطتها وقلتها بمثابة النبوءة التى تحققت بعد ذلك لهذا الشاب ذى الـ٢٤ ربيعًا حينها، ونقفز إلى خبر آخر قصير نشر فى مجلة الكواكب عدد ٧ يوليو ١٩٨١ بعنوان «مطرب الوادى محمد منير»، الخبر قال إن المتحمسين لهذا الصوت الجديد يرون أن مطرب الوادى هو اللقب المناسب، لذلك كان هو نفسه عنوان الخبر، لكن ما سوف يتضح فيما بعد عبر تكشف شخصية هذا الشاب الأسمر أنه لا يمكن أن يليق على هذا اللقب الضيق لأن منير حلمه أبعد من ذلك السجن الذى يفرضه عليه المعنى المتضمن له، فهو وإن كان قادمًا من جنوب وادى النيل الطيب لكنه لا يمكن أن يصنف بأنه مطرب نوبى موهوب والسلام، ومع الأيام والسنين المقبلة ستكتشف أن فكرة ربطه بالنوبة فقط كان على غير هوى منير الذى أبدى غضبه من ذلك، والدليل أنه لم يغال مثلًا فى استخدام الأدوات الثقافية لبيئته الأصلية فلن تجده مثلًا يرتدى الزى النوبى إلا فيما ندر بل استطاع أن يجبر الجميع أن تكون هيئته هى آخر ما يتم التفكير فيه، وبالتالى يكون التركيز الأكبر على فنه وصوته والمعانى التى تعج بها أغانيه، فهو الشاب الذى يرتدى قميصًا وبنطلونًا دائمًا، مثل الذى يرتديه كل من يستمع إليه ولا يبذل جهدًا فى تصفيف شعره أو محاولة خلق صورة نمطية عنه مثلما يفعل منافسوه.. والمفارقة أن تلك البساطة المدهشة كانت هى النمط بعينه والشخصية التى خلقها فى ذهن الناس عنه.
لذلك كله لم يعش لقب «مطرب الوادى» ولم يلتصق بالسطح المنيرى الذى يرفض التنميط والحصار فكان الأليق عليه هو اللقب الذى جاء إليه صاغرًا والتصق به حتى الآن وهو لقب «الكينج أو الملك».
على كل حال نعود إلى خبر الكواكب القصير الذى يستمد أهميته من أهمية الألبوم الذى يبشر به، حيث يتحدث الخبر عن انتهاء المطرب محمد منير أحد أبناء جنوب الوادى- على حد وصف الخبر- من تسجيل أغانى شريط الكاسيت رقم ٣ الذى يضم عدة أغانٍ متنوعة الطابع، اشترك فى تأليفها مجدى نجيب وفؤاد حداد وعبدالرحيم منصور وسيد حجاب، وقام بتلحينها هانى شنودة وأحمد منيب وعازف الجيتار عزيز الناصر.
الخبر كان يتحدث عن الألبوم الطفرة «شبابيك» وهو الشريط الذى أسس لمرحلة جديدة لمستقبل فنى يبدو مبشرًا، لذلك المطرب الأسمر بغض النظر عن ذلك فإن هذا الخبر لم يكن صحيحًا فى بعض تفاصيله، وقد ذكر أن هانى شنودة من ملحنى الألبوم وهو ما لم يحدث، كما لم يذكر بطل الألبوم الآخر الذى دخل حياة منير فى تلك السنة ليحدث بها انقلابًا حقيقيًا واسمه يحيى خليل.
يحيى ومنير.. الحلم لا يعيش إلا برأس واحدة
على أى حال فقد صدر ألبوم «شبابيك» فى بداية الثمانينيات ليكون بمثابة نقطة الانطلاق الحقيقية للحلم المنيرى، وهو الحلم الذى وافق هوى جيل جديد شب عن طوقه مع تلك الحقبة الجديدة فى كل شىء من عمر الوطن.
تأمل معى الظروف التى خرج فيها هذا الشريط، حيث عايش الجيل الجديد نهاية الفترة الساداتية بما شهدته من انتصار أسطورى تبعه بعض القرارات والسياسات التى رأى فيها هذا الجيل الثائر أنها تأخذ من رصيد الوطن المنتصر لصالح سلام مع الكيان الصهيونى المهزوم على أرض المعركة.. وهو نفس الجيل الذى بدأ يدفعه تمرده على الواقع إلى البحث عن أصوات وكلمات جديدة تعبر عن أحلامه، حيث شعر بأنه غير مضطر لاستلام ذوق الجيل السابق عليه كما هو، حتى لو كان هذا الذوق يخص جبالًا راسخة فى الوجدان مثل أم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب.. والمتتبع بعد ذلك لحوارات منير بعد أن زادت ثقته بنفسه وصار مشروعًا فنيًا متكاملًا سيجد ظلال هذا التمرد فى كلامه الذى كان يبدو حادًا و لاذعًا، حيث اعتاد تسمية الغناء الأقدم منه «الغنا العثمانلى» القائم على الهجر والعذاب والوصال، و«أمان يالالى».
ولا يمكن أن ننكر تطرف تلك النبرة المونيرية لكنها فى الوقت ذاته كانت معبرة عن جيل جديد «لا يعجبه العجب» ممتلئ عن آخره بالتمرد ويبحث عن كلمات وأنغام جديدة توافق هذا التمرد.. ويبدو أنه قد وجد ضالته فى محمد منير الذى كان حريصًا على البحث عن جمهور آخر غير جمهور الملاهى الليلية والأفراح مثل باقى جيله، فتجده بإيعاز أو ترتيب من يحيى خليل يقيم حفلات فى الجامعات التى كانت تضج بالتمرد حينها وتبدأ عينا منير تنفتح على ثقافات جديدة أيضًا بقوة دفع يحيى خليل الذى كان يرى فى منير أنه رأس الحربة لمشروعه هو الشخصى، كما ظهر فى كل أحاديثه قبل وبعد الانفصال بينهما، والذى كان نتيجة طبيعية فى رأيى لاستحالة أن يسمح أحدهما للآخر- أقصد منير وخليل- أن يكون هو ربان سفينة المشروع الأوحد والآخر هو إحدى أدواته، وهى المعركة التى ظلت قائمة على ما يبدو بين الثنائى حتى وصلا إلى حائط سد كان على منير حينها أن يبحث عن طريق آخر غير طريق يحيى خليل، بعد نجاحات ساحقة لأكثر من ألبوم بعد «شبابيك»، وهو الأمر الذى ترك غصة لم تندمل فى حلق يحيى خليل الذى كان يشعر باستحقاق كامل لكل المجد المنيرى، ويرى نفسه عنصرًا رئيسيًا فى التكوين الأصيل لهذا المشروع الغنائى الجديد، ويظهر ذلك فى كل حوارات يحيى.
تعالى نقرأ ما قاله يحيى فى حوار لجريدة الجمهورية فى عدد ٢٨ أغسطس ١٩٩٠ ضمن باب ثابت باسم «موسيقى وغناء»، كان عبارة عن أسئلة قراء مرسلة بالفاكس أو التليفون يرد عليها الضيف لتنشر فى الأسبوع التالى، نرى رده الذى ينضح بالمرارة على سؤال قارئ «ما هى الأسباب الحقيقية لانفصالك عن منير وهل تأثرت فنيًا بالانفصال؟».
رد يحيى خليل كان انفجاريًا على الرغم من مرور سنوات على الانفصال حينها حيث قال بالنص:
«السبب أن النجاح الذى حققه معى كان أكبر من حجمه ما أدى إلى اختلال توازنه وجعله يتصور أنه كل شىء فى هذا النجاح»، ثم يستطرد خليل قائلًا: «ولا شك أننى تأثرت بالانفصال فقد أصبت بنوع من الإحباط وخيبة الأمل فى تحقيق حلمى الفنى الذى كان قد أوشك على التحقق لكن هذه المرحلة انتهت وبدأت أواصل مشوارى للبحث عن أصوات جديدة أحقق فيها حلمى، وانتهيت بالفعل من إعداد ألبوم جديد باسم «البنات» يتضمن ٧ أغانٍ نسائية فقط».
انتهى رد خليل وبغض النظر عن نجاح تجربتة الجديدة بعد ذلك من عدمها لكنه كان مؤشرًا قويًا على حالة المرارة الشديدة التى عاشها يحيى لانهيار حلمه الذى أراد بكل جوارحه أن ينتسب له كليًا بعد انفجارة «شبابيك» سنة ١٩٨١.
وعلى الرغم من أن يحيى خليل لم يتوقف قطار إبداعه وحقق نجاحات كبيرة فى مساره الذى حفره لنفسه باسم «الجاز المصرى» إلا أن تعاقب السنين لم تجعله ينسى خطيئة منير فى حقه من وجهة نظره. ولنقفز لنهاية التسعينيات عندما أجرى بشير حسن محرر الأهرام العربى فى عدد ٣ يوليو ١٩٩٩ تحقيقًا كبيرًا- سنتحدث عنه لاحقًا- كان يستطلع رأيه فيما أعلنه منير حينها من اعتزامه الهجرة إلى ألمانيا وترك مصر نهائيًا فكان رد يحيى حادًا لاذعًا حافلًا بالمرارة.. بدأ رده على سؤال الصحفى بسؤال آخر استنكارى:
ماذا قدم منير بعد أن تركته؟ ثم يجيب بنفسه على السؤال: هو يستثمر نجاحاتى معه فقط منير موجود فقط كنمرة فى الساحة وإذا كان يمثل لونًا غنائيًا فنحن صنعنا له هذا اللون ومنير لن يهاجر، فقط هو يريد أن يثير ضجة إعلامية حوله، هذا المطرب يسعى فقط وراء الفلوس فمنذ أيام قليلة سافر للغناء فى هولندا بدلًا من محمد فؤاد الذى طرأ عليه ظرف مفاجئ فاعتذر عن عدم السفر فكيف يقبل مطرب الغناء بدلًا من زميل له؟، وهو يعلم أن الجمهور فى هولندا ينتظر هذا الزميل والدعاية التى نشرها فى كل مكان خاصة به، ولو كان قادرًا على الصمود فى الساحة لاستمر فى نجاحه، كيف يعيش فى ألمانيا التى أشاع أنه سيهاجر إليها؟ حتى لو عاش فى أسوان سيظل بهذا الحجم.
بالطبع كلام يحيى خليل ملغم بالغضب العارم من الصديق القديم ورفيق الدرب وظنى الأقرب إلى اليقين أن خليل فى قرارة نفسه لم يكن يصدق هذا الكلام لأنه يعرف قيمة منير الفنية جيدًا لكن تلك الحرقة كانت ناتجة عن انهيار حلمه الشخصى بسبب منى، أو إن شئت أن تضع توصيفًا أقرب للمنطق فقل إن الحلم انتصر لمنير وليس ليحيى وصار قرينًا بابن النوبة وإن كان أحدًا لم ينكر دور يحيى خليل القوى فى انطلاقة منير الصاروخية بمن فيهم منير نفسه الذى اعترف بذلك قبل خلافهما، لكن هذا الأمر لا يلغى أن الحلم كان يخص منير فى المقام الأول فهو الصوت الذى ترسخ فى الوجدان وخلق تلك الحالة الجديدة من التلقى والتفاعل خاصة من الأجيال الجديدة التى انبهرت بمصطلحات تخاطب أحلامهم غمرت كل أغانى منير سواء التى وضع يحيى خليل لمساته عليها أو حتى البعيدة عنه فى ألبومى هانى شنودة الأولين أو حتى بعد نهاية تجربتهما معًا.
منير والإعلام.. «لا أحبك ولا أقدر على بعدك»
إذا كان يمكن أن نصُكَّ تعبيرًا جديدًا اسمه «الصفات المنيرية».. فيمكنك أن تكتب أسفله ما تشاء من صفات لكن لا بد أن تضع فى البداية صفتى التمرد والقلق الدائم وهو الأمر الذى تستطيع بكل بساطة أن تستشفه من كل ردوده فى حواراته سواء الصحفية أو التليفزيونية التى كانت تحمل نبرة حادة فى مجملها لكل ما يخالف رغبته فى التحرر من القيود التى فرضها العصر السابق عليه فنيًا فتجده يجاهر برفضه للقديم فى مرحلة متقدمة من حياته الفنية قبل حتى أن تكمل العقد الأول لها مثل هذا الحوار الذى أجراه للأهالى فى عددها الصادر يوم ٩ يوليو ١٩٨٦ فتجده يرد على الصحفى حامد العويضى الذى أبدى تعجبه من عدم وجوده على خريطة الإعلام الرسمى على الرغم من تواجد أغانيه بقوة على خريطة التجمعات الشبابية.. فيرد منير بحدة تغلفها مرارة قائلًا بالنص:
«قد أكون أنا شخصيًا مسئولًا عن عدم وجودى على خريطة الإعلام الرسمى ربما لأننى أرفض الأساليب التى يتبعها البعض لكى يظهروا ولا أملك مجهودًا إضافيًا للبحث عن وسائل لتقديم فنى من خلال أجهزة الإعلام وربما لأن الشكل الإعلامى الثابت المطروح للأغنية هو شكل فاشل من وجهة نظرى بالتالى يجعلنى أبتعد عنه، وثالثًا لأننى أرى أن الزعامات الغنائية المتصدرة لأجهزة الإعلام من كبار فنانينا يقدمون فنًا فاشلًا أيضًا».
وفى موضع آخر من الحوار الكاشف لشخصية منير المتمردة حتى على آليات نجاحه هو نفسه فتجده يقول عن الشعر: «أنا فخور بأننى أغنى لجيل رواد الكلمة فى مصر لكنى لن أكون فخورًا لو واصلت الغناء لهم عشر سنوات أخرى فمعنى ذلك ضمور فى الكلمة الشابة فى مصر.. وشعب مصر الذى خلق فؤاد حداد وعبدالرحيم منصور.. قادر على أن يخلق الكثير».
ثم يجمل منير رؤيته عن نفسه ولاحظ أنه كان لحظة إجرائه هذا الحوار يمتلك فى جراب عمره ٣٢ عامًا فقط ومع ذلك تجد رؤية متكاملة منضبطة تصب فى مصب الحلم المنيرى.. اقرأ معى:
«أنا أبحث دائمًا عن الكلمة الرافضة وتصورى أن دور الفنان هو أن يتعايش مع مجتمعه وواقع ومشاكل وأحلام وآمال هذا المجتمع ثم يرفض ذلك فى سبيل الانطلاق إلى واقع أفضل وعندما يتحقق هذا الواقع الأفضل لا يظل رافضًا غير الفنان لأنه دائمًا يتطلع إلى الواقع الأفضل من الأفضل لأنه له عين ناقدة تنشد الأجمل دائمًا ولذلك فالكلمة الرافضة تأسرنى».
ثم فى نفس الحوار يواصل هوايته فى هدم التابوهات فيقول عن الأغنية فى مصر إنها ما زالت محاصرة بأغانى الهجر والخصام والود والعزول القاسى، وهناك ألف موضوع للأغنية من الحياة بعيدًا عن هذه المعانى ولست ضد عواطف الحب فهى عواطف إنسانية وستظل موجودة لكننى أرفض الشكل السطحى والتافه لتناولها فهو شكل فيه انهزام وذلة».
ثم يبالغ فى انتقاده للواقع الإعلامى الذى يظلمه ويقول: «إذا واصلت أجهزة الإعلام سياستها هذه فأستطيع أن أؤكد لك أن الريادة المصرية للأغنية العربية سوف تنهار خلال خمس سنوات، والذى سيجعلها تدوم لخمس سنوات أخرى هو مجهودات بعض الفكر الشبابى الجرىء والحر وبصورة فردية وليس عن طريق الإعلام الذى تحنط».
ظل منير على تمرده ذلك وحنقه على تعاطى الإعلام مع تجربته وحلمه دون أن يتزحزح فنجده فى العام التالى عام ١٩٨٧ يرد بعنف على مقال كتبه الدكتور حمدى الجابرى حينها فى الوفد تحت عنوان «.. وسقطت الأغنية المصرية»، كان ينتقد فيها الاتجاهات الجديدة فى الأغنية، وهو الأمر الذى دفع صديقه ورفيق تجربته الأسطورية فى ألبوم شبابيك الشاعر مجدى نجيب أن يثير القضية للنقاش العام على صفحات مجلة الإذاعة والتليفزيون التى كان صحفيًا فيها ونشر فى عدد ٦ يونيو ١٩٨٧ وأخد آراء الجميع الذى طالهم هذا الاتهام، مثل هانى شنودة وجمال سلامة وسمير الطائر وغيرهم، وكان رد منير هو الأكثر قسوة ووضوحًا على كلام الجابرى، ويجدر بنا هنا أن ننشره كما أرسله منير لصديقه مجدى نجيب ونشره الأخير حرفيًا.. حيث جاء العنوان:
«لماذا الطعنة موجهة لضمائر التجارب الجادة؟»
عزيزى مجدى نجيب
قرأت فى العدد «١٤٠٧» تحت عنوان «قضية للمناقشة»، ردًا وتعليقًا على ما كتبه الدكتور الجابرى فى جريدة الوفد تحت عنوان: «.. وسقطت الأغنية المصرية».. وقد سبق لى الاطلاع على هذا المقال، واسمح لى أن أعترف بأن ردك على الدكتور كان رقيقًا كشخصك.. ولا يتناسب مع حجم الطعنة التى أصاب بها الدكتور الجابرى ضمائر كل التجارب الجادة الجديدة لهذا الجيل.. والجرح كل الجرح أن السيد الدكتور ينتمى لهذا القطاع العريض من رجال الإعلام.. وخاصة الإعلام الذى يتعلق بفروع الفنون.
وليعلم الدكتور أن سقوط الأغنية المصرية، إذا جاز هذا التعبير- هو قطعًا یعنی سقوط الرؤية وسقوط الوعى عند الكثير من رجال الإعلام.. ويمكن استنتاج ذلك من سطور الدكتور الجابرى، الذى يملك الكثير من الوقت الضائع والساقط الذى يقضيه أمام التليفزيون والإذاعة حسب تعبيره وقوله، متهمًا الجهازين بمساندتهم للمطربين الشبان.. وإضاعة ساعات الإرسال فيما يقدمونه. مهاجمًا وزير الإعلام لأن التليفزيون يقدم من خلال شاشته الصغيرة، هذه الأصوات التى تعكر مزاجه الموسيقى، فيهرب منها- مدعيًا أن الشباب يهرب معه- إلى سماع نماذج رديئة، متخلفة خارج حدود مصر.. مهاجمًا أيضًا «الكاسيت».. ونسى أن الكاسيت بكل سلبياته وإيجابياته، جهاز عملاق يقف فى أهمية التليفزيون والإذاعة..
ونسى الدكتور أيضًا عشرات الحفلات التى يقيمها شباب مصر فى الجامعات وداخل الأندية والمسارح المؤجرة.. وأن قطاع الشباب يمثل ٥٠٪ من سكان مصر.
ووضح أيضًا «الذوق الخاص» الذى يحبه ويألفه الدكتور الجابرى فى اختياره لتجارب عربية شديدة البهتان، ضاربًا عرض الحائط بتجارب عربية جادة.
وضح أيضًا تجمد روح البحث والاستماع.. واللا وعى بكل التجارب العالمية المعاصرة التى يجب ألا تغيب عليه كناقد فنى، وما يحدث فى العالم المعاصر من تيارات فنية، تحمل الجديد والوعى يومًا بيوم.
وواضح غياب معلوماته عن عمالقة الموسيقى فى العالم.. والذين يتجهون حاليًا فيما يشبه «الموضة» إلى الجذور الإفريقية التى نملك حقًا شرعيًا فى الانتماء إليها، وهم يبحثون فى أرتامها وإيقاعاتها، وينهلون من كنوزها الموسيقية، بدءًا من «النوبة المصرية»، حتى «إفريقيا العنصرية»، بحثًا عن الجديد والتجديد.. والجذور التراثية الصلبة.. يحدث هذا فى الوقت الذى لم يتعد فيه ذوق أستاذنا الجابرى سماع عوض الدوخى وشادى الخليج.
انتهى رد منير الحاد القوى المدافع عن حلمه وحلم جيله فى التجديد والتمرد ووصل حدة رده أن نبرة التهكم كانت عالية بصاحب الطرح الدكتور حمدى الجابرى الذى كان ناقدًا فنيًا ذا ثقل حينها، وهو ما يرسم صورة عن منير الذى حطم صورة الشاب النوبى الخجول الذى تشعر من طلته التليفزيونية مثلًا مع نجوى إبراهيم فى بداية حياته بالحياء الشديد والردود الخجولة المتحفظة والمقتضبة، وإن كانت لم تفقد بوصلة الحلم، لكن هنا فى رده على أطروحة تنتقص من حلمه تحول إلى وحش كاسر فى رده لا يألو على شىء، وتلك كانت النبرة السائدة لمنير فى أغلب حواراته التى أجراها بعد ذلك فى فترة التسعينيات التى شهدت فى آخرها قراره الذى لم ينفذ بالهجرة التامة إلى ألمانيا اعتراضًا على الوضع الفنى الراهن وعدم دعم الإعلام لتجربته الملهمة كما ينبغى.
الهجرة المستحيلة.. قراءة أخرى فى قنبلة منير فى التسعينيات
«المناخ الغنائى فى مصر لم يعد صحيًا، والمنافسة أصبحت غير شريفة، والمطرب الذى يسعى إلى النجومية، لا بد أن يصعد على جثث زملائه».
الضرب تحت الحزام أصبح السمة الغالبة فى الساحة والأغنية أوشكت على الانهيار بسبب دخول رجال الأعمال فى العملية الإنتاجية، لذلك سيتلاشى مطربون، وستطفو الطحالب الغنائية على السطح.
لم تفلح كل محاولات الإصلاح، ولأن الأمر ليس بيدى، قررت الرحيل. قررت أن أرحل إلى بلد يقدر التميز، ويحترم جهودًا مضنية بذلتها من أجل الحفاظ على تراث كاد يندثر، أخذت ركنًا نائيًا فى الساحة الغنائية، لا دخل لى بغليانها، عكفت على الشكل الذى أقدمه، فاستقبلنى الجمهور بحرارة، لكننى عاجز عن تنقية الأجواء من الشوائب التى لحقت بها، فقررت الرحيل.
ما سبق وقرأته كان نص بيان منير الذى نشره الصحفى بشير حسن فى مجلة الأهرام العربى فى عدد ٣ يوليو ١٩٩٩ ليعلن فيه منير عن قنبلته التى ألقاها فى الوسط الغنائى وكان عنوانها هو نفس عنوان تحقيق الأهرام العربى:
«محمد منير يهاجر إلى ألمانيا
سامحونى.. الوسط الغنائى خنقنى!»
الحقيقة أن المقدمة التى وضعها بشير حسن فى تحقيقه كانت كافية لشرح تفاصيل قرار منير حيث تساءل صحفى الأهرام العربى «هل نقف فى وجه محمد منير- صاحب القرار- وننتزع من يده حقيبة السفر التى حملها منذ سنوات وتردد فى امتطاء سفينة الرحيل، ونصرخ بأعلى صوت ابق هنا حتى نهايات العمر؟! منذ فترة، أدرك الرجل أن الأغانى ما زالت ممكنة فى هذا المناخ غير الصحى، فقال: علِّى صوتك بالغنا، ولأنه لا مجيب لصرخاته حمل حقيبة السفر، ليهجر مصر، عسى أن يتصلح الحال ويعود إليها مرة أخرى، أو يتخذ من ألمانيا، مستقرًا له، حيث التقدير والاحترام والاستقبال الحار له من الجمهور الألمانى، مبررات محمد منير كثيرة منها حالة قرف مستمرة من تشويه المطربين بعضهم لبعض واقتحام رجال الأعمال للحقل الغنائى، وإصرارهم على التربح دون النظر لقيمة ما تقدمه الأغنية المصرية حاليًا. كما يراها منير تجارية بحتة وردينة، لا قيمة لها ويتساءل منير: أين أنا من الساحة بعد الذى قدمته وبنيت لى قاعدة جماهيرية كبيرة أين أنا من الإعلام المصرى إذا قارنته مثلًا بالإعلام الألمانى عندما أسافر إلى ألمانيا، يقابلوننى بعاصفة إعلامية لا يصدقها عقل، يحتفون بتجربتى ويحاول المتخصصون الغوص فيها على عكس ما يحدث فى مصر.
وعلى ما يبدو أن منير لم يرد أن يفسر بيانه وكلامه مع الأهرام العربى على أنه «طق حنك» مثلما اتهمه رفيقه القديم وعدوه اللدود يحيى خليل داخل التحقيق، فقدم إثباتًا عمليًا بأن أسرى للمجلة بخطته الفنية التى وضعها فى ألمانيا، ليؤكد أنه لم يهاجر ألمانيا هاربًا ومنعزلًا، وإنما ذهب إليها مصطحبًا حلمه الذى هو فنه ولن يفرط فيه على الرغم من هجرته، أو بمعنى أدق أن تتعامل مع الهجرة على أنها قرار منه لإنقاذ حلمه حيث يقول لبشير إنه وضع خطوطًا عريضة لخطته فى ألمانيا، وعكف قبل فترة على جمع التراث المصرى القديم، الخفى عن عيون المتخصصين، ونقحه وأجرى عليه تدريبات مع فرقته لتقديمه، وأكد أن التراث الذى جمعه بعيد عن الطقاطيق والأدوار والموشحات المعروفة بل هو تراث لا صاحب له والزمن الذى قيل فيه غير معلوم، وأضاف أنه انتهى من التعاقد مع فرقة ألمانية لتقديم هذه النوعية من الأعمال، وسوف تشهد مرحلته المقبلة مزجًا غنائيًا بين الموسيقى الشرقية الأصيلة والموسيقى الغربية، سيغنى الألمان على المسرح، وسيقف بجوارهم يغنى تراثنا، ولم ينسَ أن يؤكد أنه المطرب المصرى الوحيد الذى يلقى محاضرات فى جامعة «جورج تاون»، وقدم فيها بحثًا من قبل بعنوان «أثر موسيقى الجنوب على الموسيقى العربية»، وزيادة فى التفرقة بين هجرته وسفر المطربين الآخرين، يقول: «فى ألمانيا يذهب المطربون العرب ليغنوا للجاليات العربية، أما أنا فأغنى للألمان، وجمهور حفلاتى أغلبه ألمانى ينفعل معى، ويردد كلماتى، ويتمايل مع موسيقاى».
عندما أصاب الغرور منير: وبخت نفسى
إذا تركنا القرن العشرين برمته ودخلنا الألفية الجديدة لنطل على منير بعد أن قارب الخمسين من عمره، وما يتبع هذه السن من هدوء فى نبرة التمرد والمرونة فى التعاطى مع الأشياء أو حتى الأحلام القديمة، لكن بطلة واحدة على حواره مع ماهر حسن فى جريدة العربى الناصرى فى عام ٢٠٠٢ ستكتشف أن تقدم السن لم يفقد منير حماسه لفنه الذى هو حلمه منذ أن كان يلعب فى ساحات قريته الصغيرة فى أسوان.
كان منير قد افتتح الألفية بمغامرة غنائية من وجهة نظر جمهوره، وأقصد بذلك «ليه يا دنيا الواحد» مع خالد عجاج الذى كان يعيش فترته الذهبية تلك الفترة بين أجيال وثقافات مختلفة، عن تلك التى عاشت حلم منير وتشربته منذ الثمانينيات، وواجه منير حينها انتقادات كثيرة من هؤلاء الذى أرادوا أن يكون منير لهم فقط، يستخدم نفس التعبيرات التى خاطبت أحلام شبابهم قبل ذلك، لذلك لم تكن أغنيته مع خالد عجاج بإيعاز من المغامر نصر محروس لها وقع مريح عند الكثيرين، وسادت نبرة تقول إن منير وجد أن جماهيريته تقلصت فأراد ركوب الموجة الجديدة ويمثلها فى حالتنا تلك خالد عجاج للدخول إلى منطقة جماهيرية جديدة.. وهذا هو السؤال الذى وجهه له ماهر حسن بالنص فى حوار العربى.. وهنا ظهر منير الذى لم يفقد شبابه ولا حدة لهجته لمن يقترب من مشروعه أو يقلل منها فكان هذا الرد بنص ما نشر:
«دعنى أرد بقسوة على هذا السؤال، سواء كان سؤالك أنت أو سؤال الآخرين فهذا كلام غير مسئول وغير واعٍ لأن الأغنية المشتركة بين اثنين أو ثلاثة ما لم تنطو على مبرر استراتيجى بمعنى أنه لا يمكن أن يغنيها مطرب واحد وتمثل حاجة جماهيرية مطلوبة. ولا بد من تأديتها بصوتين مختلفين وكأنها تعبر عن حالتين مختلفتين، وعلى صعيدى الخاص، فأقول إن لم يكن الفنان قادرًا على إضافة الجديد والولوج إلى مناطق جديدة لإحداث الدهشة والصدمة لدى المتلقى فلن يكون هذا الفنان متجددًا، وأضيف أيضًا أنه لا بد للمناضل من استراحة خفيفة تحقق له انتعاشة، وتحقق له وللآخرين السعادة، وهذا من حق أى فنان فعندما نری رئیس دولة مثلًا مرتديًا الشورت والفانلة، ويلعب الكرة فإن هذا يكسر حاجز الاعتيادية ويحقق المفارقة والدهشة، إذن فلم يأتِ تعاونى مع خالد عجاج من قبيل استثمار أرضيته الشعبية، ما دمت أنا مؤهلًا لخلق مساحات جديدة من خلال التنوع الذى أحرص على تقديمه».
والمتأمل للرد يعرف أن منير لم يفقد حماسه ولم تتداخل الرؤى لديه حتى بعد مرور ربع قرن على ولوجه إلى قلوب الناس وإمساكه بحلمه القديم.. وعلى الرغم من الحدة البادية فى الرد لكنه شرح استراتيجيته بمنتهى الوضوح ليقلب الطاولة على صاحب السؤال، لأن ما فعله منير من وجهة نظره هو صميم حلمه ومشروعه القائم بالكلية على التمرد على القديم حتى لو اضطره إلى التمرد على قوالب قديمة له لاقتحام مناطق جديدة.
المدهش أيضًا أن منير فى هذا الحوار كانت لديه القدرة على الاعتراف بأخطائه، فعندما سأله صحفى «العربى» هل تعرض أحد ألبوماتك لسقطة ما؟ رد منير بمنتهى الوضوح والثقة: «نعم حدث فى مرحلة أصابنى فيها الغرور وبلغت ثقتى فى نفسى مداها، وتصورت أننى أسست لنفسى بالفعل قاعدة جماهيرية قوية، غير أن الناس الذين يحبونك قد يسامحونك مرة أو مرتين لكن بعد ذلك قد ينصرفون عنك ولن يطول صبرهم، إذا أسأت فهم حبهم لك، غير أننى سرعان ما تداركت هذا المأزق».
وكان هذا الحوار مليئًا بالرسائل المنيرية التى فسرت سر هذا الرجل الذى لا يقبل المساس بمشروعه وحلمه، حتى لو كان هذا المساس فى صورة غرور شخصى منه، والحق أن عنوان الحوار كان دالًا ومعبرًا ويستحق أن ننهى به كلامنا عن منير، وللحديث بقية.. والعنوان هو: «محمد منير: الاستسهال فى الفن يقطم (رقبة أكبرها كبير)».