قدمتها نعمات أحمد فؤاد فى كتاب مغمورعمره 50 عامًا.. محاكمة ثقافية لعصرعبدالناصر
فى العام 1974 أصدرت دار الشروق للدكتورة نعمات أحمد فؤاد كتابها «أعيدوا كتابة التاريخ».
مرت خمسون عامًا كاملة على الكتاب.
الذين يعرفونه قليلون جدًا، يكاد يكون مغمورًا بشكل كامل، ليس له حضور فى المجال العام الثقافى مثل كتب أخرى للدكتورة نعمات، فلها مؤلفات عديدة تعاد طباعتها حتى الآن، مثل كتابها الشهير «شخصية مصر» و«أم كلثوم.. عصر من الفن»، وكتابها الذى سجل معركتها الشهيرة مع وزير الثقافة فاروق حسنى «مشروع هضبة الأهرام أخطر اعتداء على مصر».
الكتاب يمكن قراءته على أكثر من مستوى.
المستوى الأول من عنوانه، فأنا أحبذ الدعوة لإعادة كتابة التاريخ دائمًا، خاصة كما فعلت الدكتورة نعمات على جناح مواجهة فاحصة للمفاهيم الخاطئة فى تفكيرنا للأوضاع الدامية فى حياتنا بالتحليل والاستقصاء والغوص فى الأسباب الجذرية.
تقول نعمات: طالما كتبت عن شخصية مصر وكنت فى انسحاق الهزيمة، أتعمد أن أجلو إيجابيات هذه الشخصية وعطائها فى ماضيها الطويل، لأعطى الأمل للنفس المصرية، وأنفض بعضًا من أحمال وأوحال اليأس التى رزحت تحتها حتى كادت تختنق كمدًا وهوانًا.
المستوى الثانى للقراءة من بعض مضمون الكتاب، والذى يبدو أن الهدف منه كان إهالة التراب على تجربة الرئيس عبدالناصر كاملة.
فقد أسهمت الكاتبة به فى زفة الهجوم التى وقف وراءها الرئيس السادات لتشويه كل ما يتعلق بسلفه وعصره، وتوقيت نشره هنا مهم.
ففى العام 1974 كانت قد تزاحمت الأصوات حول الرئيس عبدالناصر وحول عصره، توافق على ذلك كتاب وصحفيون من اتجاهات متناقضة، لكن هدفهم كان واحدًا.. هدم الرئيس القديم وتمجيد الرئيس الجديد.
تكشف الدكتورة نعمات عن نفسها وهدفها من السطور الأولى لمقدمة كتابها.
تقول: أما وقد انجابت الظلمات وتنفس الصبح فلا ضير، بل لا بد من كشف السلبيات، لا شهوة فى النقد أو السادية أو تحطيم أشخاص، فإن هدف المصرى العابد أكبر من هذا وأكرم وأرفع، وملاك الأمر عندى ألا تتكرر المأساة إذا لم نستفد من الأخطاء، ونتُب عن الخطايا، وهنا تكون المواجهة ضرورة وفرضًا.
تتوجه نعمات إلى قلب هدفها مباشرة، عندما تشير إلى أن أى حاكم لا يقع الجرم عليه وحده، ولا بالقدر الأكبر، لأنه لولا من يقبل الجور ما كان من يجور، لهذا ينصرف أغلب ما فى هذا الكتاب من النقد إلى الشعب، لأن الحاكم عادة فى البداية يكون متهيبًا يتلمس مواطن رضاه، وكلما وجده يتهافت عليه ويغرق فى مدحه ثم تأليهه.. استخف به.
كانت هذه حيلة خبيثة من الدكتورة نعمات.
فقد أعلنت عن أنها ستهاجم الشعب أكثر، ربما لتفادى حملات الهجوم من أنصار عبدالناصر، فقد كان ما فعلته فى كتابها تعليق الفأس فى عنق عبدالناصر وحده.
فى الفصل الأول من الكتاب والذى يحمل عنوانه «أعيدوا كتابة التاريخ» تشن نعمات أحمد فؤاد حملة شاملة وطاغية على عصر عبدالناصر.
لم توجه نقدًا للشعب كما قالت، ولكنها اهتمت بما أحدثه الرئيس وما فعلته سياساته، ولأنها صاحبة علم وفكر وفهم وثقافة، فقد انشغلت بما يهمها، فلم تتحدث لا فى السياسة ولا فى الاقتصاد، ولكنها اهتمت فقط بالثقافة.
تدخل نعمات إلى عصر عبدالناصر من العام ١٩٦١، وهو العام الذى ترى أن مراكز القوى فرضت فيه على المصريين الحراسة، وجرى من المآسى والمخازى ما سجلته لجنة الاقتراحات البرلمانية التى تشكلت عام ١٩٧٢.
فى عهد الاحتلال البريطانى نادى أحمد لطفى السيد بالمصرية ونادى طه حسين بحرية الفكر والتحلل من الغيبيات
ولأن الحراسة كانت تخص حرية العيش، فقد انتقلت منها نعمات سريعًا إلى حرية الرأى، وحتى تصل إلى عصر عبدالناصر، فقد قدمت لذلك مقدمات تاريخية، أفاضت فيها.
ففى عهد الاحتلال البريطانى نادى أحمد لطفى السيد بالمصرية، ونادى طه حسين بحرية الفكر والتحلل من الغيبيات، وناقش الشعر الجاهلى فى عقلانية وانفتاح، كما ناقش مستقبل الثقافة فى مصر.
تعلق نعمات على ما فعله طه حسين بقولها: ولا أريد أن أقول إن كل كلمة قالها صواب محض، فليس هذا هو المهم، ولكن المهم والأهم هو مبدأ حرية الرأى والتفكير والقول والكتابة والنشر.
وتستأنف نعمات حديثها التاريخى.
فعبدالعزيز فهمى وجد من نفسه وعصره الشجاعة على الجهر باستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وعلى عبدالرازق تكلم وألّف عن أصول الحكم، وأمين الخولى تكلم عن مصرية الأدب والتفسير النفسى للقرآن والبلاغة الحقيقية، والعقاد والمازنى انهالا على أدب التشريفات والمدائح التسولية وامتهان كرامة الإنسان والفنان بالتبعية والتقامؤ، وانهالا على النظرية العتيقة المقدسة «بيت القصيد».
أما الدكتور منصور فهمى مصيبًا أو مجانبًا للصواب فتكلم عن حرية المرأة فى الإسلام، والدكتور أحمد أمين تكلم عن أدب المعدة وأدب الرأس والعقل، وتكلم عن العامية وأمثالها ومضامينها وجذورها ودلالاتها، وتكلم عن الحياة العقلية فى فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام بما يشكل موسوعة جامعة.
ومحمود عزمى والتابعى اسْتنّا السهولة والخفة والسرعة فى الكتابة، والزيات دافع عن البلاغة، وارتاد الحكيم والمازنى وهيكل وأضرابهم طريق القصة والرواية والمسرحية، وترجم محمد بدران وزكى نجيب محمود قصة الحضارة.
وفى حقل الثقافة صدرت مجلات البيان والرسالة والثقافة والهلال والمقتطف ولواء الإسلام، ولم تترك الرسالة بلدًا عربيًا إلا دخلته، بل لقد كانت المجلة الوحيدة التى يقرأونها، ويكتبون فيها، حتى لقد كان السوريون يسمون يوم الثلاثاء الذى كانت الرسالة تصل إليهم فيه «يوم الرسالة»، ولا يقول قائلهم «يوم الثلاثاء»، كما كان الأديب من كُتاب الرسالة عندما يزور بلدًا عربيًا لا يميزونه باسمه، بل بهذه الصفة، فكان كتاب الرسالة فى هذه الظاهرة كأهل بدر، وكانت الكتابة فى الرسالة شهادة للكاتب ترفع من اسمه وتعلى بين الكُتاب مكانه.
تواصل نعمات قصيدتها فى مدح مجلة الرسالة، تقول: كانت الرسالة مدرسة ربت جيلًا وربطت شعوبًا ووصلت بلادًا ووثقت علائق ونهجت سبلًا، كانت ريادة ومشعلًا وسفارة لمصر لم تعمل عملها السفارات.
وفى أول غمز ولمز فى عصر عبدالناصر ثقافيًا، تقول نعمات: من الغريب أو العجيب أن الرسالة والثقافة اللتين ولدتا وعملتا بانفتاح ومقدرة فى ظروف عاصفة جثم فيها الاستعمار على حياتنا، احتجبتا فى عهد الاستقلال، الرسالة فى فبراير عام ١٩٥٣ وقبلها الثقافة فى يناير عام ١٩٥٣، وقامت بعدهما مجلات عديدة تتعلق باسميهما تشبهًا، أو لعله تبرك، ولكن واحدة لم تغن غناءهما أو تعمل عملهما أو تقف وقفتهما.
وتعدد نعمات رفيقات مجلة الرسالة، فتقول: إلى جانب «الرسالة» و«الثقافة» كانت مجلة «الهلال» تعنى بالتاريخ، و«المقتطف» تحتفل بالعلم، و«الكتاب» يحتفى بالأدب، و«الكاتب المصرى» تعنى بالترجمة، كانت هذه المجلات تهتم بالفكر وكأنها الصورة الجديدة لمجلة «البيان» التى صدرت فى العام ١٩١١.
وتتساءل نعمات أحمد فؤاد: ماذا بقى لنا؟ أو ماذا عندنا؟
وتجيب موجهة السهام إلى عصر عبدالناصر.
تقول: عدمت الريادة يوم عدمت الحرية الداخلية، وكانت موجودة بل سباقة، ومن الغريب أننا حين أطلقت الحريات - تقصد فى عصر السادات - لم يوجد الكتاب الأحرار، لأن الكتاب لم يتمرسوا فى شبابهم بالحرية، فلما فتح بابها عليهم لم يفتح عليهم بشىء.
بحثت نعمات أحمد فؤاد عما حدث، وتنفذ من قلب ما جرى فى عهد عبدالناصر.
فبالنسبة لها تشرك كل شىء فى مصر، أى سار اشتراكيًا، ولم يكن ذلك عن عقيدة وإلا لساغ الأمر، ولكن كان عن مداهنة، فأستاذ الاقتصاد كتب عن الاشتراكية، وأستاذ التاريخ السياسى كتب عن الاشتراكية، وأستاذ التاريخ الطبيعى أيضًا كتب عن الاشتراكية، والأدب كتب عن الاشتراكية، حتى علماء الدين كتبوا عن الاشتراكية.
الكل التقط مانشيتات الصحف وراح يرددها فى ببغاوية مضحكة، ذلك الضحك الذى يوصف بأنه كالبكاء.
وعندما تعادى السلطة أمريكا تنسحب العداوة فى درجات السلم الهرمى على كل ما هو أمريكى، حتى الفكر والثقافة، مع أن الدين يقول بأخذ الحكمة ولو من أهل النفاق، وطلب العلم ولو فى الصين.
ولما رسمت قومية عربية سار الكل وراءها يرددون، كأنها حلقة ذكر، غير أنها لا يذكر فيها اسم الله أو اسم الوطن.
وفى توصيف واضح الملامح لما جرى تقول نعمات: مسخت حياتنا مسخًا مشوهًا، فلا هى إلى الشرق ولا هى إلى الغرب، فصمت الماضى وعزلت عن الحاضر، غامت الرؤية وانبهم الهدف.
وفى محاولة لتجريد الخمسينيات والسيتينات من كل شىء، تذهب نعمات إلى أن رواد الخمسين سنة الأولى وأعلامها، لو تأملنا مسيرتهم نجد أن فترة الخصب العقلى والابتكار عندهم فى أعمالهم، كانت العشرين أو الثلاثين سنة التالية لفترة التحصيل، أى التى تقع بين الثلاثين والستين، فماذا صنع شباب الخمسينيات من هذا القرن؟ داروا فى الساقية أو انخرطوا فى الطاحون، ضاع البريق، لا رأى يهز، ولا فكر يجدد، ولا ابتكار يرتاد، ولا جدية تنال، ولا اسم يتألق.
وتواصل نعمات رسمها للصورة التى جعلتها كئيبة تمامًا: سادت الوصولية والانتهازية والببغاوية والحرباوية، وبالطبع الأمية، وكانت النتيجة أن ضاق كل شىء بكل شىء، كما يقول نجيب محفوظ: حتى الضيق ضاق بالضيق.
وفى رصد لما ترتب على هذه الحالة تقول نعمات إن الأدب لم يملك إلا الرمز ليعبر عن تمرده، أو يبرئ ذمته ولو بأضعف الإيمان.
ففتح الأدب بنكًا للقلق - فى إشارة إلى رواية توفيق الحكيم المسرحية بنك القلق - حيث يقول الحكيم إنه ما من أحد الآن فى حالة طبيعية، لأن القلق منتشر بل سائد بشكل وبائى عند كل الناس حتى الذى يملك مائة فدان يعيش فى حالة قلق.
وفى بنك القلق أكثر من جواب على سؤال: لمَ جرى ما جرى؟
«فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان».
و«كل إنسان فى حاجة إلى أن يتكلم وأن يصيح وأن يوافق وأن يعارض».
و«كل ما يخشاه الإنسان هو أن يرغم على قبول شكل فى الحياة يسجنه».
و«أصبح الواحد منا يتخبط اليوم فى بحر واحد من قلق شامل لا يطاق».
و«الإنسان المصرى المعاصر يعيش فى مجتمع هش ليس داخله إيمان حقيقى بشىء أكثر من اقتناص المغانم».
وقد تكلم توفيق الحكيم نفسه فى «شمس النهار» و«السلطان الحائر»، ولو أن دور سلطان العلماء الشيخ عزالدين بن عبد عبدالسلام فى التاريخ أكبر وأرسخ من دوره على المسرح.
فى الستينيات بدأت القصة المصرية تتحول عن الواقعية إلى الرمزية وظهرت هذه الظاهرة بشكل خاص عند الروائى الأديب نجيب محفوظ
حال توفيق الحكيم جعل نعمات أحمد فؤاد تذهب إلى أن الفنان وسط هذا الزحام هو الوحيد فى القرية الذى أدار ظهره لحركتها الدائبة، وانفلت من المحاريث السائرة والنوارج الدائرة والسواقى الناعرة، وذهب إلى شط الترعة يقطع سيقان البوص ويصنع منها مزامير، ولكن المزامير وحدها لا تكفى، وقد أحس الفنان نفسه بهذا، لأن الأمة المطحونة لا يطيب لها الغناء وحده، بل إنها فى حاجة إلى من يعيش مشاكلها، وينفض همومها بالتعبير عنها وطرح علاج لها وتنفيذه.
تصل نعمات أحمد فؤاد إلى نجيب محفوظ.
ترى أنه فى الستينيات بدأت القصة المصرية تتحول عن الواقعية إلى الرمزية، وظهرت هذه الظاهرة بشكل خاص عند الروائى الأديب نجيب محفوظ، الذى مر بمرحلة جديدة من مراحله الفنية.
فنجيب فى الستينيات كان يركز على الحوار المشع بالأفكار الفسفورية التى تتواكب فى توالٍ كطرقات المطرقة النشيطة فى أسلوب مدبب ألفاظه شوكية فى قصته «ثرثرة فوق النيل».. فهل بعد الضياع عذاب؟ ويا أى شىء افعل شيئًا فقد طحننا اللاشىء.
فى قصة نجيب محفوظ ظاهرة هروب المثقفين الذين يعون حركات التاريخ لا إلى العوامة وحدها، ولكن إلى شريط التاريخ القابع فى رءوسهم، وهى ظاهرة ملموسة فى أدبنا القصصى والمسرحى، فيفرون أو يستعرضون الشريط كلما تشابهت المواقف أو الظلمات وكأن الأمر توارد خواطر.
فجمود الروتين وبلادته وتحجره فى غباء، وعبثه فى لا مبالاة، يورث الدوار، وفى غيبوبة الحوار تختفى جميع الأشياء الثمينة، من بين هذه الأشياء الطب والعلم والقانون والكلمات المشتعلة بالحماس.
وتسأل نعمات: ما هى الأسباب التى حولت طائفة من المصريين إلى رهبان؟
وتجيب نعمات من رواية نجيب «ثرثرة فوق النيل».
ففى القصة عملية تشريح للأخلاق والسمات والأقنعة الخارجية التى سقطت الواحد تلو الآخر فى قاع النيل.
وفيها سخرية من المظاهر والإطارات والشعارات والتقاليد، ومن سقوط الفلسفة، وسخرية من التمثيليات الهادفة، ومن موقفنا من الأحداث وكأننا أحمد نصر أو عم عبده الذى يطل على المعمعة من أعلى البرافان على سبيل الفرجة أو التسلية، من النفاق، ومن لويس السادس عشر الذى لا يدرى شيئًا عما يدور فى الخارج، سخرية من الغزاة الذين يتحلون بقسوة حادة كالدرع، ومن الهاربين من لا شىء إلى لا شىء، والمقتولين بالسم البطىء والقاتلين على السواء، ومن المخبرين الذين يراقبون المفوقين لا المساطيل.
وتتوالى السخريات التى ترصدها نعمات.
ففى ثرثرة نجيب محفوظ سخرية من المتعالين، ومن أخذ الأصوات فى ديمقراطية دامية، ومن الخوف من كل شىء حتى يغدو صاحبه لا يخاف شيئًا، ومن العوامة التى تشيع فيها النكتة كحركة تغطية نفسية ثم تنعدم حين تصبح الحياة فيها نكتة سمجة، أشنع تهمة فيها هى الرجعية، فكل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكُتّاب بالاقتناء والإثراء وليالى الأنس فى المعمورة، فقد ضاق كل شىء بكل شىء، حتى الضيق ضاق هو الآخر بالضيق.
وفى زحام الثرثرة تبرق هذه العبارات:
«إن السفينة تسير دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا، وإن التفكير بعد ذلك لن يجدى شيئا، وربما جر وراءه النكد والضغط العام».
«نحن نعيش فوق الماء فنهتز لوقع أى قدم».
«ليس الإنجليز وحدهم الذين يقتلون بالسم البطىء».
«راحوا يتساءلون عن كيف يبدأون، وكيف ينظمون أنفسهم، وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية، لا زيف فيها ولا قهر».
«تدارسوا العراقيل المتحدية، والأخطار التى قد تحيق بهم كمصادرة الأرزاق والاعتقال والقتل».
«الخيام الذى كان مدرسة أمسى فندقًا للملذات».
كان نجيب محفوظ – كما ترى نعمات – يلتزم قضية شعبه، يحس بضغط همومه، ويعبر عنه.
ففى قصة «ميرامار» عالج انتفاض البسطاء المطحونين من خلال زهرة، الذين يعيشون مع الغالبية فى أيام منحوتة من العسر والصخر، الأيام التى تسبق مباشرة يوم القيامة.
كشف نجيب الأدعياء، فإن كثيرين من محترفى السياسة والأهمية والمشغولية كسرحان البحيرى لا يعرف الفارق بين الوفد والنادى الأهلى، لا يهتم فى أعماقه بالسياسة رغم نشاطه الموفور فيها.
والأجيال عند نجيب محفوظ فى «ميرامار» متواكبة يكمل بعضها بعضًا، ولولا الجيل السابق لما تحقق للجيل اللاحق وجود، وهو مذعور من فكرة مصادرة الثروات، لأنه يؤمن بأن من يقتل مرة قد يعتاد القتل، إن الجنة عنده هى المكان الذى يتمتع فيه الإنسان بالأمن والكرامة، أما النار فهى ما ليس كذلك.
مصر عند نجيب فى قصة روبابيكيا مطمح الجميع ومطمعهم ولكنها فى النهاية تسحقهم وتحيلهم إلى حطام
وتنتقل نعمات أحمد فؤاد من نجيب محفوظ إلى إحسان عبدالقدوس، حيث ترى أنه فى السبعينات أخذ ينتمى إلى مدرسة نجيب محفوظ الرمزية، بدأ يخدم الرمز شفافًا وكثيفًا فى قصة «الرصاصة لا تزال فى جيبى»، ومسرحية «لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص».
وتقارن نعمات بين نجيب وإحسان.
فمصر عند نجيب فى قصة روبابيكيا مطمح الجميع ومطمعهم، ولكنها فى النهاية تسحقهم وتحيلهم إلى حطام ملقى على عربة روبابيكيا، وتتخطر هى على النيل جميلة مشرقة متألقة شبابها أخضر دائما وعودها ريان، رأسها شامخ وجمالها فتان، محاسنها تغرى وتسبى، ولكن الويل لمن تحدثه نفسه بالاقتراب منها.
أما عند إحسان فهى فاطمة الطيبة الجميلة فى الثوب الأخضر، وميمى السمرة الحلوة أجمل واحدة فى الدنيا، التى لا يكفيها جمالها، ولكنها تبحث عن جمال عقلها وجمال إرادتها، تريد أن تسير فى طريقها هى التى تعرفها لا تلتفت إلى يمين أو يسار، لأنها قبل اليمين واليسار بألوف السنين، لها مسار، ولها أسلوب وشخصية.
وتستطيع أن تعرف فاطمة من نوعية حب المؤلف لها، إنه ليس حبًا خاصًا يتعلق به وحده، إنه حبنا جميعًا لأن فاطمة هى مصر.
يقول إحسان: فاطمة حبيبتى.. إنك لا تستطيع أن تتصور مدى حبى لفاطمة، ولا كيف أحببتها، إنه حب تضعف أمامه الكلمات، بل إن فاطمة وأنا لم نكن نتصور أن ما بيننا اسمه حب، إنه إحساس ولدنا فيه، إنه الحياة نفسها.
وتسأل نعمات: هل هذه فتاة محددة أو محدودة؟
وتجيب: لا.. إنها حلوة الأبد فى قلب كل مصرى، إنها جميع الفتيات وجميع الفتيان، جميع الرجال، جميع الأطفال، إنها الحياة نفسها.. إنها مصر.
أما الشعب المصرى فى قصة إحسان، فهو طالب الفلسفة الطيب الهادئ الذى يعشق السلام والأحلام والخيال، يحلم دائمًا بالمخلص، ولهفته عليه تجعله يتعلق بكل بارقة أمل تلوح، فما يكاد يرى عباس شابًا مثقفا هادئًا مبتسمًا دائما حتى يهلل له ويكبر ويتوسم فيه الخير كله، وتسلل عباس شيئًا فشيئًا حتى أصبح المشرف الزراعى المسيطر على الجمعية التعاونية، التى هى السلف الزراعية والكيماوى، وهى المبيد وهى التراكتور أى أبواب الرزق جميعًا.
ورغم ما فعله عباس إلا أن القرية أحبته، وأحبته فاطمة بأحلامها البريئة، وبالخرافات التى تملأ خيالها عن صور المستقبل السعيد، ولكن فاطمة بعد أن استولى عباس عليها غدت بلهاء، فى عينيها مأساة، تقف كأنها على حافة بئر تكاد تقع فيه، فاطمة الجميلة الحلوة الهادئة ، فاطمة الحائرة وجهها مكدود وقلبها مهدود، وكرامتها مثخنة بالجراح.
ويتساءل صاحبها الحقيقى الذى يحبها أغلى الحب وأصدقه: كيف أعيد إليها شبابها، ولمعة عينيها، كيف أجعلها ترتدى الثوب الأخضر الجميل الذى أحببته عليها دائمًا.. كيف؟
أما مصر فى مسرحية «لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص» فترصد ملامحها نعمات أحمد فؤاد بأنها الراقصة ميمى المجروحة نصف المذبوحة، طارت ذراعها ونزف دمها ويريدونها أن ترقص ويتجاذبونها ناحية اليمين وناحية اليسار، وبينهما من البعد والتناقض ما بين المشرق والمغرب، ولكنهما يتفقان على امتصاصها، وتشقى وتتمزق وتقف لتسقط من الداء والإعياء والمرارة وإحساس الضياع والقهر، ولكنهم جميعا يرتدون من عذابها وعطائها جاكتة مذهبة، حتى مجاهد خرج من عندها يرتدى هذه الجاكت على البنطلون المهلهل الذى كان يرتديه، ويسير فى عظمة وفخامة كأنه أصبح رجلًا مهمًا.
ترى نعمات أن وعودهم جميعًا لها هباء، وقلوبهم خواء، وعينهم مسعورة، لا تمتلئ من جمالها وجسدها، وهى لا تطيقهم، ما تكاد تقترب منهم حتى تحس لهم فحيحًا تنفر منه السمراء الجميلة، أجمل واحدة فى الدنيا، التى تقطر عسلًا وشهدًا، ولكنها تعرف أنهم يمصون عودها وتخشى أن تصير تفلًا، إنها لا تصدق دعواهم الكاذبة، إنها لا تريد ذهب هؤلاء ولا مدفع هؤلاء، ولا حتى قنبلتهم الذرية، هى تريد أن تحمى نفسها بنفسها وتعطى نفسها بنفسها: اللى أقوى منى سيدى.. نفسى أعيش من غير سيد.
ويتساءل إحسان: يا ترى نبتدى نضرب اللى ضرب ميمى، ولا ناخد ميمى ونرجع الكباريه الأخضر؟
وتجيب نعمات: أبدًا لن ترجع الجميلة السمراء إلى الكباريه، ستعود إلى الوادى الأخضر تزرع وتبنى وتصنع وتمجد العلم وتبدع الفن وتشكل الحجر وتطعم الخشب وتخوض المعركة أيضًا، ستعود ترفع للسلم صروحًا وللبطولة رايات.
ومن إحسان عبدالقدوس تنتقل نعمات أحمد فؤاد إلى يوسف إدريس، الذى كتب فى مجال الرمزية قصصه «حامل الكرسى» و«الرحلة» وسنوبزم».
وكما رمز نجيب محفوظ إلى الشعب المصرى ببواب العوامة الذى لا يعرف أحد بدايته أو نهايته، والذى لا يحسب حسابه المتسلطون النعامون فى العوامة، وفى قبضته حياتهم، فى استطاعته أن يفك الحبل فيغرقهم، رمز يوسف إدريس إلى الشعب المصرى بحامل الكرسى الذى يتعجب الناس من قوته وهو بادى الضعف، ضعيف الجسم.
أما قصة «الرحلة» فمملوءة بالرموز الشفافة حينًا والكثيفة أحيانًا أخرى.
وفى قصة «سنوبزم» رمز إلى مصر بالسيدة العفيفة التى تركب الأتوبيس بين أهلها وناسها، فإذا بها تتعرض للتحرش من آثم يحاول أن ينال من وقارها، بل يحاول أن ينال من عرضها، والناس يرون ويتعامون أو يفوتون أو يمالئون الظالم، وعند هذا الحد انبرى أحد الركاب وهو دكتور فى الفلسفة «رمز المثقفين» وأخذ يهاجم هذا الوضع الشائن، فسلقوه بألسنة حداد، ولكموه لكمة تورمت منها عينه وقذفوه خارج الأتوبيس.
جميع الكراسى ظلت ثابتة لم يقلقها شىء حين عزلت مراكز القوى القضاة بالعشرات ودفعة واحدة لأنهم طرحوا رأيًا فى عريضة
وتقفز نعمات أحمد فؤاد إلى الصحافة.
وتبدأ قفزتها بموقف كان بطله وزير العدل عبدالعزيز فهمى الذى كان يقرأ موضوعا نشرته الصحف عن مرتبه وهو فى طريقه إلى الوزارة، فيغير وجهته ويأمر سائقه أن يتجه إلى قصر عابدين، وهناك قدم استقالته إلى الملك فؤاد قائلًا: كرسى العدالة يهتز من تحتى.
وفى أسى تقول نعمات: ولكن جميع الكراسى ظلت ثابتة لم يقلقها شىء حين عزلت مراكز القوى القضاة بالعشرات ودفعة واحدة، لأنهم طرحوا رأيًا فى عريضة.
وتتساءل: ماذا يجدى سد أسوان أمام سد الخوف؟
وتجيب: إن الإنسان المصرى لم يبدع حضارته فى أى عصر إلا حين تحرر من الخوف.
فقد قامت الدنيا ولم تقعد فى مصر يوم قدم رئيس ديوان المحاسبة محمود محمد محمود استقالته لأن حقه انتقص فى مراجعة ميزانية الدولة.
وقامت الدنيا ولم تقعد يوم أجرى الملك فاروق تصليحات فى اليخت فخر البحار، وناقشته الصحافة والبرلمان علنًا لأن تجديد اليخت سيتكلف آلاف الجنيهات.
فماذا فعلت الصحافة مع مراكز القوى يوم ضاعت آلاف الملايين؟
أصابها الخرس.. بل إن بعضها وجد فى نفسه الجرأة، فحاول التغطية أو التبرير.
وبتوصيف محدد تقول نعمات: كانت الصحافة صحافة أحزاب نعم، ولكنها كانت صحافة رأى فى الوقت نفسه، أما صحافة اليوم فهى صحافة مذاهب وموجات، أو كتابة على ظهور الإعلانات، وبين يوم وليلة تصطبغ إدارات الصحف باللون الأحمر وتنغمس الأقلام والحروف فى هذا اللون، ثم تنحسر هذه الموجة، ليأتى مد موجة أخرى بيضاء، وتقترب مراكز القوى أثناء هذا من دولة، وتناصب العداء دولة أخرى، فتتعاقب تبعًا لهاتين الموجتين وكأنهما الليل والنهار.
المصريون الصادقون نفروا من دعوى وادعاء القومية العربية لا لعيب فيها أو بغض لها ولكن للأسلوب الذى يمس تاريخ البلد
وتنتقد نعمات أحمد فؤاد تدريس الميثاق فى جميع مراحل التعليم لا تستثنى من هذا الجامعة حتى كليات الطب والعلوم، وكأننا نسهم به فى التكنولوجيا الحديثة، بل درس الميثاق فى كلية أصول الدين وحفظ أطفالنا فى المدارس: أنا عربى.. أبى عربى.
وتؤكد نعمات – كما ترى – أن المصريين الصادقين نفروا من دعوى وادعاء القومية العربية لا لعيب فيها أو بغض لها، ولكن للأسلوب الذى يمس تاريخ البلد، وفى الوقت نفسه لم يصدقنا العرب، بل رأى فيها البعض غرضًا خبيئًا، لم يصدقونا ولم يحترمونا لأن الذى لم يحترم مصره أى شرفه وعنوانه مارق أو رخيص، وكان العرب يحترموننا قبل هذا ويحبوننا لذاتنا وباعتبارنا مصريين.
قابلت نعمات عربيًا كبيرًا على الباخرة «إسبريا» فقال لها فى معرض حديثه عما فقدته مصر من أرض فى البلاد العربية: كان العربى يحلم بأن يكون له مربط معزة فى القاهرة، وكانت الأرض عندنا تعرض بعشرة قروش للمتر فلا تجد مشتريًا، الآن لا يفكر أحدنا فى إدخال ماله القاهرة، وقد ارتفعت الأرض عندنا فبلغ ثمنها مئات الأضعاف.
وتعلق نعمات: كم فقدنا ليثرى الآخرون ويعمروا ويركبوا ظهر الموجة التى عميت عن الأعماق الزاخرة من رعونتها.
وتضيف: كانت نساء مصر كظباء مكة، صيدهن حرام، فإذا بآلاف من نسائها يدفعهن ذل الحاجة وقسوة الحياة فى وطنهن إلى الخدمة أو إلى ما هو شر من الخدمة مما ترغمهن عليه وتمرغهن فيه ملاهى بيروت.
وفى غمرة هذا ألفت الكتب عن عروبة مصر، فكانت بمحاولتها اللاهثة إثبات دعواها، تنفيها لا تؤكدها، لأن البديهات لا تحتاج إلى إثبات، والشاعر العربى نفسه يقول: وليس يصيح فى الأذهان شىء/ إذا احتاج النهار إلى دليل، وفى هذا الصخب لم نقرأ بالطبع كتابًا واحدًا عن عروبة الحجاز.
وتجاوزت هذه الدعوى الأغراض السياسية إلى الكتب المدرسية بدءا من المرحلة الأولى الابتدائية ليحفظ الطفل المصرى مع «أنا عربى.. أبى عربى» خزعبلات أخرى عن أصل الشعب المصرى، مع أن الكتب العربية تتحدث عن العرب العاربة والعرب المستعربة، كما تتحدث عن فتوح البلدان.
وتحمل نعمات أحمد فؤاد على من حاولوا إسقاط الماضى، إمعانا فى تعظيم الحاضر، وفاتهم أن طبيعة الأشياء تنفى وجودها من العدم، وفاتهم أكثر أن إنسانا بلا جذور لقيط معنويًا وتاريخيًا وحضاريًا، ولكنهم أرادوا أمة بلا تاريخ حتى يقترن ميلادها بظهورهم على مسرح الأحداث، وإن كانت الرواية ملهاة هزلية يأباها الطموح، أو مأساة دموية تقشعر منها الأبدان.
وفى حدة تقول نعمات: فى مواكب الأردية الصفراء والحمراء وخفافيش الظلام والملتاثين والمدلسين وصراصير المستنقعات وأشباح النهار، فى هذا الموكب الغوغائى أحس كل ذى قيمة بالاغتراب النفسى والزمانى، فهاجر الكثيرون إلى الخارج، وكانت مصر وطن من لا وطن له، ونشطت أمريكا فساعدت على الهجرة أو الاستنزاف العقلى والكيانى بإغراء المال، وكم من طاقات وقدرات ضاعت من أيدينا.
وتستشهد نعمات بما قاله الفنان الكبير حسين بيكار.
يقول: انتقلت عدوى الهجرة من العلماء إلى الفنانين، وهذه ظاهرة قد تكون صحية لو كان لدينا فائض من الكفاءات نصدره للخارج، والطيور لا تهاجر أوطانها إلا عندما تهاجمها الثلوج فتضطر إلى قطع آلاف الأميال بحثًا عن الدفء لتبنى هناك أعشاشها.
وتنعى نعمات كذلك خروب الكتاب المصرى إلى بيروت حيث تجارة النشر والتوزيع الحر، تقول: ما بقى فى مصر اغتصب اغتصابًا وزور وحرف اعتمادًا على سلحفاة الروتين فى مصر التى يقف أمام سيادتها الناشر المصرى مع الطابور الطويل، وإلى أن يأتى عليه الدور فى طابور الورق ثم فى طابور التصدير ثم فى طابور النقد، تكون بيروت أخذت حريتها وراحتها فى استغلال الكتاب المصرى والربح والإثراء من ورائه، وأصحابه فى مصر تكاد تذهب أنفسهم حسرات.
هرب الفكر المصرى إلى الكويت حيث يحرر مجلة «العربى» ومجلة «الفكر» وكانت مصر تربة الأحرار والأفكار والحضارات
وكما هرب الكتاب المصرى إلى بيروت، هرب الفكر المصرى إلى الكويت حيث يحرر مجلة «العربى» ومجلة «الفكر»، وكانت مصر تربة الأحرار والأفكار والحضارات، تهب حركات التحرير فتؤازرها مصر بالتأييد والتوجيه والإذكاء، ويمتحن الأحرار فيتطلعون إلى اللياذ بمصر، وفيها تحلقت حول جمال الدين الأفغانى، وإليها قصد الكواكبى، وبها اتصلت حياة الأحرار وأسباب أصحاب الدعوات.
وكما تنتقد نعمات أحمد فؤاد ما جرى للكتاب والفكر، تنتقد ما حدث فى الأغانى.
تقول: انطلقت الأغانى فى بلاهة تأخذ دورًا فى الزفة الكدابة، ولا مانع عندها من التمسح بالفلاح والعامل، وما كسب الفلاح والعامل كسبًا جذريًا وحاصة الفلاح، فالإصلاح الذى لا ينبع من نفوس أصحابه وبيئتهم، من داخلهم، لا يؤمنون به ولا يتعمقونه لأنه من خارجهم لم يغير نوعيتهم، والدواء عادة حتى ولو حمل الشفاء كريهًا أو ثقيلًا على الأقل، ويزيد رجال الاقتصاد أن ما أخذه الفلاح باليمين من الإصلاح الزراعى بددته باليسار مجموعة التعاونيات الزراعية.
ولم تقصر السينما فى هذا المضمار، فتخصص بعض مؤلفيها فى تسجيل الأمجاد فى أفلام يعاد عرضها مرارًا كأنها مقررة على النظارة، أما المسرح الذى نهض فى الثلاثينات والأربعينات نهضة كبيرة ونشط أيضا فى الخمسينات، فإنه بعد نكبة الأمة العربية سنة ١٩٦٧ أخذ طابعًا سياسيًا حتى إنه أشرك الجماهير فى العرض باعتبارها متضامنة فى المسئولية عما يحدث، أو تأكيدًا لمسئوليتها خارج المسرح بعد أن ينتهى العرض.
ورغم إعجاب نعمات أحمد فؤاد بما فعله توفيق الحكيم فى «عودة الوعى»، وهو الكتاب الذى انتقد فيه عبدالناصر بشدة، إلا أنها لم تكن معجبة بالتوقيت الذى قال فيه ما قال.
فهى ترى أن كل شىء ضاع، كل ما بداخل الإنسان المصرى من كرامة وقيم ومبادئ وإباء، ضاع يوم فرضت - كما يقول توفيق الحكيم – الحراسة على مخ الإنسان.
تقول نعمات: لكن توفيق الحكيم ما باله لم يقل هذا من قبل؟ إن ندمه اليوم ذكاء خبيث أو خبث ذكى، ما جدوى الاعتراف بالخطأ فى وقت ليس الشعب فيه بحاجة إلى الاعتراف بعد أن سقطت الأقنعة وظهرت الحقيقة، إنه مجرد تخفيف للحساب من نوع أرقى يليق بأصحاب الأفكار.
لكنها وفى محاولة إعادة الاعتبار لتوفيق الحكيم بعد الهجوم عليه بسبب كتابه «عودة الوعى».
تقول: توفيق الحكيم لم يكن مسحورًا أو مخدوعًا أو فاقد الوعى مع الفاقدين كما يقول، بدليل مسرحيتيه «السلطان الحائر» و«بنك القلق» اللتين لم يشر إليهما عامدًا فيما أحسب، وهما خير من التعلل بالتخدير والتسحير، ولكن الحكيم يغير مسكة العصا فيقبض عليها بحكمة من نوع آخر، من النص لأنه كما قال بعد أن حرم كثيرًا من جيل قيدت حريته وتحرره روابط متصلة بهذا النظام.
لم يكن كل ما قالته نعمات أحمد فؤاد صحيحًا، كما لم يكن كله خطأ بالطبع.
لكننى هنا لا أحاكم محاكمتها لثقافة عصر عبدالناصر، فقط أعرض عليكم ما قالته بوصفه وثيقة عمرها الآن خمسون عامًا، لا يقلل منها مثلًا أنها كانت منحازة للسادات على حساب عبدالناصر.
ما أريد أن أوثقه هنا فقط أن نعمات أحمد فؤاد فى كتابها شخصية مصر تقول: الناصرية هى المصرية كما ينبغى أن تكون، أنت مصرى إذًا أنت ناصرى، حتى لو انفصلنا عن عبدالناصر أو رفضناه كشخص وكإنجاز، وكل حاكم بعد عبدالناصر لا يملك أن يخرج عن الناصرية ولو أراد إلا وخرج عن المصرية أى كان خائنًا.
يمكنك أن تضع ما قالته نعمات أيام عبدالناصر عنه، ثم ما قالته أيام السادات، وساعتها يمكنك أن تستوعب أبعاد محاكمتها لكل ما يتعلق بعصر عبدالناصر بهذه الحدة، فلم تكن الكاتبة الكبيرة ورغم تقديرى الشديد لكل ما أنتجته تكتب لوجه الله فقط.
وأعتقد أن هذه قضية أخرى.. ومساحة أخرى أيضًا.