ملك الخط.. خالد الجلاف: التقنيات الحديثة لن تهزم الخط العربى
- المدرسة المصرية مثالٌ على تأثير المدارس العثمانية إذ كانت مزدهرة قديمًا ثم تلاشت لفترة وعادت تحت مظلة العثمانيين
- الأصالة هى روح الخط العربى وجوهره فبقاء الحرف ملتزمًا بقواعده يمنحه جماليته وقيمته
فى عالم تتداخل فيه التكنولوجيا مع الفنون، وتطغى السرعة على تفاصيل الحياة اليومية، يظل فن الخط العربى شاهدًا خالدًا على عراقة الهوية العربية والإسلامية، مجسدًا حروفًا تنبض بالروح والجمال. ومن بين المبدعين الذين حملوا على عاتقهم مهمة الحفاظ على هذا الإرث الثقافى العريق، يبرز اسم الخطاط الإماراتى خالد الجلاف، الذى جمع فى لوحاته بين الإتقان الفنى والحس الروحانى.
فى هذا الحوار المميز، نغوص فى عالم الجلاف لنتعرف على رحلته مع الحروف، وكيف ألهمته الصحراء الإماراتية بألوانها، وأثّرت فيه روحانية النصوص القرآنية والشعرية. سنتعرف على رؤيته لفن الخط فى زمن التكنولوجيا الحديثة، وما يراه من تناسق لا غنى عنه بين الحرف والمعنى. لنأخذكم فى رحلة فنية وروحية مع خالد الجلاف، الفنان الذى يرى فى كل لوحة قصة تنتظر أن تُحكى.
■ كيف ترى تطور فن الخط العربى فى الإمارات والعالم العربى خلال العقود الأخيرة، وما دورك فى هذا التطور؟
- البداية الجيدة لفن الخط العربى فى القرن العشرين تراجعت فى أواسطه، حيث ضعف الاهتمام، ثم عاد تدريجيًا مع نهاية الثمانينيات بفضل جهود مؤسسات كـ«أرسيكا» فى إسطنبول ومسابقة حامد الأمدى، حتى برزت الإمارات، بدءًا من الشارقة، التى نظمت أول بينالى للخط العربى، بدعمٍ ورعاية من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى، فكانت الشارقة نقطة تحول، حيث بدأ فن الخطوط يجد طريقه إلى الضوء مجددًا.
توالت الفعاليات، فنشأت «العدوى الحميدة» بين الإمارات الأخرى؛ أطلقت دبى مجلة «حروف عربية»، وأبوظبى أطلقت مسابقة «البردة» وأخرى لكتابة المصحف، وأضيفت مسابقات جديدة مثل «البدر» فى الفجيرة و«كنز الجيل» فى أبوظبى. وقد أسهم هذا الزخم فى انتعاش الخط العربى وانتشار المعارض والمسابقات فى الكويت ومصر والجزائر.
للأسف، هناك ملتقيات أقيمت مرة واحدة وتوقفت كملتقى بغداد ودمشق، لكن الأنشطة المتواصلة كسلسلة معارض الشارقة ومسابقات الإمارات أسهمت فى عودة الخطاطين لممارسة فنهم، حيث بدأنا نرى مراكز حكومية كـ«كتاتيب» لتعليم الخط فى المساجد، فضلًا عن عودة مدارس الخط العربى فى مصر والمغرب العربى.
أما عن مساهماتى، فدورى قد يبدو بسيطًا كالحجر الصغير فى سدٍ عظيم، لكنى بدأت تعلم الخط فى السبعينيات بجهد شخصى، وكنت أحد مؤسسى جماعة فن الخط العربى فى الإمارات. أسهمت فى إصدار أول مجلة للخط «الخطاط»، ورغم توقفها بعد عددين، واصلت الطريق مع مجلة «حروف عربية»، حيث أعمل اليوم نائب رئيس التحرير، وأسست «جمعية الإمارات لفن الخط العربى» وشغلت عضويات فى جمعيات عربية متعددة. أقمتُ ورشًا ومحاضرات وجولات عالمية بتوجيه من الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى، وكان لى الشرف فى نشر رسالة الخط العربى حول العالم، متأملًا أن تظل هذه الجهود جسرًا يعيد لأمتنا روح هذا الفن.
■ بين الأصالة والتجديد، كيف توفق بين الحفاظ على تقاليد الخط العربى الكلاسيكية وبين إدخال لمسات معاصرة فى أعمالك؟
- أرى أنَّ الأصالة هى روح الخط العربى وجوهره؛ فبقاء الحرف ملتزمًا بقواعده يمنحه جماليته وقيمته، وأمقتُ بشدّة أىَّ تشويهٍ يمسّ هذه البنية الأصيلة. ومع ذلك، لا أرى فى هذا الالتزام قيدًا على الابتكار فى أسلوب التقديم؛ فقد أدخلت ألوان الطبيعة الغنية إلى اللوحة الخطية، لأحرّرها من ثنائية الأسود والبنى، فتتنوع ألوانها بألوان السماء والأرض والأزهار، ملامسةً تعددية الحياة.
أدخلتُ أيضًا الخط العربى فى خلفيات تجريدية، فأصبح يتناغم بين أصالته وتجديده، ليجذب محبى الكلاسيكية وأصحاب الذوق المتجدد. ولإثراء هذا التوجه، تعلّمتُ الرسم والتصميم، فأضفتُ عمقًا بصريًا للوحاتى، ملتزمًا بقاعدة الحرف، بينما أُبدع فى أسلوب تقديمه.
■ الخط العربى فن بصرى يرتبط بالروحانية والتراث الإسلامى، كيف تعكس هذه الجوانب فى أعمالك؟
- الخط العربى فن بصرى مشبع بروحانية خاصة، لذلك ألتزمُ فى لوحاتى بكتابة النصوص التى أقتنع بها والتى تلامس بعدًا روحانيًا فى نفسى. أختار بعناية الآيات القرآنية التى تتردد فى نفسى قصصها ورسائلها، فأجد فيها قيمًا أخلاقية كحب الخير، والوحدانية، وأهدافًا تربوية أخرى. وكذلك الأمر مع الأحاديث النبوية، فكل ما أكتب يحمل بين حروفه معنى وقيمة.
كابنٍ للبيئة والتراث، أستلهم عظمة هذا التاريخ الإسلامى العريق فى عمائره وفنونه وتصاميمه، وأراها مصدر إلهام، فأُدخل زخارف العمارة الإسلامية إلى لوحاتى الخطية، جامعًا بين رونق الخط العربى وجماليات العمارة بأسلوب جديد.
أجد فى الخط الكوفى علاقة فريدة تجمعه بالعمارة والتصميم، كونه حاضرًا فى معالم عظيمة مثل قصر الحمراء وتاج محل، حيث تضيف الكتابات العربية جاذبية خاصة إلى جمال البناء. كذلك، أرى فى عمائر مصر، من جامع عمرو بن العاص إلى السلطان حسن، دلالات روحانية تضفيها الحروف على الحجر، مخلدةً قيم الإسلام.
منحنى الله موهبة الدمج بين الخط والرسم، وأجد متعة فى استخدام الألوان وسمك الحروف للتعبير عن معانٍ معينة. أرى فى ذلك وسيلة للتعريف بجماليات الخط، وتعميق الروحانية فى النص، وتوجيه رسالة للمتلقى تحمل فى طياتها معنى وقيمة.
■ من خلال تجاربك العديدة فى المعارض الدولية، كيف ترى تقبل الجمهور العالمى لفن الخط العربى؟ وهل برأيك يستطيع هذا الفن أن يعبر حدود الثقافات المختلفة؟
- من خلال تجاربى فى المعارض، أستطيع القول إن الخط العربى نجح فى الوصول إلى قلوب الناس، بل يكاد يكون أكثر الفنون جذبًا للجمهور العالمى. فى مشاركاتى فى الشرق والغرب، من اليابان وكوريا الجنوبية إلى اليونان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والبرازيل، يتجمع الناس، أطفالًا وكبارًا، حولى بالآلاف، يراقبون لحظة كتابة أسمائهم بحروف عربية، ويلتقطون الصور كأنها ذكرى ثمينة.
ويتمدد الجمال إلى حوار يجمعنى بالمتلقى؛ حيث تجذب عناصر اللوحة الخطية عشاق الفن، فيسألون عن معانى الكلمات، فأرد بسؤال: «ما الذى تراه عينكم فى هذه اللوحة؟» فيتشاركون رؤاهم، وأحيانًا تتطابق مع ما قصدته، وأحيانًا تكشف عن فهم مختلف. فى كلتا الحالتين، يبقى الحوار جسرًا يعبر حدود الثقافات، ليكون الفن لغة عالمية تتحدث بها القلوب.
■ باعتبارك من رواد الخط فى الإمارات، كيف ترى تأثير الهوية الثقافية الإماراتية فى فنك؟ وهل تعتقد أن هناك «مدرسة إماراتية» للخط العربى؟
- تتجلى هويتى الثقافية الإماراتية فى اختياراتى الفنية، إذ أستمد من النصوص الإماراتية، كالشعر والحكمة وأقوال القادة، عناصر تلهمنى وتعبّر عن روح بلادى. كما أختار الألوان الترابية، وأرى فيها امتدادًا لطبيعة الإمارات الصحراوية، حيث يُعد اللون الأصفر البنى رمزًا للرمال التى تشكل جزءًا من أصالة هذه البيئة. أما بخصوص مدرسة الخط فى الإمارات، فنحن جزء من الكيان الكبير للخط العربى، مثل الخط الكوفى، وخط الثلث، والنسخ، والنستعليق، والديوانى. لا ندّعى امتلاك مدرسة خاصة؛ فالخطوط الإماراتية ليست جديدة، بل تستند إلى إرثٍ طويل من المدارس العربية، كالمدرسة البغدادية والشامية والأندلسية والمغاربية والعثمانية. فالإمارات دولة حديثة النشأة، ولا تملك تاريخًا قديمًا فى مجال الخط، لذلك نستلهم من تراث الخط العربى ونحافظ على أساليبه.
المدرسة المصرية مثالٌ على تأثير المدارس العثمانية، إذ كانت مزدهرة قديمًا، ثم تلاشت لفترة وعادت تحت مظلة العثمانيين بفضل جهود الملك فؤاد، الذى استقدم كبار الخطاطين من تركيا كالخطاط أحمد الكامل وعبدالعزيز الرفاعى. كما ترك عبدالله الزهدى، الخطاط العثمانى ذو الأصل الفلسطينى، بصمةً خالدة بعد استقراره فى مصر، حيث كتب أروع خطوطه، من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فى المدينة المنورة إلى جماليات الخطوط فى جامع الرفاعى.
■ التدريب والتعليم جزء أساسى من مسيرتك الفنية. كيف ترى دورك فى نقل خبراتك للأجيال القادمة، وما هى الاستراتيجيات التى تعتمدها فى تعليم الخط العربى؟
- أعترف بأننى لا أملك مهارة تعليم الخط العربى؛ فلو كنت معلمًا جيدًا لكان أحد أبنائى خطاطًا، ولكنهم لم يرثوا هذا الفن. ليس كل خطاط قادرًا على التعليم، فجهودى تنحصر فى إلقاء محاضرات وورش عامة دون تلاميذ محددين.
أشارك فى محاضرات وورش حول فن الخط العربى وتاريخه وجمالياته، مقدّمًا محتوى ثقافيًا لجمهور من المهتمين فى شتى دول العالم، وباللغتين العربية والإنجليزية. ورغم أننى لا أعتبر نفسى مدربًا بارعًا، إلا أننى أسهم من خلال جمعية الإمارات لفن الخط العربى، حيث نعمل على تدريب النشء والطلبة فى مختلف إمارات الدولة، مجسّدين دورًا فى الحفاظ على هذا الفن وتعليمه للأجيال الجديدة.
■ كيف يؤثر المكان الذى تعمل فيه، سواء كان الإمارات أو غيرها من البلدان التى زرتها، على أعمالك وإبداعك فى مجال الخط العربى؟
- للمكان دور جوهرى فى تشكيل العمل الفنى. فى إسطنبول، تلك العاصمة العثمانية العريقة، تجد الخط العربى حاضرًا فى كل زاوية؛ على شواهد القبور، الأعمدة، الجوامع، والأسبلة، مما ينقل إرثًا فنيًا عظيمًا يشبّع البصر بتنوع الخطوط وروعتها، بأيدى عظماء فن الخط. كذلك، توفر المتاحف والقصور السلطانية نافذة عميقة للمعرفة والتعلم.
أما فى مصر، فقد أسرتنى كنوز قصر المنيل، قصر الأمير محمد على، بمئات اللوحات الخطية الثمينة. أؤمن أن من يعيش وسط هذه البيئة الغنية ويمعن النظر ويقلد الخطوط الموجودة، قد يرتقى إلى مرتبة أعظم الخطاطين. فوجود المراجع، والأدوات، والمسابقات، يغذى موهبة الخطاط، ويشجعه على التقدم فى دقته ومهارته.
وعند زيارتى المغرب عام ١٩٩١، أثرت فىّ الكتابة المغربية وفن الفسيفساء، فاستلهمت منها تصميم لوحة خطية بات أسلوبًا يلازمنى فى معظم أعمالى. بالفعل، ثراء المكان يصنع بيئة محفزة للابتكار، مشجعة على استكشاف آفاق جديدة من الجمال.
■ ما الذى يلهمك فى تصميم كل لوحة خطية جديدة؟ وكيف توازن بين الجانب التقنى والجانب الفنى فى أعمالك؟
- إنها أمور تتعلق بالتوفيق من الله. أحيانًا تتجلى لى اللوحة كاملة، كما حدث معى فى لوحة الحج؛ حين رسمت جزءًا منها، لكنى توقفت عاجزًا عن إكمال بقية الأركان. سافرت بعدها مع عائلتى لأداء العمرة، وفى الحرم الشريف، وبعد إتمام المناسك وأخذ قسط من الراحة، رأيت اللوحة كاملة فى المنام، كأنها هدية. فور عودتى إلى دبى، أكملتها كما رأيتها، وأصبحت «المبروكة»؛ لوحة حظيت بإقبال واسع، وباعوها بأعلى سعر لأجل عمل خيرى، متجاوزةً بذلك لوحات كبار الخطاطين.
النصوص نفسها توجهنى نحو أسلوب معين؛ فحين يتصدر اللوحة لفظ الجلالة، تكون ألوانها هادئة وخطوطها ناعمة تنقل الهدوء، أما النصوص القوية كحب الوطن والدفاع عنه فتتطلب ألوانًا حادة وخطوطًا مشدودة.
كل لوحة تحمل قصتها، وأسلوبها يتشكل بقراءتى المتأنية لها، وفى لحظات أجد التصميم ينبثق أمامى حتى فى لحظات جلوسى مع أحفادى، أراه واضحًا وكاملًا فى مخيلتى، وكأنما أرشد إليه. كما أقول دائمًا، إنه توفيق من الله.
■ كيف ترى مستقبل الخط العربى؟
- لا أرى أن التقنيات الرقمية قادرة على مجاراة فن الخط العربى، فهو ينبع من الروح ويعكس مشاعر وأحاسيس يعجز الحاسب الآلى عن محاكاتها أو إبداع شىء جديد خارج ما يعلمه إياه الخطاط. ورغم ثورة التقنية وتقدم الذكاء الاصطناعى، نشهد عودة قوية لفن الخط العربى كأنه يعيش عصره الذهبى مجددًا؛ وهذا توفيق من الله. لذا، لا أخشى على مستقبل الخط العربى؛ كل ما يحتاجه هو اهتمام الدول ومحبى الفنون، ليظل جزءًا أصيلًا من الهوية العربية والإسلامية.
المفارقة أن دولًا كالصين واليابان وكوريا، رغم تقدمها التقنى، لم تتخلَّ عن فنونها الأصيلة، بل أولتها اهتمامًا كبيرًا. الصين تعتنى بفن الخط الصينى، وفى اليابان يُدرّس الخط اليابانى ضمن المناهج التعليمية، وفى كوريا يُدرّس الخط الكورى فى الجامعات وكليات الفنون. نحن نستخدم التقنيات الحديثة للسرعة والإنجاز، لكنها تظل أدوات، بينما يبقى فن الخط العربى فنًا ذا روح وخصوصية لا يمكن استنساخها ببرمجيات الآلة.