يقدم كنزًا ثقافيًا على هامش صديقيه بهجت النادى وعادل رفعت
سمير غريب.. من أين لك بكل هذه القدرة على إدهاشنا؟ (ملف)

عرفت الكاتب والناقد التشكيلى والمثقف الموسوعى سمير غريب مبكرًا.
عملت بالقرب منه فى نشرة المسرح التجريبى التى كان يرأس تحريرها ضمن مسئوليته عن صندوق التنمية الثقافية فى صيف العام ١٩٩٥، وكان نمطًا مختلفًا فى العمل الصحفى والثقافى، متحررًا من قيود الروتين ومقتضيات العمل الوظيفى، كنت أراقبه وهو يتحدث ويدير العمل ببساطة وتلقائية ومحبة لكل من حوله.
وعندما بدأ العام الدراسى الثالث لى فى كلية الإعلام، وجدته يدخل علينا ليدرس لنا مادة «النقد الفنى»، لم يكن أستاذًا تقليديًا، دخل بنا إلى متاحف الفن التشكيلى، اصطحبنا معه إلى مسارح الدولة، جاء لنا بروايات ودواوين شعر، كان يبنى فينا ذوق الصحفى، الذى كان لديه أهم من الدراسة النظرية التى لن تنتج سوى قوالب صماء.
كان سمير غريب يبحث فينا عن أماكن الإبداع، فيسعى إلى تفجيرها، لم يكن يضيق بخلافنا معه، بل كان يشجعنا على أن تكون لنا آراؤنا المستقلة عنه، ترك فى كل واحد فينا أثرًا لم يبدده الزمن، فالأساتذة الكبار لا يعبرون بسهولة فى حياة تلاميذهم.
ظللت أتابع سمير غريب فى محطاته المهنية وتنقلاته بين إدارات وزارة الثقافة، وكنت معجبًا باحتفاظه بقدرته على الإدهاش الدائم.
فى العام ٢٠١٦ أجريت معه حوارًا مطولًا، وكنت وقتها مسئولًا عن تحرير جريدة «البوابة» اليومية.
كنت قرأت له مقالًا نشره فى جريدة «الحياة» اللندنية، بعنوان «تدهور الثقافة فى أوروبا».
قال فيه من بين ما قاله: فى القاهرة التى ما زال بها أكبر عدد من المبانى والمؤسسات الثقافية فى المنطقة العربية، تحول عدد من المقاهى الثقافية التاريخية ومكتبات ودور عرض ومسارح إلى محلات أحذية ومطاعم ومكاتب إدارية، هذا غير ما تهدم منها وتحول إلى أبراج، تزايد ضعف دور الدولة فى دعم الثقافة، وهو ما انعكس سلبًا على النشاط الفنى والثقافى فى القطاع الخاص وفرق الشباب والهواة، بل ونشاطات وزارة الثقافة نفسها، الأمر بمجمله حدث فى بقية الدول العربية التى ما زالت دولًا، بل وفى العالم كله مع أحداث ٢٠١٥ الكارثية التى جعلت كثيرًا من المثقفين فى أوروبا يشعرون بأن هذا العالم سيتغير إلى الأبد، وهذا صحيح ليس على المستوى الثقافى فقط، بل على شكل وعمق الحياة على الأرض.
تواصلت مع سمير غريب، قلت له: هذا المقال يستحق أن نفتح حوله نقاشًا وحوارًا مطولًا، فرحب بى على الفور.
من بين ما قاله فى هذا الحوار:
أولًا: العالم ليس متجهًا إلى التوحش، لسبب بسيط وهو أن التوحش موجود فى كل فترات التاريخ، الفترات الزمانية للحروب أكثر من فترات السلم، وهذه طبيعة بشرية، لكن ما يمكن أن يكون أوضح بالنسبة لى هو أن العالم فى طريقه للانهيار بالكامل.
ثانيًا: الخوف الذى يعيشه الإنسان فى العالم يعود إلى أربعينيات القرن العشرين، منذ سقطت القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكى، ولا يزال الخوف من إفناء العالم بالقنبلة الذرية قائمًا فى لا وعى العالم.
ثالثًا: نحن أمام همجية تحكم العالم، فعندما تتأمل تصرفات الساسة وصراعاتهم السياسية ستجد نفسك أمام حالة من العته التى يعانى منها القادة السياسيون من أجل تحقيق أغراض ومصالح مؤقتة، والمؤسف أن هذه الصراعات يدفع ثمنها الإنسان وحده.
رابعًا: الفلسفة كانت عمود العلم منذ الحضارة الرومانية وحتى الحضارة الحديثة، لكن الفلسفة تفككت مع المدرسة التفكيكية، والسؤال المنطقى جدًا الآن هو: أين الفلسفة فى المشهد المعاصر من حياة البشر؟ الفلسفة انهارت تمامًا فى أوروبا كعلم وتدريس وبحث، وفعليًا لا يوجد اتجاه جديد فى الفلسفة منذ ثلاثين عامًا على الأقل، ولست فى حاجة إلى أن أقول إنه لا وجود للفلسفة على الإطلاق فى مصر والدول العربية.
خامسًا: الثقافة المصرية لا تحتاج إلى إنقاذ، لأنها ليست موجودة أصلًا، لن أقول كلامًا كبيرًا، ولن أستخدم مصطلحات، ولكنى سأقول وبوضوح إننا نعانى من انهيار ثقافى، وهو انهيار حدث منذ فترة طويلة.
سادسًا: زيادة استخدام تهمة ازدراء الأديان تؤكد أن لدينا انهيارًا دينيًا، ما يحدث سلوك بشرى لا علاقة له بالدين، كذلك المغالاة فى الحديث عن خدش الحياء العام تؤكد أننا نعانى من انهيار أخلاقى، لا أتحدث عن انهيار الدين أو الأخلاق، ولكن أتحدث عن ثقافة البشر المنهارة.
سابعًا: لا أرى أى مستقبل بدون أن تكون الثقافة هى قاطرة التقدم، اجعلوا الثقافة هى التى تقود، وهو ما يلزم معه أن تكون هناك سياسة دولة فى الشأن الثقافى، وليس مجرد وزير ثقافة، فوزارة الثقافة إذا عملت فى مجال المؤسسات البيروقراطية التى تسيطر على البلد فلن تفعل شيئًا، ولا تستطيع أن تحقق أى نتيجة. لا بد أن تكون الثقافة موجودة بداية من رئيس الدولة إلى أصغر عامل فيها، وعندما تقرر الدولة ذلك فلا بد أن تتعاون مع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية، وقتها ووقتها فقط قد يكون هناك إنقاذ.. هذا إذا كان هناك من يريد الانقاذ.
فى مارس ٢٠١٩ أصدر سمير غريب كتابه الرائع «خلود المحبة» الذى سجل فيه -كما قال- شذرات من سيرته الذاتية ونصوصًا قصصية وشعرية، مستعيدًا بها وجوهًا أحبها، رحلت أو طال عمرها، استمتع بها وتعلم منها، وراجع فيه كتبًا قرأها وتأثر بها، واسترجع تجارب عاشها فى حياته أو شاهدها.
أهدى سمير كتابه إلى السيدة فاطمة محمود على، وهى والدة زوجته الدكتورة سامية.
كتب لها: إلى الأم فاطمة محمود على.. أم سامية.. أمى بعد أمى، فقد علمتنى خلود المحبة.
كتب سمير هذا الإهداء إلى السيدة فاطمة ولم يخبرها به، كان يريد أن يكون مفاجأة لها عندما تقرأ الكتاب، لكنها رحلت.
يقول: فكرت أن أحدثها عنه وأنا أشارك فى حمل جسدها الطاهر إلى حيث يستريح راحته الأبدية.. لكن بكائى أنسانيه.
على شاشة برنامجى ٩٠ دقيقة استضفت سمير غريب لأتحدث معه عن كتابه فى ٩ أبريل ٢٠١٩، وبين تفاصيل حديثنا الإنسانى عمن أحبهم وكانوا أبطال كتابه، كشف لى سرًا هائلًا من أسرار حياته.
قال لى سمير إن فكرة الكتاب جاءته من نص أدبى كتبه عن زوجته الراحلة الدكتورة سامية بعد وفاتها بـ٣ سنوات، أرسل المقال إلى جريدة الأهرام التى كان ينشر بها مقالاته، لكنه فوجئ أن المقال مُنع من النشر دون سبب أو مبرر، فقد كانت هذه هى السابقة الأولى التى يتم فيها رفض أحد مقالاته.
وأضاف سمير: توقفت عن الكتابة فى الأهرام منذ هذه الواقعة، وقررت أن أكتب «خلود المحبة» من أجل تخليد هذا المقال.
لم يستطع سمير أن يكتب المقال عن زوجته بشكل مباشر، توهم أن آخرًا يحدثه عنها، ويملى عليه العبارات التى ينظمها بين يديها.
سألته عن تأثير هذا المقال عليه، فقال: صدقنى لا أستطيع أن أقرأه مرة ثانية، ولا أتحمل أن أسمعه من أحد، بل إننى لا أستطيع أن أتحدث عن زوجتى ببساطة، وقد أرسلت هذا المقال إلى الأهرام ثم ضمنته الكتاب بعد ذلك دون أن أراجعه.
وعندما تسأل عن سر هذا التأثير الطاغى للدكتورة سامية على سمير.
ستجده يقول لك: كانت سامية الحماية التى تحيط بى على الأرض.. وعندما ماتت شعرت بأن العالم استفرد بى تمامًا.
منذ شهور قرأت لسمير غريب مقالًا نشره فى مجلة «عالم الكتاب» تحدث فيه عن علاقة ربطت بين صديقه بهجت النادى والكاتب الكبير خالد محمد خالد.
كان سمير يقلب فى أرشيف بريده الإلكترونى، فوجد ثلاث رسائل خصه بها بهجت فى أواخر العام ١٩٨٧، خصصها بالكامل للحديث عن علاقته بخالد محمد خالد، وهى الرسائل التى نشرها كاملة، ونشر كذلك ما كتبه خالد فى مذكراته «قصتى مع الحياة» عن بهجت وبداية معرفته به.

أعترف- كما قلت لسمير غريب عبر رسائل يشهد عليها الواتس آب- بأننى كنت أتمنى نشر هذه الرسائل عندى فى جريدتى «حرف».
لم أفصح له عن السبب، فأنا شديد الإعجاب بخالد محمد خالد، أعتبر كل ما يكتبه يخصنى بشكل ما، ثم إننى شعرت بأن بهجت النادى قصة كبيرة تحتاج إلى إلقاء مزيد من الضوء عليها، فطلبت منه أن يكتب لنا مقالًا خاصًا عنه، بعيدًا عن قصته مع خالد محمد خالد.
أرسل لى سمير غريب رسالة بعد شهور من حديثى معه.
قال لى فيها: يا أخى محمد طلبت منى كتابة مقال عن بهجت النادى، فوجدت نفسى أكتب كتابًا عنه، ولم أنتهِ بعد، على كل حال سيكون الكتاب الأول عنه باللغة العربية، وستكون أول من يقرأه إن شاء الله، تحياتى ومودتى.. وكل سنة وأنت طيب.
لم أزد فى ردى على هذه الرسالة إلا بـ: كل سنة وأنت بخير وراحة بال.. فى الانتظار يا أستاذنا.
وبعد شهور قليلة وجدت الكتاب بين يدى، أصدرته دار الشروق، وهو الكتاب الذى أعتبره بالنسبة لكثيرين كشفًا ثقافيًا وأدبيًا هائلًا.
المفاجأة أن الكتاب لم يكن عن بهجت النادى، ولكنه كان عن بهجت وصديقه عادل رفعت، وأما الكشف فهو أن بهجت وعادل يكتبان المقالات ويؤلفان الكتب باسم واحد مشترك هو «محمود حسين»، وفى الأوساط الغربية وتحديدًا الفرنسية ودوائر الفكر والثقافة العربية عندما يقال اسم محمود حسين، فالجميع يفهمون أنه اسم لشخصين وليس لشخص واحد.
ألم أقل لكم إن سمير غريب لا يكف عن إدهاشنا طوال الوقت؟
لقد كان كتابه تحية لصديقيه، أهداه لهما، قال: «إلى بهجت النادى وعادل رفعت.. صداقة عمر على حدة».
وضع لنفسه منهجًا خاصًا فى كتابته، فهو لم يلتزم بالتسلسل الزمنى للأحداث، وكتب جزءًا منه فى شكل يوميات، واختلطت فى الكتاب سيرتهما بسيرة سمير الشخصية، فهى سيرة حميمية من جهة، ومن جهة أخرى وقعت معظم أحداثها فى مدينة باريس التى عاش فيها سنوات وله فيها ذكريات.
ولأن قصة بهجت النادى وعادل رفعت، اللذين هما محمود حسين، تستحق أن تُروى..
فإننى أستأذن سمير غريب الصديق الذى أحب صديقيه بإخلاص نادر فى أن يكون لى منهجى الخاص فى عرض الحكاية مرتبة بطريقة أخرى، فقد منحنا كنزًا ثقافيًا هائلًا، وليس لنا إلا أن نحافظ عليه ونستفيد منه ونضعه بين أيدى مَن يقدرونه.
الآن يمكننا أن نبدأ معًا الرحلة التى أعتقد أن مشقة إكمالها معًا لن توازى أبدًا متعة أن نتعرف على عالم خاص لكاتبين اختارا أن يكونا كاتبًا واحدًا.. لم يختلفا ولم يفترقا، وقدما لنا فيضًا فكريًا يستحق أن نعيد اكتشافه من جديد.
اقرأ في الملف:
الثنائى محمود حسين.. القصة الكاملة لكاتبين يحملان اسمًا واحدًا
يسارى وإسلامى.. رسائل بهجت النادى عن علاقته الخاصة بـ «خالد محمد خالد»
الرسول والقرآن.. قراءة من زاوية مختلفة بعين محمود حسين