الخميس 30 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الكل يسأل الله حسن السوق.. المعادلة الصعبة فى معرض الكتاب

حرف

تسابقت دور النشر المصرية- وحسنًا فعلت- خلال الأيام الماضية فى عرض أغلفة كتبها الجديدة عبر وسائط التواصل الاجتماعى المختلفة. 

المنافسة لم تقتصر على اختيار الكتب وعناوينها ومؤلفيها وموضوعاتها فقط، ولكنها احتدمت فى مساحة طرق العرض والترويج سعيًا وراء الانتشار والاستحواذ على اهتمام القرّاء. 

وأشهد أننا أمام منافسة شرسة نزل إلى ساحتها الناشرون المصريون بكل قوتهم، ومن خلال أفكار مبتكرة فى العرض والتسويق لمنتجاتهم، التى تعكس حالة من الحيوية والجدية فى إنتاج ما يعتبرونه سلعتهم، ورأسمالهم الوحيد، وما نعتبره نحن نهرًا من الإبداع الفكرى والثقافى والأدبى والسياسى، يتجدد كل عام بما يدهش ويثير الإعجاب. 

أحد الأصدقاء من الناشرين قال لى، عندما أشدت بجودة الكتب التى أنتجها، باختصار شديد: حسن السوق ولا حسن البضاعة. 

لم تكن عبارة الناشر بالنسبة لى عابرة، فقد توقفت أمامها كثيرًا، لأنها فى الحقيقة لا تعكس حقيقة المعادلة الصعبة التى ندخل بها معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام، ولكنها تعبر عن مجمل مخاوف الناشرين مما ينتظرهم. 

يعتبر الناشرون المصريون أن معرض الكتاب هو موسمهم السنوى، أحدهم قال لى إنه لا يعمل إلّا للمعرض فقط، يدخله بإصدارات تصل إلى خمسين كتابًا، ثم يعمل بها طوال العام، سواء فى التوزيع داخل مصر أو فى المعارض خارجها، يعتمد فى الجزء الأكبر من دخل داره على ما يبيعه فى المعرض، بمعنى أنه لو خرج خاسرًا من المعرض فإنه يواجه مشكلة مالية كبيرة طوال العام. 

أعرف أن الناشرين المصريين يعملون فى ظروف غاية فى الصعوبة، والتكلفة الكلية لإنتاج الكتب مرتفعة، ربما بما لا يتصور أحد، ما ينعكس على ارتفاع سعر الكتب، وهو ارتفاع يتحرك فى ظل أوضاع اقتصادية صعبة جعلت جموع القرّاء يعيدون ترتيب أولوياتهم، التى من المؤكد أن شراء الكتب ليس على قائمتها أبدًا. 

قبل سنوات كان يمكنك أن تدخل المعرض بألف جنيه، وتخرج منه محملًا بعدد كبير من الكتب القيمة، الآن الألف جنيه يمكن أن تشترى بها بالكاد كتابين أو ثلاثة، هذا إذا ذهبت إلى المعرض من الأساس. 

هذه بوضوح شديد المعادلة الصعبة التى يواجهها الناشرون فى معرض هذا العام. 

إذ كيف لهم أن يقدموا إنتاجًا مميزًا ومتميزًا، وفى نفس الوقت يستطيعون أن يحققوا أرباحًا تمكنهم من الاستمرار فى عملهم ومواصلة مهمة النشر، التى تحتاج إلى مدخلات كثيرة فى ظل ارتفاع أسعار الكتب، وتوقعات بإحجام جموع القراء عن الشراء بالقدر والكيفية التى كان يتم بها الشراء خلال السنوات الماضية؟ 

يلح الناشرون على ضرورة دعم الدولة لهم، وهو ما لا تتأخر عنه الدولة بالفعل، يظهر ذلك فى إيجارات الأجنحة التى يعرضون من خلالها كتبهم فى المعرض، فتكلفة المتر الواحد تتجاوز السبعة آلاف جنيه، ولا يزيد الإيجار للناشر عن ألفى جنيه فقط، ما يعنى أن الدولة تدعم المتر الواحد بما يقترب من خمسة آلاف جنيه. 

المشكلة أن الناشرين يعتبرون هذا الدعم ليس كافيًا، وهو اعتقاد ينطلق من حسبتهم الخاصة، ولو سألت بعضهم عما يريدون ستجدهم يتمنون على الدولة أن تمنحهم الأجنحة مجانًا، وهو ما لا يقدر عليه أحد، فنحن أمام سلعة تخضع للعرض والطلب مهما كانت ظروفها صعبة ومهما كانت التحديات التى تواجهها، ولا يمكن لأحد أن يتغاضى عن قواعد المنافسة. 

يقارن بعض الناشرين بين ما يحدث معهم فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وما يحدث فى معارض أخرى تنظمها بعض الدول الشقيقة، ويطالبون بالمعاملة بالمثل. 

فبعض الدول تمنح الأجنحة فى معارضها مجانًا، كما أن حكوماتها تشترى من الناشرين ما يعوضهم عن أى خسارة يمكن أن يتعرضوا لها. 

شىء من هذا لا يمكن أن يحدث فى معرض القاهرة، وهو ما يعرفه الناشرون جيدًا، ربما لأن الإقبال على معرض القاهرة من جمهوره أسطورى بكل معنى الكلمة، ففى بعض أيامه وتحديدًا أيام الجمعة يصل جمهور المعرض إلى ما يقرب من مليون زائر، ما يعنى أننا أمام قوة شرائية جبارة، كافية من خلال ما تشتريه من كتب أن تجعل الناشرين يربحون ولا يمرون بأى خسارة. 

المليون زائر فى أيام الجمعة بالمعرض أمر حقيقى تمامًا، وليس فيه أى شكل من أشكال الدعاية المباشرة أو غير المباشرة، وليس فيه كذلك أى شكل من أشكال الادعاء، ويعرف الناشرون المصريون أنه فى العام الماضى أرسل المسئولون عن معارض خارجية يستعلمون عن حقيقة هذا الرقم، لأنهم لم يصدقوا الأخبار التى أعلنت عن ذلك، وعدم تصديقهم يعود إلى أن الأمر ليس منطقيًا بالنسبة لهم، فالمعارض الخارجية تعانى من ندرة الجمهور مهما زاد العدد أو كثر. 

تحدثت مع أكثر من ناشر فوجدت أن هناك تخوفات كثيرة من عدم الإقبال، ويتحججون بأن الأعداد الضخمة التى تزور المعارض ليست دليلًا على أن حركة البيع تتناسب معها، فكثيرون يتعاملون مع المعرض على أنه مناسبة قومية، عيد وطنى يحتفلون به كل مرة، ومن المعتاد أن تجد رب أسرة يصطحب أسرته ليقضى يومًا فى المعرض، يستمتع بالعروض الفنية والثقافية، ويتجول مع أبنائه بين الأجنحة دون أن يشترى كتابًا واحدًا، وهو ما ينطبق عليه- كما قال أحد الناشرين- الصيت ولا الغنى. 

يعرف الناشرون أن زوار المعرض يريدون أن يحصلوا هم أيضًا على امتيازات عديدة، على رأسها التخفيضات التى تقدمها دور النشر المختلفة، وبالفعل تقدم الدور تخفيضات كبيرة، لكن من الصعب أن نجد هذا العام مثل هذه التخفيضات، لأنها ستعود على أصحاب الصناعة بالخسارة، فعدم وجود تخفيضات يعنى الإحجام من زاوية ما عن الشراء، وهو الكابوس الذى يؤرق أى ناشر. 

حسن البضاعة الذى كان يتحدث عنه أحد الناشرين حقيقى تمامًا هذا العام. 

أستطيع أن أدعى أننى واحد ممن يتابعون بدقة ودأب كل ما يصدر عن دور النشر المصرية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يجعلنى أؤكد أننا هذا العام أمام طفرة نوعية فى الكتب، هناك حالة من الإصرار على التأكيد على أن مصر لا تزال تكتب وتبدع وتقود العالم العربى فى مسارات الثقافة المختلفة، وهو ما يظهر فى العناوين التى يتم تداولها، وفى حرص عدد كبير من المبدعين العرب أن تكون كتبهم صادرة من هنا.. من القاهرة. 

دور النشر الخاصة دخلت فى سباق فيما بينها، ولدينا مئات الكتب التى يمكن أن نفخر أنها تصدر فى مصر، صحيح أن الروايات لا تزال متصدرة لقوائم النشر إلى حد ما، لكن لدينا تنوع كبير من الكتب السياسية والاقتصادية والفكرية والتكنولوجية، وهو ما يشير إلى أن هناك يقظة شديدة تقف وراء هذا الإنتاج المتميز. 

دور النشر الحكومية وبعد غياب سنوات عن الإنتاج المتميز تسترد هذا العام عرشها من خلال إصدارات تحمل قيمة كبيرة. 

وإذا كان من المعتاد أن تفعل ذلك الهيئة المصرية العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة، فإن التحية واجبة للصديق العزيز إيهاب الملاح الذى يتولى مهمة قطاع النشر فى دار المعارف، فقد استطاع خلال أشهر قليلة إعادة الروح مرة أخرى إلى الدار العريقة، ومن خلال إصدارات مهمة وتأسيسية سيكون منافسًا شرسًا هذا العام من خلالها ليس لدور النشر الحكومية فقط، ولكن لدور النشر الخاصة أيضًا. 

لقد استمعت خلال الشهور الماضية إلى أصوات عديدة تطالب بأن تخرج الدولة من سوق النشر، تكتفى فقط بدعم دور النشر الخاصة، وهى رؤية ليست مكتملة، ولا تستوعب بشكل جيد الدور المهم الذى تقوم به مؤسسات الدولة فى حركة النشر. 

لن أتحدث عن فارق أسعار الكتب التى تصدر عن هذه المؤسسات والكتب الصادرة عن دور النشر الخاصة، فرغم أن كتب مؤسسات الدولة ارتفع سعرها شيئًا ما، إلا أنها لا تزال فى متناول القارئ الذى سيجد نفسه عاجزًا عن شراء كتب الدور الخاصة، كما أنها تتيح لأصحاب التجارب الأولى والمختلفة فرصة النشر، وهى فرصة قد لا تتاح بدرجة كبيرة فى الدور الخاصة. 

هذه الحالة من عودة الروح واليقظة الكبيرة التى نجدها فى حركة النشر هذا العام تؤكد لنا أننا عندما نريد أن نسترد صدارتنا وجدارتنا، فإننا نستطيع أن نفعل ذلك، فلا تنقصنا الإمكانات البشرية التى هى الكنز المصرى الحقيقى. قد تكون التحديات الاقتصادية عائقًا، لا يمكن أن ننكر ذلك، لكنها فى النهاية لا يمكن لها أن تعجزنا أو تعطلنا عن بلوغ غاياتنا والوصول إلى مرادنا. 

يبقى حسن السوق الذى يترقبه الناشرون، وهو أمر لا يستطيع أحد توقعه أو التنبؤ به، فغدًا يبدأ الماراثون الكبير فى ساحات المعرض، وسيكون على الناشرين تقديم أفضل ما لديهم ليس من كتب فقط، ولكن من عروض أيضًا تخص الأسعار. 

لقد أحسنت الهيئة المصرية العامة للكتاب التى يقودها باقتدار الدكتور أحمد بهى الدين بتخصيص قاعة سادسة لبيع الكتب بأسعار مخفضة، وهى القاعة التى ستضم سور الأزبكية وعددًا من دور النشر الخاصة التى قررت أن تبيع كتبها بأسعار مخفضة إلى الجمهور، كما قررت بعض دور النشر الخاصة بمبادرة ذاتية منها أن تقدم كتبًا مخفضة بعيدًا عن الصالة السادسة، وهو ما يعنى أنه ستكون هناك منافسة فى جذب الجمهور لكتب لا تزال تحتفظ بقيمتها وأهميتها بأسعار مناسبة. 

لن يكون هذا كافيًا بالطبع، فالجمهور ينتظر تخفيضات كبيرة على الكتب الجديدة، خاصة أن هناك كتبًا كثيرة مغرية الإقبال عليها نظريًا مضمون، لكن يبقى أن يكون هناك إقبال عملى عليها، من خلال تسعيرها بشكل يتناسب مع قدرات القراء المالية، ومع ظروفهم الاقتصادية. 

المعادلة ليست صعبة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام، ولكن المعرض نفسه يخوض اختبارًا صعبًا، وسيكون على الناشرين المشاركين أن يدركوا صعوبة هذا الاختبار، فالنجاح فيه مرهون بما سيقدمونه رغم الأعباء الكثيرة الملقاة على عاتقهم، لكن لا مفر ولا مهرب من أن ينجحوا فيه. 

يعتقد كثيرون ممن يشاركون فى المعرض أنه مجرد سوق للكتاب، وهى الصورة التى لا بد أن تتغير. 

فنحن لسنا أمام سوق تجارية فقط، لا أتحدث عن البرنامج الثقافى والفنى الذى عملت عليه الهيئة المصرية العامة للكتاب باعتبارها الجهة المنظمة له بكفاءة عالية، ولكنى أتحدث عن هدف المعرض الذى يمثل مظهرًا من مظاهر قوة مصر الناعمة، وهو ما يجب أن يعمل الجميع على تحقيقه، فالمكسب فى النهاية سيأتى، قد لا يكون مطلوبًا فى هذه الظروف أن يكون المكسب كبيرًا، كما تعود الناشرون، لكن المطلوب هو نجاح المعرض وخروجه بصورة نتمناها جميعًا. 

وقد يكون هذا الحديث مناسبًا لأن أدعو الجميع إلى أن يقفوا صفًا واحدًا من أجل إنجاز هذه المهمة- الدولة ممثلة فى مؤسساتها المختلفة وإعلامها والناشرون، والجمهور الذى لا بد أن يتواجد ربما بأكثر من تواجده خلال الأعوام الماضية، فنحن أمام مهمة قومية لا يجب أن يتأخر عنها أحد. 

وكل معرض كتاب وأنتم بخير. 

تحية خاصة للكاتب والأديب أحمد المريخى

عندما فكرت فى إصدار جريدتكم «حرف»، جلست إلى الصديق العزيز، الكاتب والأديب ومدير تحرير الدستور «أحمد المريخى»، طلبت منه إضافة نوعية إلى الجريدة، وكانت فكرته أن نعيد مرة أخرى وجود أدباء الأقاليم على صفحاتنا. 

خلال العام الأول من عمر «حرف» اجتهد أحمد المريخى فى التواصل مع أدباء مصر فى المحافظات المختلفة، وكانت فكرته أن ننشر مقالًا يرسم ملامح المشهد الثقافى فى كل محافظة مع نشر عدد من إبداعاتهم «رواية وقصة وشعرًا»، وهو ما اجتهد فى أن يفعله بصمت ودأب واجتهاد نعرفه جميعًا عنه جيدًا. 

وقد تكون هذه مناسبة لأن أشكره، وأضع بين يديه تحية تليق به، فهو واحد من الأعمدة الأساسية التى قام نجاح «حرف» عليها فى عامها الأول، وهو ما يواصله معنا فى العام الثانى من عمر الجريدة التى نرجو لها أن تعيش مائة عام.