إرث الأجداد.. هل سقطت منطقة آثار النوبة من ذاكرة المجلس الأعلى للآثار؟
- من المخجل يا سادة أن نعجز عن توفير «صفيحة جاز» نضىء بها هذه الكنوز
- فى الأشهر الأخيرة أصبحت منطقة عمدا التى تضم أجمل معبدين« عمدا والدر» فى الظلام لأن المولد الكهربائى لا يعمل
- هذه المنطقة وبدون أى مبالغات قد أدخلت لمصر مليارات من العملات الصعبة
منطقة آثار النوبة هى إحدى المناطق السياحية والأثرية الخاضعة لولاية المجلس الأعلى للآثار بعد أن تم حل ما يسمى بصندوق إنقاذ آثار النوبة. وهى المنطقة الواقعة جغرافيًا من السد العالى شمالًا وحتى مدينة أبى سمبل جنوبًا. وتشمل مجموعة الآثار التى اجتمع العالم على إنقاذها وإعادة تشييدها على ضفاف بحيرة ناصر فى أربعة مواقع رئيسية هى «كلابشة، وادى السبوع، عمدا، أبوسمبل» بجوار جزيرة «قصر إبريم» التى تشمل بقايا القلعة الحربية الوحيدة الباقية من سلسلة قلاع الدولة الوسطى منذ حوالى أربعة آلاف عام مضت. وهذا الموقع يضم الأطلال الوحيدة الباقية فى موقعها الأصلى.
يشمل كل موقع من المواقع الأربعة عددًا من المعابد التى تم تجميعها معًا. فموقع كلابشة يشمل معابد «كلابشة وبيت الوالى وقرطاسى وبقايا معبد جرف حسين، بجوار نقوش حجرية يعود عصرها لأكثر من خمسة آلاف عام». ويشمل موقع وادى السبوع معابد «وادى السبوع والدكا والمحرقة»، بينما يشمل موقع عمدا معبدى «عمدا والدر» بجوار مقبرة بنوت. وأخيرًا موقع أبى سميل الذى يشمل المعبدين الشهيرين للملك العظيم رمسيس الثانى.
بعض هذه المعابد يعود تاريخها لأكثر من خمسة وثلاثين قرنًا ولا تزال تحتفظ بألوانها ونقوشها المبهرة.
منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى قامت على هذه المنطقة منظومة أو صناعة سياحية كاملة تتكون من عدة بواخر سياحية تبلغ سعتها مجتمعة ما يقرب من خمسمائة غرفة سياحية، والعشرات من لنشات الصيد الصغيرة التابعة لشركات سياحية متخصصة فى رحلات السفارى، وورشة عملاقة بجوار ميناء الصيد لبناء البواخر السياحية ورفعها كل عدة سنوات لصيانتها الدورية، وبرامج سياحية تم تسويقها خارج مصر منذ أكثر من ثلاثة عقود. شخصيًا كنت شاهدًا على حجم هذه السياحة الخارجية حتى عام ٢٠١١م ولمدة تزيد على عشرة أعوام قبل ذلك التاريخ. أعرف بالأرقام التقريبية عدد السائحين الذين كانوا يتدفقون على هذه المنطقة فى تلك الأعوام أسبوعيًا وتقريبًا طوال العام بما فى ذلك أشهر الصيف، وكان هذا العدد يقترب من ألف سائح كل أسبوع من دول مثل «إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة وإسبانيا وهولندا والنمسا» بصفة أساسية ومعهم بعض الجنسيات الأخرى بأعداد أقل مثل «روسيا ودول أمريكا اللاتينية».
هذا يعنى أن هذه المنطقة وبدون أى مبالغات قد أدخلت لمصر مليارات من العملات الصعبة فى سنواتٍ كانت السياحة تمثل عصب مورد هذه العملة بجوار قناة السويس، وأن هذه المنظومة السياحية قد وفرت للمصريين آلاف فرص العمل.
هدأت أو توقفت تلك الصناعة بعد أحداث يناير ٢٠١١م لعدة سنوات، قبل أن تعود للحياة مجددًا منذ عام ٢٠١٦م تقريبًا بخروج بعض البواخر من سوق العمل، وبقاء بعضها، ودخول أخرى ثالثة جديدة، وزيادة أعداد المراكب الصغيرة حتى أصبحت هذه الصناعة قريبة جدًا للعودة إلى معدلاتها السابقة أثناء سنوات ازدهارها أو عصرها الذهبى.
كل هذه الصناعة قائمة على أساسٍ واحد، بدونه لن يصبح لها أى وجود أو معنى! هذا الأساس هو هذا الإرث الأثرى والحضارى المصرى الذى يشمل أكثر من عشرة معابد، ومقبرة وأطلال قلعة حربية! أى أن من يدير هذا الأساس- شخصًا كان أو هيئة- أصبح حقًا كمن بيده مفتاح هذا المورد من موارد ضخ العملة الصعبة لمصر الآن، فإن شاء أغلق المورد أو فتحه بقصد أو دون قصد!
بعض هذه المعابد مثل معبد عمدا يقدم معابد أبى سمبل عمرا، ورغم صغر حجمه فحالة نقوشه وألوانه مذهلة. وأحد معابد رمسيس الثانى وهو معبد الدر هو الأكثر احتفاظًا ببريق ألوانه بين جميع معابده فى هذه المنطقة حتى معابد أبى سمبل ذاتها! لكن لا يمكن التمتع بكل هذا الجمال دون إضاءة. وكانت هناك إضاءة بالفعل منذ نهايات تسعينيات القرن الماضى قائمة على مولد كهربائى فى كل موقع يعمل دائمًا.
فى السنوات القليلة الماضية ومع عودة تدفق حركة السياحة لتلك المنطقة تمت عملية تطوير للبنية الأساسية اللازمة من عمل مراسٍ للمراكب الصغيرة، وإدخال تعديلات على نظام الإضاءة. فمنطقة وادى السبوع أصبحت تضاء بالطاقة الشمسية، بينما بقيت منطقة عمدا معتمدة على المولد الكهربائى.
فى الأشهر الأخيرة أصبحت منطقة عمدا التى تضم أجمل معبدين- عمدا والدر- فى الظلام، لأن المولد الكهربائى لا يعمل، لأن هيئة الآثار «بطلت تبعت جاز»!
يقطع السائحون آلاف الكيلومترات، ويدفعون مبالغ طائلة فى تذاكر طيران ورحلة سياحية وهم يحلمون باللحظة التى ستطأ خلالها أقدامهم ضفاف بحيرة ناصر، ويرون وجهًا لوجه هذه النقوش المذهلة. تتوقف الباخرة وننزل للقوارب الصغيرة متجهين للشاطئ، نسير مئات الأمتار ثم ندخل فنرى المعبد يغط فى ظلامه ووجومه لأن «مفيش جاز!».
هذه ليست كذبة أو دعابة قاتمة، بل هى واقع تعيشه منذ أشهر كل المجاميع السياحية التى تتوجه لهذه المنطقة!
بعد ظهر نفس اليوم ترسو الباخرة فى منطقة خلابة اسمها وادى السبوع فيتجه السائحون فى نفس القوارب متجهين لزيارة معبد آخر لرمسيس الثانى جزء منه بالخارج وجزء منحوت فى الجبل تم نقله.. يفاجأ الزائرون مرة أخرى، لكن هذه المرة بمنطق «نص العمى ولا العمى كله!»، حيث يقوم الموظف المسئول بإنارة جزءٍ واحد، لأن «بطاريات الطاقة الشمسية قديمة وتعبت ولو نورت المعبد كله مش هتستحمل وهتطفى!».
مسرحٌ عبثى هذا وليست صناعة استراتيجية حيوية! أناس أتوا إلينا من بلدانٍ بعيدة يقدمون لاقتصادنا دعمًا نحن نحتاجه بشدة فى ذروة مواجهات اقتصادية تخوضها مصر، وبعض من يتولون مواقع تنفيذية يبدو وكأن هذا الأمر وهذه المفردات وهذه الحقائق لا تعنيهم فى شىء!
الذين يتحكمون بطريقة أو بأخرى وبأى نسبة فى إدارة صناعة بهذا الثقل الاقتصادى وهذه الحيوية والحساسية بمنطق الموظف البيروقراطى يقومون- عن عمد أو جهل وتكاسل وعدم إدراك حقيقى لماهية مناصبهم- يضرون باقتصاد مصر ضررًا مباشرًا!
أحد السائحين عرض بسخرية أن يدفع ثمن «صفيحة الجاز» حتى يتمكن من رؤية ما شاهده فى صفحات الكتب بشكل حقيقى!
الفارق بين الواقع الآن وبين المفترض أن يكون هذا الواقع هو ما نراه فى الصورتين لنفس المنظر من معبد الدر، صورة فى الظلام الذى يراه السائحون الآن، وصورة منذ عامٍ واحد حين كان المعبد مضاء!
معنى استمرار هذا العبث غير المسئول طوال هذه الأشهر أن أحدًا من المسئولين المركزيين عن هذه المنطقة لم يخرج من مكتبه ويسافر ويرى ويضطلع بمسئولياته التنفيذية، بل والأسوأ لو أنه كان قد تم إبلاغهم ولم يستجيبوا أو يهتموا. وفى الحالة الأخيرة يصبح كل مسئول عرف ولم يستجب غير جدير بهذه المسئولية، لأن عدم إدراك حجم المسئولية ينزع عن صاحبها الجدارة والاستحقاق!
مشهد آخر أقرب للكوميديا الهزلية تسبب فيه قرار المجلس الأعلى فى منطقة كلابشة منذ الجمعة الماضى الأول من نوفمبر، ومع تحريك أسعار تذاكر بعض المناطق الأثرية. كان سعر تذكرة كلابشة ١٥٠ جنيهًا ثم أصبح ٢٠٠ جنيه، وهذا لا غبار عليه.
لكن ما حدث أن المجلس فاجأ الجميع بأنه لن يُسمح بدخول المعبد إلا لمن قام بشراء التذاكر مسبقًا أونلاين أو أن يقوم بشرائها الآن أونلاين فقط! لأنه لم تتم طباعة تذاكر جديدة بالسعر الجديد!
المتبع فى جميع المناطق السياحية هو شراء التذاكر بالبطاقة البنكية أو أونلاين مسبقًا. وتم استثناء منطقة آثار النوبة ليتم شراء التذاكر كاش، وذلك لعدم توفر آليات الطرق الأخرى، سواء شبكة التليفون أو عدم وجود ماكينة آلية للتذاكر.
ثم كان هذا القرار المفاجئ الذى ازدادت عبثيته بعبارة «ممكن تشتروا تذاكر كلابشة من منطقة المسلة الناقصة» التى تبعد كيلومترات عن كلابشة الواقعة فى جزيرة غرب بحيرة ناصر!
وعبارة أخرى «الهيئة هتبنى أوضة وتجيب مكنة تذاكر قريب إن شاء الله!».
هذا يعنى أن الهيئة اتخذت قرارًا مفاجئًا أربك حركة السياحة لعدة أيام لعدم جاهزية الزائرين- خاصة القادمين كأفراد غير تابعين لشركة- وعدم إبلاغ الشركات مسبقًا بالقرار!
بينما كان الحل بسيطًا جدًا، أن تقوم الهيئة بطبع تذاكر بالسعر الجديد لعلمها ذلك قطعًا، لأنها صاحبة قرار تحريك الأسعار، وألا تتخذ قرارًا بتغيير آلية الدخول من شراء التذاكر كاش إلا بعد انتهائها من البنية الأساسية اللازمة لذلك!
إننى أتوجه بهذا النداء لمن يهمه أمر هذه الصناعة الحيوية بالغة الأهمية للاقتصاد المصرى بألا يسمحوا لهذا العبث بالاستمرار. من المؤسف لنا كمصريين أن نبدو بهذه اللامبالاة فى وقت عصيب نعرفه جميعًا ونعرف ما تتعرض له مصر من ضغوط اقتصادية. على كل مسئول تنفيذى أن يقوم بدوره الميدانى على الأرض، فليس من المعقول أن نرى رئيس الجمهورية من الصباح الباكر صيفًا وشتاء وهو يجوب محافظات مصر، بينما يتكاسل بعض المسئولين عن القيام بالحد الأدنى من واجبهم.. من المخجل يا سادة أن نعجز عن توفير «صفيحة جاز» نضىء بها هذه الكنوز التى تركها لنا أجدادٌ أشك كل الشك أن يكونوا قد تخيلوا أن يكون أسلافهم بهذا التهافت!.