قراءة فى أطروحات فراس السواح
هل كان النبى محمد أول زعيم علمانى؟

- الخلافة الراشدة لم تستمر كنموذج للحكم بعد الخلفاء الأربعة
- القول بأن الغزوات كانت مجرد «حملات تبشيرية» هو تبسيط شديد للواقع التاريخى
أثار المفكر السورى فراس السواح جدلًا واسعًا بتصريحاته التى نشرتها صحيفة «الدستور»، حيث نفى وجود دولة خلافة إسلامية عبر التاريخ، مؤكدًا أن نموذج الخلافة الذى يسعى الإسلام السياسى إلى استعادته لم يكن له وجود حقيقى. واعتبر أن النبى محمد ﷺ كان «أول علمانى فى التاريخ»، مستندًا إلى صحيفة المدينة التى وضعها لتنظيم العلاقات داخل مجتمع يثرب بين المسلمين واليهود والمشركين. كما أشار إلى أن أول دولة إسلامية بالمعنى الحقيقى لم تظهر إلا مع قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، ما يعنى ضمنيًا أن كل النماذج السابقة كانت أشكالًا أخرى من الحكم لا تستند إلى مفهوم الدولة الإسلامية كما يُروج له اليوم.
هذه الأطروحات، رغم أنها تقدم قراءة مختلفة للتاريخ الإسلامى، تثير العديد من الإشكاليات التى تحتاج إلى تحليل ونقد من منظور تاريخى وسياسى أوسع. فالخلافة الإسلامية، وإن مرت بتحولات كبرى عبر العصور، كانت واقعًا سياسيًا قائمًا امتد لأكثر من ألف عام، ولم تكن مجرد وهم تاريخى. كما أن ربط مفهوم الإسلام السياسى فقط بالنموذج الإيرانى يتجاهل التجارب السنية التى قدمت رؤى مختلفة لمفهوم الدولة الإسلامية. أما وصف النبى محمد ﷺ بأنه «أول علمانى» فهو تأويل يحمل التباسًا حول مفهوم العلمانية فى السياق الإسلامى مقارنة بالتجربة الغربية. بناءً على ذلك، يصبح من الضرورى مناقشة هذه الأفكار بموضوعية، بعيدًا عن التعميمات أو الإسقاطات الأيديولوجية الحديثة.
دولة الخلافة
أثار فراس السواح جدلًا واسعًا بتصريحه القاطع بأن «الخلافة لم تكن موجودة عبر التاريخ»، وهو طرح يفتقر إلى الدقة التاريخية، إذ إن مفهوم «الخلافة» لم يكن مجرد فكرة نظرية بل كان نموذجًا حقيقيًا للحكم استمر لقرون، رغم تعدد أشكاله وتغير تطبيقاته. فمنذ وفاة النبى محمد ﷺ، ظهر نظام سياسى جديد يُعرف بالخلافة، حيث تولى أبوبكر الصديق، رضى الله عنه، منصب «الخليفة»، وهو مصطلح سياسى- دينى يجمع بين قيادة المسلمين دينيًا وسياسيًا. ويؤكد الباحث هيو كينيدى فى كتابه الخلافة: تاريخ الإسلام المبكر ونظام الحكم «Caliphate: The History of an Idea, ٢٠١٦» أن الخلافة، وإن تغيرت عبر الزمن، ظلت نموذج الحكم الأساسى فى العالم الإسلامى حتى سقوط الدولة العثمانية.
إذا كان السواح يقصد أن «الخلافة الراشدة» لم تستمر كنموذج للحكم بعد الخلفاء الأربعة الأوائل، فهذا صحيح نسبيًا، حيث تحولت الخلافة فى العصر الأموى «٦٦١-٧٥٠م» إلى نظام وراثى أشبه بالملك، بعد أن كان اختيار الخليفة يتم بالشورى. وقد انتقل الحكم إلى بنى أمية الذين أسسوا سلالة حكمت معظم العالم الإسلامى، مع احتفاظهم بلقب «الخليفة» لتأكيد شرعيتهم السياسية والدينية. أما الخلافة العباسية «٧٥٠-١٢٥٨م»، فقد جمعت بين السلطة الدينية والممارسات السياسية الإمبراطورية، حيث أصبح الخليفة رمزًا دينيًا أكثر منه قائدًا سياسيًا فعليًا، خاصة بعد سيطرة البويهيين ثم السلاجقة على مقاليد السلطة الفعلية. ويشير المؤرخ مارشال هودجسون فى كتابه مغامرة الإسلام «The Venture of Islam, ١٩٧٤» إلى أن الخلافة العباسية رغم تحولها إلى سلطة رمزية فى فترات لاحقة، ظلت تُعتبر المرجعية العليا للمسلمين.
أما الدولة العثمانية «١٢٩٩-١٩٢٤م»، فقد أعادت إحياء لقب «الخلافة» فى القرن السادس عشر عندما أعلن السلطان سليم الأول نفسه «خليفة المسلمين» بعد ضمه لمصر عام ١٥١٧، فى خطوة عززت شرعية الحكم العثمانى على أساس دينى. وعلى الرغم من الطابع الإمبراطورى للدولة العثمانية، فإنها حافظت على فكرة الخلافة كرمز للوحدة الإسلامية، وهو ما جعل إسقاطها عام ١٩٢٤ على يد مصطفى كمال أتاتورك نقطة فاصلة فى التاريخ الإسلامى. الباحث شريف شوقى فى كتابه (الخلافة العثمانية: بين الحقيقة والسراب) «٢٠٢٠» يوضح أن الخلافة العثمانية لم تكن خلافة نموذجية بالمعايير الفقهية الكلاسيكية، لكنها كانت آخر كيان سياسى ادعى وراثة الشرعية الإسلامية.
وبناءً على هذا، فإن القول بأن «الخلافة لم تكن موجودة عبر التاريخ» يُعد تعميمًا غير دقيق، لأن المفهوم نفسه ظل فاعلًا سياسيًا ودينيًا حتى القرن العشرين، رغم تغير تطبيقاته. وإذا كانت الخلافة فى مراحلها الأخيرة قد فقدت جوهرها الأول القائم على الشورى وتحولت إلى نظام سلطانى أو ملكى، فإن ذلك لا ينفى وجودها كنظام سياسى معترف به من قبل المسلمين على مدار أكثر من ألف عام.
«العلمانية» فى تجربة النبى محمد
يدّعى فراس السواح أن النبى محمد ﷺ كان «أول علمانى فى التاريخ» لأنه فصل الدين عن الدولة فى «صحيفة المدينة»، لكن هذا الطرح يحمل تأويلًا غير دقيق لمفهوم العلمانية ولطبيعة الحكم فى الإسلام المبكر. «صحيفة المدينة»، التى كتبها النبى بعد هجرته إلى يثرب، كانت وثيقة متقدمة لتنظيم العلاقات بين مختلف الجماعات الدينية والقبلية فى المدينة، حيث ضمنت حقوق اليهود وغيرهم، ووضعت مبادئ للتعايش المشترك. ومع ذلك، فإن هذه الوثيقة لم تفصل بين الدين والسياسة، كما تفعل العلمانية الحديثة، بل أسست لنظام سياسى إسلامى يعتمد على المرجعية الدينية مع الاعتراف بتعدد المكونات الاجتماعية. المؤرخ فريد دونر فى كتابه محمد وأصول الإسلام «Muhammad and the Believers, ٢٠١٠» يشير إلى أن «صحيفة المدينة» لم تكن محاولة لفصل الدين عن الدولة، بل كانت وسيلة لدمج الجماعات المختلفة تحت قيادة سياسية موحدة ذات طابع دينى.

علاوة على ذلك، النبى محمد ﷺ لم يكن مجرد زعيم سياسى، بل كان أيضًا نبيًا يوحى إليه، وكان الوحى حاضرًا فى توجيه سياساته وتشريعاته. فى مسائل الحكم والقضاء، كان النبى يحتكم إلى الوحى ويطبّق الشريعة الإسلامية، كما كان يفصل فى النزاعات بين القبائل والجماعات بناءً على الأحكام الإلهية. الباحث وايلدر بانجز فى كتابه الإسلام والسياسة: تاريخ موجز «Islam and Politics: A Short History, ٢٠١٦» يوضح أن النبى محمد لم يحكم المدينة بصفته زعيمًا دنيويًا فقط، بل كان سلطانه قائمًا على مزج السلطة الدينية بالسياسية، وهو ما يناقض مفهوم العلمانية التى تفترض وجود فصل كامل بين المجالين.
فى الفكر السياسى الحديث، تُعرف العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة، بحيث تُدار الشئون العامة وفق قوانين وضعية مستقلة عن الأوامر الدينية، وهو مفهوم نشأ فى أوروبا نتيجة لصراعات تاريخية بين الكنيسة والدولة. أما فى حالة الدولة الإسلامية الناشئة، فلم يكن هناك هذا الانفصال، بل كان الدين عنصرًا جوهريًا فى تنظيم الدولة والمجتمع. حتى فى العلاقات الخارجية، كانت سياسات النبى محمد تُستمد من المبادئ الدينية، كما يظهر فى المعاهدات والاتفاقيات التى أبرمها مع القبائل الأخرى. الباحث جون إسبيزيتو فى كتابه الإسلام: الدين والسياسة والمجتمع «Islam: The Straight Path, ٢٠١١» يؤكد أن الإسلام منذ نشأته لم يفرق بين ما هو دينى وما هو سياسى، بل كان الدين إطارًا شاملاً للحياة العامة والخاصة.
بناءً على ذلك، فإن اعتبار النبى محمد «أول علمانى فى التاريخ» يُعد إسقاطًا لمفاهيم حديثة على سياق تاريخى مختلف تمامًا. الإسلام لم يقدم نموذجًا ثيوقراطيًا كالمسيحية الأوروبية فى العصور الوسطى، لكنه أيضًا لم يكن علمانيًا بالمعنى الحديث. بل كان نموذجًا وسطيًا حيث لعب الدين دورًا رئيسيًا فى التشريع والسياسة، وهو ما استمر فى الفترات اللاحقة من التاريخ الإسلامى. ولذلك، فإن مقارنة تجربة النبى محمد بالنماذج العلمانية الأوروبية تعكس فهمًا خاطئًا لكل من طبيعة الإسلام وفلسفة العلمانية نفسها.

الغزوات بين التبشير والعسكرية
يرى فراس السواح أن الغزوات التى قادها النبى محمد ﷺ كانت «حملات تبشيرية» وليست عسكرية، مستندًا إلى آيات تدعو إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. لكن هذا الطرح يتجاهل السياق التاريخى الذى نشأت فيه هذه الغزوات، إذ لم تكن مجرد وسائل لنشر الدعوة، بل جاءت فى إطار صراع سياسى وعسكرى فرضته ظروف الجزيرة العربية فى القرن السابع الميلادى. كان النبى محمد يواجه مجتمعًا قبليًا قائمًا على التحالفات والنزاعات، وكانت قريش وقبائل أخرى ترى فى صعود الإسلام تهديدًا لمصالحها الاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى اندلاع مواجهات مسلحة بين المسلمين وأعدائهم. وكما يشير المؤرخ فريد دونر فى كتابه محمد وأصول الإسلام «Muhammad and the Believers, ٢٠١٠»، فإن الغزوات لم تكن مجرد نشاط تبشيرى، بل كانت ردًا على تهديدات عسكرية تهدف إلى القضاء على المجتمع الإسلامى الناشئ.
الغزوات الكبرى مثل بدر «٦٢٤م»، أحد «٦٢٥م»، والخندق «٦٢٧م» كانت مواجهات عسكرية حقيقية، حيث خاض المسلمون معارك للدفاع عن أنفسهم أو لردع أعدائهم. معركة بدر، على سبيل المثال، لم تكن حملة دعوية، بل كانت مواجهة مسلحة بين المسلمين وقريش بعد أن صادرت الأخيرة ممتلكات المسلمين فى مكة، مما دفع النبى وأتباعه إلى اعتراض قافلة تجارية كرد فعل اقتصادى وعسكرى. أما معركة الخندق، فقد كانت نتيجة لتحالف قريش وقبائل يهودية وعربية ضد المدينة المنورة، وكانت تهدف إلى اجتثاث المسلمين بالكامل، مما اضطر النبى إلى تبنى استراتيجية دفاعية عسكرية لحماية مجتمعه. الباحث هيو كينيدى فى كتابه الرسول وقادة العرب «The Prophet and the Age of the Caliphates, ١٩٨٦» يؤكد أن الغزوات كانت جزءًا من ديناميكيات القوة فى الجزيرة العربية، ولم تكن مجرد نشاط دعوى.
رغم أن الإسلام يحمل بُعدًا دعويًا واضحًا، إلا أن نشره لم يكن يتم بالغزوات، بل من خلال التعاليم والقدوة الحسنة والتفاعلات التجارية والاجتماعية. أما الغزوات، فقد كانت مرتبطة بصراعات سياسية وعسكرية بين المسلمين وخصومهم، ولم تكن هدفها الأساسى نشر الإسلام بحد السيف كما يروّج البعض، ولا مجرد دعوة سلمية كما يذهب السواح. الآيات التى تحض على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة «سورة النحل: ١٢٥» والقتال للدفاع فقط دون اعتداء «سورة البقرة: ١٩٠» لا تعنى أن الإسلام لم يستخدم القوة عند الضرورة، بل تعكس ضوابط القتال فى الشريعة الإسلامية، والتى فرضت استخدام القوة فى حالات معينة دون تحويلها إلى أداة لنشر العقيدة بالقوة. وكما يوضح جون إسبيزيتو فى كتابه الإسلام: الدين والسياسة والمجتمع «Islam: The Straight Path, ٢٠١١»، فإن الغزوات كانت جزءًا من بيئة سياسية قائمة على الحروب القبلية، ولم تكن الإسلام ظاهرة تبشيرية فقط، بل كان حركة سياسية ودينية فى آن واحد.
بناءً على هذا، فإن القول بأن الغزوات كانت مجرد «حملات تبشيرية» هو تبسيط شديد للواقع التاريخى. كانت هذه الغزوات أدوات لحماية الدولة الإسلامية الناشئة، ولم تكن مجرد حملات لنشر الدعوة بين القبائل، بل كانت ردود فعل طبيعية على التهديدات التى واجهها المسلمون. كما أن النجاحات العسكرية للنبى محمد لم تؤدِ فقط إلى توسيع نفوذ الإسلام، بل كانت عاملًا حاسمًا فى تثبيت الدولة الإسلامية، مما يثبت أن الغزوات كانت ذات بعد سياسى وعسكرى أساسى، وليس مجرد وسيلة للدعوة السلمية.
الدولة الإيرانية والخلافة
يذهب فراس السواح إلى اعتبار أن «أول دولة إسلامية فى التاريخ» هى الجمهورية الإسلامية الإيرانية التى أسسها آية الله الخمينى عام ١٩٧٩، وهو طرح مثير للجدل من الناحية التاريخية والمفاهيمية. فالنموذج الإيرانى للحكم لا يتطابق مع مفهوم «الخلافة» كما عُرف فى التاريخ الإسلامى، بل هو نظام فريد قائم على نظرية «ولاية الفقيه»، التى تمنح السلطة السياسية لرجال الدين الشيعة، وتقوم على مزيج من الشرعية الدينية والشرعية الثورية. فى حين أن الخلافة فى التاريخ الإسلامى، سواء فى العصر الأموى أو العباسى أو العثمانى، كانت تستند إلى مبدأ وجود «خليفة» يمثل قيادة سياسية ودينية جامعة للمسلمين، ولم تكن تقتصر على مذهب بعينه. الباحث شاؤول بخاش فى كتابه تاريخ إيران الحديثة «A History of Modern Iran, ٢٠٠٨» يشير إلى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية نموذج سياسى جديد يجمع بين الثورة الدينية والتقاليد الشيعية، لكنه لا يشترك مع الخلافة الإسلامية التقليدية فى بنيتها أو أهدافها.
إذا كان السواح يرى أن إيران الخمينى تمثل «أول دولة إسلامية»، فإن ذلك يتناقض مع أطروحته القائلة بعدم وجود «دولة خلافة» عبر التاريخ. لأن النظام الإيرانى قائم على دمج الدين بالدولة، وليس فصلهما، وهو ما يتعارض مع الطرح الذى نسبه إلى النبى محمد باعتباره «أول علمانى فى التاريخ». فإيران الحديثة لا تتبع النموذج السياسى للخلافة الراشدة، حيث لم يتم اختيار قائدها بالشورى، بل عبر نظام قائم على ولاية الفقيه، وهو مفهوم فقهى خاص بالمذهب الشيعى الاثنى عشرى، يرى أن القيادة السياسية يجب أن تكون فى يد الفقيه العادل نيابة عن الإمام الغائب. وكما يوضح الباحث حامد الغار فى كتابه الجمهورية الإسلامية الإيرانية: بين الثورة والدولة «Iranian Islamic Republic: Between Revolution and Statehood, ٢٠١٢»، فإن إيران الخمينى تمثل تجربة حكم دينية ثورية، لكنها لا تعكس نموذج الخلافة الإسلامية الذى عرفه التاريخ الإسلامى.
علاوة على ذلك، فإن تجربة إيران السياسية تختلف جذريًا عن تاريخ الخلافة الإسلامية فى جانب آخر، وهو علاقتها بالعالم الإسلامى. فالخلافة فى العصور الإسلامية المبكرة كانت تسعى إلى توحيد المسلمين تحت راية خليفة واحد، بينما تمثل إيران الإسلامية دولة قومية ذات مشروع دينى- ثورى خاص بها، يتداخل مع الأبعاد القومية والمذهبية. فالنظام الإيرانى، رغم تبنيه لخطاب إسلامى، يتبنى أيضًا سياسات قائمة على الهوية القومية الفارسية والمصالح الجيوسياسية، مما يجعله مختلفًا عن نماذج الخلافة الإسلامية السابقة. وكما يذكر الباحث ريتشارد كوتام فى كتابه إيران والثورة الإسلامية «Iran and the Islamic Revolution, ١٩٩٤»، فإن الدولة الإيرانية لا ترى نفسها مجرد استمرار للخلافة، بل كيان ثورى يحمل مشروعًا عالميًا للإسلام السياسى وفق رؤية شيعية خاصة.
بناءً على هذا، فإن اعتبار إيران الخمينية «أول دولة إسلامية» يُعد تبسيطًا مفرطًا وإغفالًا للنماذج الإسلامية السابقة، كما أنه يتناقض مع رؤية السواح نفسه حول العلمانية والنبى محمد. فإيران الحديثة لا تعكس نموذج الخلافة الإسلامية، بل تمثل دولة دينية ذات طابع قومى-ثورى، وهى تجربة سياسية فريدة لا يمكن إسقاطها على تاريخ الإسلام السياسى بشكل عام. وبالتالى، فإن هذا الطرح يحتاج إلى مراجعة نقدية تأخذ فى الاعتبار تعقيدات النماذج السياسية الإسلامية عبر التاريخ.
القراءة التاريخية والإسقاطات الأيديولوجية
تشكل رؤية فراس السواح حول تاريخ الإسلام السياسى والخلافة الإسلامية قراءة نقدية خاصة، لكنها تثير إشكاليات عديدة تتعلق بفهم طبيعة الدولة الإسلامية، والعلاقة بين الدين والسياسة، ودور الغزوات فى بناء الدولة. فبينما يصح القول إن الخلافة الإسلامية مرت بتحولات كبرى عبر التاريخ، فإن الادعاء بعدم وجود «دولة خلافة» على الإطلاق هو تعميم غير دقيق. فالخلافة لم تكن مجرد مصطلح رمزى، بل كانت نظام حكم فعليًا اعتمد على الشريعة الإسلامية كمرجعية قانونية، وكان الخلفاء يتمتعون بشرعية دينية وسياسية حتى لو اختلفت أنماط الحكم بينهم. الباحث هيو كينيدى فى كتابه الخلافة: تاريخ إسلامى «Caliphate: A History, 2016» يوضح أن الخلافة كانت إطارًا سياسيًا حقيقيًا استمر لأكثر من ألف عام، رغم تغير أشكالها بين الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين.
كما أن ربط الإسلام السياسى فقط بتجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية يتجاهل حقيقة أن الحركات الإسلامية السنية لديها رؤى مختلفة لمفهوم الدولة الإسلامية. فحركات مثل الإخوان المسلمين، وتنظيم القاعدة، والدولة الإسلامية «داعش»، وحزب التحرير، وغيرها، قدمت تصورات متباينة لمفهوم الحكم الإسلامى، ولم تتبع بالضرورة نموذج ولاية الفقيه الإيرانى. الباحث أوليفييه روا فى كتابه فشل الإسلام السياسى «The Failure of Political Islam، ١٩٩٤» يشير إلى أن الإسلام السياسى السنى لم يكن موحدًا فى رؤيته للدولة، بل تأرجح بين مشاريع ديمقراطية وشمولية، مما يعنى أن التجربة الإيرانية ليست النموذج الوحيد للحكم الإسلامى الحديث.
النقاش حول هذه القضايا يجب أن يكون قائمًا على قراءة تاريخية دقيقة، بعيدًا عن الإسقاطات الأيديولوجية الحديثة التى تحاول فرض مفاهيم العلمانية الغربية على التاريخ الإسلامى.
