الخميس 13 فبراير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الرماديون.. مهزلة التهجير الثقافى الطوعى

حرف

لا يستطيع أحد مهما كان يعتقد فى نفسه وأفكاره ومواقفه أن يشكك فى وطنية أحد دون دليل. 

خلال السنوات الماضية كانت هناك معركة صاخبة أثارت الكثير من الغبار فوق الوجوه، تبادل فيها الفرقاء الاتهامات، وألقينا على بعضنا البعض ما تيسر من قاذورات الأرض، ورغم أن تجاوزات كثيرة وقعت من الطرفين، إلا أنها كانت معركة الأمر الواقع التى لا بد أن نخوضها مهما كانت خسائرها فادحة. 

فبعد٣٠ يونيو كانت هناك ثلاث دوائر واضحة ومحددة، لا تحتمل اللبس أو التأويل أو الالتفاف حولها.

الدائرة الأولى بيضاء. 

بدء عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال غزة بعد موافقة حماس على الإفراج عن  رهائن بينهم أربيل يهود

اجتمع فيها وحولها من وقفوا بقناعة كاملة فى صف ثورة ٣٠ يونيو، وعملوا بكل ما يملكون من وقت وجهد لشرح مشروعها، باعتباره مشروع إنقاذ كاملًا لمصر من مصير كان ينتظرها على يد الجماعة الإرهابية التى اختطفت الوطن فى طريق لا يناسبه.. ولا يرضاه له أحد. 

الثانية سوداء تمامًا. 

كانت على العكس فى كل شىء، وفيها انتظم كل من خاصموا ٣٠ يونيو ورفضوها وعملوا على تقويضها، وهؤلاء خرج منهم من خرج هاربًا من مصر، وتحولوا إلى سهام مصوبة ضد البلد، وبذلوا جهدًا خارقًا لتشويه كل شىء والإساءة إليه، على اعتبار أن الثورة المخلصة نكبة حلت على مصر. 

انضم إلى هؤلاء مؤيدون داخل مصر.. صحيح أنهم التزموا الصمت، لكنهم من آنٍ إلى آخر كانوا يطلون برؤوسهم علينا، ولم تكن إطلالتهم إلا نذير شؤم كامل. 

الدائرة الثالثة هى الرمادية. 

وهى دائرة عمل من خلالها من لا يميلون إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ارتضوا لأنفسهم الجلوس فى مقاعد المتفرجين، ينتظرون ما الذى يمكن أن تسفر عنه المعركة، لينضموا إلى من تكون الأرض معه، فيفوزون بما يعتقدون أنها غنائم المعركة دون أن يبذلوا ولو جهدًا عابرًا، يجعلهم يستحقون ما يخرجون به من الصراع القائم. 

كنت وما زلت أقدر أصحاب الدائرة الأولى. 

حماس»: عودة أكثر من 300 ألف نازح إلى شمال غزة

فالرؤية لديهم كانت- ولا تزال- واضحة، أدركوا من البداية المخاطر التى يتعرض لها الوطن، فوقفوا فى صفه، عرفوا أن هناك من يريد هدمه، فقطعوا عليه الطريق، لا يصدقونهم فى شىء مما يقولونه، تحملوا الكثير فى سبيل التأكيد على أن وجهة نظرهم كانت- ولا تزال- صحيحة. 

وكنت ولا أزال أتفهم دوافع من خرجوا عن صف الثورة، ونصبوا من أنفسهم خصومًا وأعداء لها، يحاولون هدمها، ويدعون لثورة على الثورة، صحيح أننى لا أقدرهم، ويستحقون كل ما يقال فى حقهم من عمالة وخيانة وسقوط سياسى وأخلاقى، لكنهم فى النهاية واضحون، وقد دفعوا أيضًا ثمن مواقفهم، فالتشرد فى بلاد الله- وده بالمناسبة يستحقونه تمامًا- ثمن لا يُستهان به. 

أصحاب الدائرة الثالثة ملغزون، وحتى إذا فهمت دوافعهم بأنهم يؤثرون السلامة، ولا يريدون أن يتورطوا فى معسكر من المعسكرين، حتى لا يدفعوا الثمن، فإننى لا يمكن أن أقدرهم أو ألتمس لهم أى عذر فيما تمسكوا به. 

فهؤلاء أشد خطرًا على الوطن من غيرهم، لأنك لا تعرف لهم موقفًا محددًا، ولا يمكن أن تركن إليهم فى أى معركة حقيقية نمر بها، فهم ينتظرون المكسب المريح، ويتعلقون بثياب من ينتصر، يرتضون بأن يكونوا أتباعًا خانعين، وهم فى الغالب يرضون بما يلقى إليهم حتى لو كان هشًا هزيلًا تافهًا متهافتًا. 

المواجهة التى استمرت لسنوات بين أصحاب الدائرتين البيضاء والسوداء، خلقت حالة من الاستقطاب. 

أصبحنا نعانى من أن أى قضية أو موقف أو مشروع أو تصريح أو قرار أو احتفالية أو إنجاز تتفرق بين رأيين وموقفين، لم نعد نتفق على شىء، ولا نتوحد خلف أحد، ولا تكون لنا كلمة واحدة. 

فى السنوات الأولى لهذا الصراع الحاد والساخن، كان يعيب البعض علينا أننا نتعرض لأصحاب الدائرة السوداء بما يكشفهم ويعريهم ويظهر عوراتهم، ويؤكد عمالتهم وخيانتهم، وكنا نسلك فى ذلك كل مسلك. 

كانوا يقولون لنا إننا لا يجب أن نتعامل معهم بطريقتهم، فنحن أصحاب حق، ولا يجب أن ننزلق إلى منزلقهم، ويكفى أن نرد عليهم بالحقائق والمعلومات والبيانات الدقيقة والموثقة، فإذا كانوا يهاجموننا بالكذب والباطل والإفك، فيجب أن نكون أرقى منهم، فلا نهاجمهم كما يهاجموننا، ولكن علينا فقط أن نضع الحقيقة أمام الناس، وساعتها سيعرف الجميع باطلهم وزيفهم. 

بدء عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة - Lebanon News

وكنت- وما زلت- أرفض هذا المنطق، ليس لأنه يدل على ضعف شديد، فليس على رؤوسنا بطحة نداريها، ولكن لأنه بالفعل لا يأتى بنتيجة، ولا يثمر بشىء ملموس له قيمة، وأقول ذلك لأننا جربنا هذه الطريقة أكثر من مرة، لكن لم يكن يلتفت لها أو يقدرها أحد. 

سأضع أمامكم أكثر من مثل دال وواضح. 

كان الذين ينطلقون من منصات الشر المطلق يهيلون التراب على مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، يحشدون بين أيدى من يستمعون إليهم كل الأكاذيب والمعلومات المضللة، ليقولوا شيئًا واحدًا، هو أن هذا المشروع خراب على مصر، وإهدار لأموالها فى التراب، فهل يُعقل أن تذهب مصر لتبنى عاصمة إدارية فى الصحراء، وما الحاجة لها من الأساس؟ 

كنا نتحدث عن المشروع وأهدافه والطموح الذى يقف خلفه ومصادر تمويله وحاجة مصر إليه، لكن لم يكن يستمع أحد، كانوا يواصلون غيهم، ويصرون على ما يزعمون، وكأن الله ختم على آذانهم بعد أن ختم على قلوبهم. 

وكانوا يمعنون فى تسفيه كل ما يتعلق بمشروع قناة السويس الجديدة، يقللون من أهميتها ومن العائد منها، وعندما نضع الحقائق أمام الجميع، كانوا ينصرفون عنها لما يريدون التأكيد عليه فقط. 

لم نكن أمام من نختلف معهم فى الرأى أو التوجه، ولكننا واجهنا خصومًا وأعداءً، مهما كان الحق معنا، لأنهم لا يعترفون لك به، وكيف يعترفون، وهم يريدون هدمك والانقضاض عليك بلا رحمة، حتى ينزعوا عنك كل ما تقوم به؟ 

كان الجيش والشرطة يعملان جاهدين على مقاومة الإرهاب. 

حماس»: إسرائيل تخرق اتفاق وقف النار بمنع عودة سكان شمال غزة

وكانت الحكومة يعاونها الجيش فى بناء ما تهدم وإصلاح ما فسد، وترميم ما تواطأ الزمن والأنظمة السابقة على زرع الشروخ بين جنباته. 

وكنا ننتظر أن يخوض المثقفون المعركة الثالثة، وهى الأهم لأنها تتعلق بالوعى. 

انتظرنا كثيرًا، ولم يكن العائد لا مرضيًا ولا مريحًا. 

كان من المفروض أن تتجه جهود المثقفين وقادة الرأى من المفكرين والمنظرين إلى أصحاب الدوائر الثلاث. 

فأصحاب الدائرة السوداء كان لازمًا معهم المواجهة الكاملة والشاملة والحاسمة والقاطعة. 

فهم لا ينشرون أخبارًا كاذبة فقط. 

ولا يروجون شائعات واختلاقات فقط. 

ولا يكتفون بفبركة الوقائع والأحداث فقط. 

لكنهم عملوا بدأب على صناعة تصورات نظرية لما يحدث فى مصر، سعيًا وراء قيادة الناس إلى الجهة التى يريدونها دون غيرها. 

كان يجب على المثقفين أن يتصدوا لهذه التصورات النظرية بتصورات مضادة لتبطل مفعول ما يصنعون، لكنهم للأسف الشديد تركوا الإعلام وحيدًا فى أرض المعركة، لم يعززوا أدواته، ولم يقفوا فى ظهره. 

ما حدث أنهم كانوا بمثابة الخنجر المغروس فى ظهر الإعلاميين الذين دخلوا المعركة دون غطاء، فكانوا يهاجمونهم ويقللون ما يفعلونه، بل ويعتبرونهم لا يقومون بواجبهم على الوجه الصحيح. 

أصحاب الدائرة البيضاء من المؤيدين والداعمين للدولة ولمشروع ٣٠ يونيو كانوا فى حاجة أيضًا لجهود المفكرين والمثقفين. 

وقد تتعجب مما أقول. 

فهل يحتاج المؤيد لمن يدعمه؟

هل يحتاج من يؤمن بفكرة لمن يسانده؟ 

مشاهد مهيبة من «مسيرة العودة» إلى شمال غزة (صور) | الشرق الأوسط

واقع الأمر أنهم كانوا يحتاجون إلى كل دعم ومساندة، على الأقل لتثبيتهم فيما يعتقدون ويؤمنون به. 

لقد تعرض المؤيدون للدولة إلى حملات طاغية تشوه وتطعن وتسب وتلعن وتتهم، ولم يرد أحد عنهم ذلك إلا قليل، بل إنهم تعرضوا لأكبر عملية من التشكيك فيما يؤمنون به، وكأنهم كفروا بالوطن وبما يجب عليهم أن يؤمنوا به. 

وبدلًا من أن يلاقوا الدعم النفسى والمعنوى والثقافى الذى يجعلهم يقبضون على الجمر، وجدوا من فئات المثقفين المختلفة من يتماهى مع حملات التشكيك فيهم، فتعالوا عليهم وألصقوا بهم اتهامات وصفات مهينة لا أصل لها ولا أساس. 

وجد من يتعرضون لهذه الحملات ليس من الخارج فقط، ولكن من الداخل أيضًا أنفسهم يدافعون عن أنفسهم، وكان مثيرًا للدهشة والاستغراب وجالبًا للجنون أن يحتاج أحدهم لأن يدافع عن نفسه؛ لأنه يؤيد الدولة أو يدعمها ويدافع عنها. 

مهمة النخبة المثقفة وقادة الفكر من الكتاب والمبدعين مع أصحاب الدائرة الثالثة، وهم الرماديون كان من المفروض أن تكون أكبر، لأن هؤلاء كانوا- ولا يزالون- يعيشون على حرف، يمكن أن يستقطبهم أصحاب الدائرة السوداء، ويجعلونهم فى صفهم، فهم يكتفون مما يحدث بالمشاهدة، وليس خافيًا عليكم أن من يبالغ فى استعراض ما لديه ويلجأ إلى كل أساليب الخداع- كما فعل جنود الظلام فى الخارج- يستطيع أن يجذب الجمهور إليه. 

المفارقة المذهلة أن عددًا كبيرًا من المثقفين الذين تقع على كاهلهم مهمة التنوير ودعم المؤيدين وجذب الرماديين، تحولوا هم مع مرور السنين إلى رماديين، يجلسون هم أيضًا على حرف، ينتظرون من يحسم الصراع لصالحه حتى ينحازوا إليه. 

هؤلاء الرماديون هم الأخطر على الإطلاق، فهم يلتزمون الصمت، لكنهم فى أى وقت يمكن أن يتحولوا إلى خصوم، يصبحوا شوكة فى ظهر كل من يعمل أو يقدم شيئًا إيجابيًا، لقد تحول هؤلاء إلى ندابات، منابع للطاقة السلبية، معاول هدم لكل شىء بصمتهم وتواطئهم. 

أعرف أن الحياة اختيارات. 

ولكن هل يمكن أن يكون الوطن من بين اختياراتنا؟ 

هل يمكن أن يكون الوطن وما يتعرض له من مخاطر محلًا لوجهات نظر مختلفة ومتباينة؟ 

إننى لا أتحدث عما جرى على يد النظام. 

فالتجربة ملك الشعب، هو وحده صاحب الحق فى تقييمها والحكم عليها وإنصافها أو الخسف بها. 

ولكننى أتحدث عما تتعرض له مصر من سنوات على يد أعداء نعرفهم جيدًا، وآخرين لا نعلمهم ولكننا نشعر بتحركاتهم وأهدافهم وتخطيطهم.. ولن أتردد فى أن أقول ومؤامراتهم أيضًا. 

فى كل مرة أبحث عن قلب معركة الوعى الصلب فلا أجده

أبحث عن المثقفين الذين يجب أن يكونوا مشاعل فى طريق الظلام. 

عن المفكرين الذين يجب أن يكونوا العصا التى يتوكأ عليها الناس فى طريق وعر تسيطر عليه المطبات والعثرات. 

أبحث عن المبدعين من الشعراء والروائيين الذين ينبعى أن يقودوا أصحاب الآفاق المحدودة إلى سِموات من الخيال المطلق الذى لا تحده حدود. 

بدء عودة الفلسطينيين النازحين إلى شمال غزة

أبحث عن أساتذة الجامعة الذين لا بد أن يقفوا فى مقدمة الصفوف من خلال إعداد أجيال تعى جيدًا ما يراد لهذا الوطن وما يراد به. 

إننى لا أعيب على أحد، ولا أريد أن أجبر أحدًا على اختيار بعينه، لكننى أرصد فقط ما جرى فى السنوات الماضية. 

أمامنا الآن صورة من صور التحدى العظمى يقوم بها أبناء الشعب الفلسطينى، يعرفون جيدًا أن كل ما جرى من قتل وسفك دماء وتخريب ديار ليس لشىء إلا من أجل تهجيرهم من أرضهم، لكنهم لا يستسلمون أبدًا، يعلنون أنهم لن يرحلوا عن أرضهم حتى لو تحولت إلى كوم من التراب. 

عندما أتأمل الصورة التى بين يدى لجموع نخبتنا الثقافية والفكرية أجد أن من ينتمون إليها ارتضوا التهجير الطوعى لأنفسهم من أماكنهم التى يجب أن يكونوا فيها، وهو ما أورثنا خسائر كثيرة لا تعد ولا تحصى. 

إننا فى حاجة إلى أن يعود من استسلموا لتهجيرهم طوعيًا عن أرض معركتهم الثقافية الحقيقية أن يعودوا إليها مرة أخرى، فما ينتظرنا جميعًا كثير وخطير، ولا يمكن التهاون فيه أو معه.

المعركة القادمة وجودية وفاصلة.

نرى جميعًا فى الأفق نذر شؤم قادمة، وليس علينا إلا أن نقف صفًا واحدًا ندافع عن أرضنا ووجودنا، وإذا قال لكم أحد شيئًا غير هذا. 

فتأكدوا أنه من بين هؤلاء الرماديين الذين يرتضون التنازل عن أدوارهم ثم يلومون الآخرين أنهم لن يُمكنوهم من عمل شىء... فالحقيقة أنهم لا يريدون أن يعملوا أى شىء.