مرثية عامر الخفاجى.. ما أجمل الحزن فى «السيرة الهلالية»!
ما أقسى الحزن
وما أجمله فى «السيرة الهلالية»!
من بين الأحزان العديدة فى «السيرة الهلالية»، التى «تمزع» القلب بسكين ثلمة، تبرز مرثية عامر الخفاجى لنفسه، وهو على فراش الموت، بعدما احتال «الزناتى خليفة» لهزيمته، فى الجولة الثانية من معركتهما، بمساعدة ابن عمه «المطاوع».
ينام حاكم العراق وسيدها الأول فى خيمة، بعيدًا عن أهله، لا تؤلمه الجراح بكل قسوتها بقدر ما تشد عليه أوجاع الغربة. وفعل الغربة على كل البشر واحد، لا فرق فيه بين ملك ومملوك!
من بعيد، يرقب «ابن الخفاجى عامر» - كما كان يسميه الهلايل- سرب طيور. يعرفها جيدًا، إنها طيور العراق. والغريب المشتاق لأهله لو شاهد نملة تحمل «حبة رَدة» ساقتها الرياح من بلاده لاشتم منها رائحة خبز أمه!
يُمنى النفس لو تحمله هذه الطيور، لو يصل إليها بنفسه. لكن جمل المحامل بَرك، والفارس الذى كان يطول عنان السماء تساوى بالأرض، فلا تعرفه من الأرض، ولا تعرف الأرض منه..
يعى ذلك ويُسلم به فيطلب من الطير أن «تطاطى» له. ما أشد طلب المستحيل فى لحظات التسليم بالقدر يا «خفاجى»!
أمانة يا طير العراق طاطى أكلمك
يا اللى على الغربة تملى صبور
ترعى مراعى النيل تسعين ليلة
وترجع بلادك فى هنا وسرور
فيك شى يا طير يرجع بالفرح والغنا
وفيك شى يرجع خاطره مكسور
لم أختَرك أيها الطير «والسلام»، اخترتك لأنك «زميل غربة»، غربة طويلة، والبُعد قاسٍ ولو لساعات، فما بالك بـ٩٠ ليلة بالتمام والكمال؟!
هذا وأنت معك الحل السحرى «تملى صبور». فيا قسوة الأيام علىّ وأنا الجزوع!
منك يا طير العراق مَن يعود فَرِحًا يغنى، قُضى له طلبه، وانزاح الهم عن قلبه. ومنك مَن يعود مكسور الخاطر. يا طير العراق ليتنى حتى واحدًا من مكسورى الخاطر، أقلها عادوا!
إليكَ رسالتى، فاسمع وبلغها، فحتى إن لم أعد، فلتعد كلماتى:
فإذا وصلت تلك البلاد وحينا
سلم على أهلى وخش السور
سلم على أهلى وجملة أقاربى
وسلم على أمى سلام شكور
وسلم على أختى الحزينة وقل لها
جملك بَرك ولا عادش قادر يتور
وسلم على أمى وبوس لى يمينها
قول ابكى على ولدك وحِلى شعور
ما إن تدخل حينا وتجتاز السور- ما زلت أتذكره طوبة طوبة- ما إن تدخل الحى، السلام أمانة لكل أهلى وأقاربى. السلام أمانة خصيصًا لأمى، قبّل لى يدها، ذكرها بى، وقل لها: ابكى على «جملك»، قُصى شعرك حزنًا عليه، بلغها وذكرها وقل لها. وإن كنت أعرف أنها لم تنسَنى لحظة، لم تترك طريقًا للحزن علىّ إلا خطاه قلبها قبل قدميها!
لا تنسَ أختى يا طير العراق، هى الوحيدة التى أستطيع أن أبدى لها حزنى، أشكو إليها ضعفى وقلة حيلتى. هى الوحيدة التى يمكن أن يقول لها حاكم بغداد القوى: جملِك بَرك.. نخ.. سقط.. خارت قواه.. ولا عادش قادر يتور (يقوم)!
وسلم على ضرغام أبويا بشيبته
وقل له: يابا مكنش ده المنظور
ياما نهانى أبوى وكنت أخالفه
تاريه المخالف لم يشوف سرور
أبى، ماذا أقول لمن نَهانى عن طريقى هذه فخالفته؟! ماذا أقول لمن حذرنى من الانضمام إلى «الهلايل» فى حروبهم ضد «الزناتى خليفة» ولم أنصت إليه؟! كثيرًا ما نَهانى وخالفته، ومخالفة الأب لا تأتِ عمرها بسرور. كثيرًا ما حذرنى، لكن أيمنع حذر مقدور؟!
يا طير العراق، اسمح لى أن أعود إلى ذلك الطفل الذى سبقنى إلى القبر منذ عشرات السنين، طفلًا صرعته الحياة، أخذت منه لعبته، ضحكت عليه وأخرجت له لسانها، فلم يعرف غير أبيه ملجأ، ودخل إليه متحدثًا بدموعه قبل لسانه: «يابا ما كانش ده المنظور!».. يا أبى لم يكن هذا عشمى من تلك الحياة!
سلم على أمى وأبويا وقول لهم:
ما تستنظروش من الخفاجى حضور
يا لقسوة التسليم بالقدر، ويا لقسوة إبدائه أمام أقرب قريبين. كما هو قدرك ووجعك وضعفك، لحظتها يكون قدرهم ووجعهم وضعفهم، فلا تعرف إن كنت أنت من تستسلم للموت حينها أم هم.
ما أشد قسوة قلبك! أتقول لهم: «ما تستنظروش من الخفاجى حضور»، وتُكمل رسالتك بعدها؟! أتعتقد أن دقات قلبيهما ستواصل الدق حينها؟! تنفخ فى الصور وتشق بحرًا وتنسف جبلًا ببضع حروف ينقلها عنك طير العراق البعيد فى السماء، وتنتظر منهما إنصاتًا؟!!
أنا لو بلادى عليها سكة مودية
لكنت أسعى ولو شربت المرور
لكن أراد ربى المهيمن خالقى
بينى وبين أهلى جبال وبحور
لا تلومونى بالله عليكم، لا وقت لوم ولا للوم وقت. لو فُتحت أمامى سكة إلى بلادى لسعيت لها ولو تجرعت فيها من المُر أصنافه. لكنها إرادة الله، لا ينفع معها «لو» ولا «كُنت». جبال وبحور تمنعنى عنكم، ومن قبلهم بُعدٌ يقسى قلب الرضيع!
يا دوابة ديرينى على قِبلة السفر
الكون يُفنى والسماء تمور
يا دوابة قولى للهلالى سلامة
خليه يغسلنى بماء طهور
ويدفنى بإيده ويريح مساندى
ويخلى قبرى دائمًا فى النور
ويكتب على قبرى: «مُفارِق أحبّته»
دنيا غروره وزمان غدور
تعالِ يا دوابة ولّى وجهى شطر قِبلة السفر، الكون يفنى والسماء تنقلب حالها، فهل لى يا ابنتى هذه الأمنية الأخيرة لعلى أطوّلُ من طريق عودتى «بَصة وشمة»!
وبعدما يخرج لى الموت لسانه، ضاحكًا على أمنيتى الأخيرة تلك، أخبرى الهلالى سلامة يُغسلنى بماء طاهر، ويدفن جثمانى بيده، ويجعل قبرى دائمًا فى النور، فإن غاب عنه نور الشمس أناره بالزيارة!
وبعدما يودعنى الوداع الأخير ويغلق علىّ قبرى وينصرف، فليكتب عليه: «مُفارِق أحبّته»، فلا الاسم هنا ينفع، ولا ولد ولا قريب يشفع، ولا منا مِن هنا يرجع... دنيا غرورة وزمان غادر!