طــه حسيــن.. الذى شهد كل شىء
- نجح فى تحويل الثقافة الصماء التى حفظها فى الأزهر إلى ثقافة ناعمة
- قصة زواجه تستحق التركيز عليها لأنها تسببت فى تشنيع بعض المتشددين عليه
بدأت معرفتى بالدكتور «طه حسين» فى المرحلة الإعدادية، من خلال دروس اللغة العربية، ومدرسى اللغة العربية، حيث سمعت عن «طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ويوسف السباعى ويوسف إدريس»، وكنت وقتها أبدأ مرحلة القراءة، لم يعجبنى أسلوب العقاد، وابتعدت عنه، كانت لغته جافة، كما ابتعدت عن طه حسين لأن لغته تحتاج لمن يكشف أسرارها، وكنت أحتاج لإعادة التفكير فى كل ما أقرأه لطه حسين، لكن لفتت نظرى ثقافته الواسعة، والضجة التى أثارها كتابه عن «الشعر الجاهلى» وما تعرض له من تهديد بالمحاكمة، والغريب أنه بعد تلك الضجة، عينوه وزيرًا للمعارف.
بدأت أقترب من عوالم طه حسين، العالم السياسى والحزبى الذى اندمج فيه، وهو العامل الرئيسى الذى ساعد طه حسين فى الخروج من محنته حول كتاب «الشعر الجاهلى»، والعالم الأكاديمى فى جامعات فرنسا والقاهرة، والعالم الاجتماعى فى القاهرة التى كانت وقتها تموج بالثقافة الرأسمالية والأحزاب الأرستقراطية.
وجدت فى الرجل بناءً ثقافيًا قائمًا بذاته ينهض على ثقافة ذاتية تخصه لوحده، ثقافة نحتها من تكوينه الخاص، ثقافة سمعية، بُنيت كلها على السماع، بهرنى أكثر لأنه تمكن من تحويل ثقافته من ثقافة أزهرية محضة وجافة تلقاها مبكرًا فى أروقة الجامع الأزهر، وتملكنى الفضول، فكيف لرجل كفيف أن يحول ثقافته من الثقافة الصماء التى حفظها فى الأزهر إلى ثقافة ناعمة ويتقن اللغة الفرنسية، ويدرس ثقافة مختلفة ويقوم بنقلها وتعليمها لنا. كما لفت نظرى فيه عنصر التحدى، والمثابرة الجادة، عندما رفض شيوخ الأزهر منحه الشهادة العالمية.
كنت قد بدأت فى الكتابة عن «أباطرة الشرق الأوسط العظام فى العصر الحديث»، الذين عاصرتهم، وهم «الرئيس السادات، وحافظ الأسد، وصدام حسين، ومعمر القذافى، وحسنى مبارك».. ثم توقفت، ورأيت أن طه حسين يلح كثيرًا لأكتب عنه.
كانت فكرة الكتابة عن طه حسين مقترنة بنوع من المغامرة، فالرجل كتب عنه الكثيرون، وكتب عنه الدكتور «سامى الكيالى» فى كتابه «مع طه حسين»، وزوجته «سوزان طه حسين» فى كتابها «معك»، و«ما بعد الأيام» لزوج ابنته «محمد حسن الزيات».
ووجدت أننى فى حاجة إلى معرفة شىء عن ظاهرة العمى وفقدان البصر الذى أصيب به حسين فى أول أيامه، فقرأت رواية «العمى لجوزيه ساراماجو»، و«الموسيقى الأعمى لفلاديمير كورولينكو»، و«بلد العميان لهربرت جورج ويلز»، ومن تلك الروايات بدأت أعرف كيف يتعامل الأعمى مع عالم الأصوات، والروائح والأحاسيس، وبصفة خاصة خاصية اللمس والشم، وتصبح أذنه مرهفة وحساسة للأصوات، وربما ساعدت تلك الخاصية الدكتور طه حسين فى تذوق الموسيقى الغربية فى باريس، وبها بدأ أولى مراحل رومانسيته الراقية مع عالم الأصوات وصوت البنت التى أحبها فى باريس سوزان بريسو وأصبحت زوجته، وبدأ يحول ثقافة السمع إلى مخزون ثقافى لا يختلف عن المبصرين.
وجدت أن قصة زواجه من «سوزان بريسو» تستحق التركيز عليها، لأنها تسببت فى تشنيع بعض المتشددين عليه، واتهامها بأنها كانت كاثوليكية جاسوسة، تآمرت عليه لتجعله يبتعد عن الدين الإسلامى، وأنها كانت مدسوسة عليه. ولا نعرف مَن الذى دسها، وما الهدف والمقصد من الزج بفتاه فرنسية لتترك بلدها فرنسا، وتعيش فى بلد متخلف مع رجل مصرى وأزهرى وأعمى.
ذات يومٍ، كانت تقرأ له بعض الدروس، وبعد أن أنهت القراءة، أخبرته بأنها فكرت كثيرًا فيما أخبرها به عن حبّه لها، وأخبرته بأنها ستقضى الصيف فى قرية جنوب فرنسا، ويظل هو فى باريس، وعندما تعود ستخبره بجوابها، وبعد شهر أرسلت إليه ليقضى الصيف معها ومع أسرتها. نستطيع أن نقول بغير تردّد إن «قصة حب سوزان وطه» من أعظم قصص الحب التى من الممكن أن نقرأها، والتى فاقت كل قصص الحب العربية التى نعرفها، فلم يحدث أن معشوقة أوصلت حبيبها إلى ما وصل إليه الدكتور طه حسين مع سوزان. ولا نعرف لماذا لم تركز الدراما العربية على قصة الحب تلك التى صنعت هرمًا من أهرامات مصر، إنها علاقة أهملها الروائيون وكتاب الدراما.
كانت العلاقة الأولى هى إعجاب سوزان بفكر هذا الشاب المصرى طه حسين، ما دفعها لأن تساعده وتقرأ له الكتب والمراجع، وكانت البداية صداقة برباط سماوى لا تدركه سوى القلوب الصافية والعقول النهمة لمعرفة الحب، حيث كان يناديها طه حسين فى ذلك الوقت «صديقتى»، ولم يكن يدرى أنّ الصداقة فى عمقها حب شديد، مسافته مسافة السماء، وقربه قرب نظرة وشغف.
صارح طه حسين سوزان بحبه لها، ولكن الأمر لم يكن بهذه الصورة السهلة لسوزان، فقد كانت تدرك بعقلها أنها ستتزوج من إنسان فاقد البصر، لا يراها، ولا يرى جمالها، لذا رفضت حبه فى البداية وابتعدت، لكنّ شعورًا ما فى داخلها بدل نظرتها، حيث اكتشفت أن قوة القلب أقوى من الأمور العقلانية، وأدركت سوزان أن للقلب طريقًا مخالفًا للعقل، وللقلب أحكام ومجريات أخرى. فأعلنت سوزان لأسرتها رغبتها فى الزواج من طه حسين الشاب المصرى الذى نشأ فى بيئة مختلفة تمامًا عنها، وكانت أسرتها من المتمسكين بعقيدتهم الكاثوليكية، وغير ذلك فهو كفيف البصر أيضًا، فاعترضت أسرتها بشدة وظلت المحاولات لإقناعهم بإتمام ومباركة هذه الزيجة، وكان لسوزان عمٌّ يعمل قسًّا كاثوليكيًّا بالكنيسة، جلس مع طه حسين وانبهر به، واستطاع أن يقنع أهلها بهذه الزيجة، وتمّت بالفعل.
كانت أسرة سوزان تشفق من فكرة الزواج بأجنبى، أعمى، ومسلم، واعتقدت أنه ضربٌ من الجنون! واستنكرت الأسرة أن تتزوج ابنتهم شابًا غريبًا وأجنبيًا وأعمى ومسلمًا، لكنها حسمت أمرها، فقد اختارت حياة رائعة، وليس فيها ما يدعو للخجل. وتزوجا بالفعل عام ١٩١٧ وسط ظروف صعبة فى ظل الحرب العالمية الأولى.
كما لفت نظرى ما تناولته الصحف حول قضيته المعروفة عن كتاب «الشعر الجاهلى»، ولاحظت أن وسائل الإعلام تقوم بالتركيز على عدالة رئيس النيابة محمد نور، الذى تولى التحقيق فى تلك التهمة وفى نهايتها قام بحفظ التحقيق. ولما قرأت المذكرة المنشورة وجدت أن المذكرة مكتوبة بنية الإدانة وفيها من أسباب الإدانة ما يطغى على أسباب البراءة، كان المحقق الأستاذ محمد نور رئيس النيابة عنيفًا أثناء التحقيق مع الدكتور طه حسين. وقد فنّد المحقق كتاب فى الشعر الجاهلى، واتهم الدكتور طه حسين بالتناقض وعدم دقة البحث، وهو ما يتعارض مع اعتزاز الدكتور بشخصيته وقدراته العلمية.
المذكرة فى مضمونها وتسلسلها المنطقى تعتبر فى مضمونها مذكرة إدانة. فالمذكرة لو نزعنا منها الأسطر الأخيرة التى تحتوى على قرار النيابة، نجد أنها تصلح بذاتها وبنفس عباراتها أيضًا لطلب قرار الإحالة إلى المحاكمة، فهى تحتوى فى طياتها على أدلة الثبوت والأسانيد التى استند إليها المحقق، ما يدل على نيّة المحقق المسبقة من الإدانة بدًلا من الحفظ.
ولم يذكر التاريخ أنّه كانت هناك عوامل سياسية، وقوى متعارضة، وأحزاب متربصة. كلها تدخلت لتغيير مسار التحقيق من الإحالة إلى المحاكمة إلى مجرد حفظ الأوراق.
وقتها كان هناك نزاع ما بين حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين الذى ينتمى إليه الدكتور طه حسين. وقتها كانت الوزارة ائتلافية، وكان عدلى يكن، رئيس حزب الأحرار الدستوريين، هو رئيس الوزراء، وكان سعد زغلول رئيس حزب الوفد، رئيسًا لمجلس النواب، وقاد النائب عبدالحميد البنان نائب حى الجمالية عن حزب الوفد ثورة نواب البرلمان داخل المجلس مطالبين بضرورة محاكمة طه حسين.
وتصاعدت الأزمة وبلغت ذروتها، وعندها هدد رئيس مجلس النواب سعد زغلول صراحةً بطرح الثقة بالوزارة، إذا ما تقدم المجلس بطلب للنائب العام بالتحقيق فى الكتاب الذى ألّفه طه حسين. وبعدها تواصلت الاجتماعات فى بيت الأمة بين سعد زغلول وعدلى يكن، وتم الاتفاق على أن يتقدم النائب بشكوى شخصية للنيابة العامة بعيدًا عن الحزب، وأن تحقق النيابة فى الموضوع وبعدها يحفظ التحقيق حفاظًا على الائتلاف الوزارى. أى أن الأمر لم يكن حفاظًا على حرية التعبير كما هو ظاهر من مذكرة الحفظ، ولكنها كانت صفقة اتفق عليها الطرفان، حتى لا ينهار البنيان الوزارى المؤتلف الذى لم نعرفه اليوم بعد ثمانين عامًا فى ظل أحزاب هشّة لا تقوى على المنافسة. ولولا هذا الاتفاق السياسى الذى تم بين حزبى الوفد والأحرار الدستوريين لدخل طه حسين السجن وفُصل من وظيفته بسبب تلك الشكاوى.
وجاء فى قرار الحفظ: «يتّضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواقع من كتابه إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى. بناءً على ذلك يكون القصد الجنائى غير متوافر فلذلك تحفظ الأوراق إداريًا». ورغم وقوف النيابة العامة فى قرارها إلى جانبه، فإن طه حسين بكبريائه المعروفة قدم استقالته من الجامعة، احتجاجًا على بعض الألفاظ التى وردت فى قرار النيابة. والتى اعتبرها طه حسين ماسة بكرامته العلميّة.