دنيا عاطف عبيد.. اللى أوله شرط أخره دهشة فى «راوتر شيخ البلد»

- أنت حكاء ياعم عاطف.. هذا ماهمست به لنفسى وقتما فرغت من كتابه وقصصه
«اللى أوله شرط.. آخره دهشة» بهذه العبارة بدأ عاطف عبيد مجموعته القصصية الجديدة «راوتر شيخ البلد»، ليحكى لنا فى صفحات كتابه وقصصه عن عالمه الـ «مختلف» والذى يملك بقوة كل تفاصيله ومفرداته وحكاياته بشكل متفرد متميز أضحكنى وأدهشنى بحق، ففهمت لماذا صدر الكاتب مجموعته القصصية الجديدة بهذه العبارة المتفردة، وكأنه يجهز قارئه لما سيصادفه على صفحات كتابه، إنه بعمد و«حداقة» ينبهك لقدر «الدهشة» الذى ستشعر به وسيلازمك طيلة الوقت صحبة كتابه، ينبهك لما سيباغتك وأنت تغوص فى عالم تلك القصص القصيرة التى صاغها الكاتب بروح الحكى المصرى الشعبى وإيقاعاته الصاخبة الحميمية وببراعة حقيقية لا تقل عن براعته فى التلاعب الحكيم فى عبارات المثل الشعبى الذى صدر به كتابه ومجموعته القصصية..

المدهش بحق، أن عاطف عبيد فى كتابه وقصصه، لا يحكى لنا عن «المريخ» ولا «الثقب الأسود»، ولا «المجرات البعيدة» التى لم تصل معارفنا لحدودها وتفاصيلها، المدهش بحق أنه يحكى عن «البلد»، البلد القرية الأرض الجدر، البلد الذى كنا نفترض جميعًا أننا نعرفها جيدًا، نعرفها لأننا عشنا فيها وتواصلنا معها ومع أهلنا فيها أيامًا وشهورًا وسنوات طويلة، نعم خرجنا منها وتركناها خلف ظهر انشغالاتنا اليومية وأعمالنا لكن «البلد» بقيت فى قلوبنا هى وذكرياتها وجبانات الأجداد وليالى الونس وبقينا نعرفها ومن أهلها، أو هكذا كنا نظن!!
ببساطة يحكى الكاتب فى كتابه وقصصه عن «البلد»، ونحن القراء نعرف «البلد» فما هو الجديد والغريب الذى سيحكيه؟ وأين ولماذا «الدهشة»؟ إجابة هذه الأسئلة سنجدها فى طى قصص الكتاب لتشكل فى ذاتها معادلة «الدهشة» التى جدلها الكاتب باقتدار و«عفوية» مع كل سطر من أسطر قصصه، «البلد» هى بطلة المجموعة القصصية وكل ما يحكيه عنها الكاتب هو بذاته الغريب والجديد والطريف والمدهش، فالكاتب يحكى عن عالم وحياة افترضنا ببلادة وجهل أننا نعرفهما فعلًا، بل وتجرأنا على الحكى عنهما وكأننا مازلنا نعيش فى البلد وحياتها، ليصدمنا عاطف عبيد ساخرًا مبتسمًا أن الدنيا اتغيرت، وهذه أيضًا عبارة نعرفها، عبارة مألوفة، أيوه الدنيا اتغيرت، لكننا لم نظن بحق أنها تغيرت لهذا الحد ولهذه الدرجة، الدنيا تغيرت حتى صرنا لا نعرف «البلد» وصار كل ما يحدث فيها مدهشًا فعلًا كما نبهنا الكاتب، فلم نصدقه حتى انتهينا من كتابه وقصصه تلازمنا الدهشة كل سطر إحساسًا جارفًا فياضًا تصاحبه ابتسامات متلاحقة سريعة كثيرة تقفز معنا من قصة لقصة، حتى تظن أن القصة القادمة لن تدهشك فتدهشك أكثر وأكثر..
من هنا أتت براعة الكاتب وتفرده فى القص والحكى عن عالمه الذى يعرفه جيدًا ويملك مفرداته الصغيرة الأصيلة، الأصلية بحق، فتراه يجول بين جنبات شوارع البلد ودروبها وظلمة لياليها وصخب أيامها وخلف جدران دورها القديمة يلتقط همس الحكايات وأسرارها وهى تخرج طازجة «بنار الفرن» من العالم الجديد الذى صارت فيه البلد بعدما تغيرت الدنيا، ذلك العالم الجديد الذى يشبه عالمها القديم لكنه يختلف عنه كثيرًا رغم احتفاظه بكل قسماته وملامحه وتفاصيله وأصالته، وهنا تكمن الدهشة بحق، فكل شىء يشبه كل شىء ولا يشبهه، التشابه كبير والاختلاف اكبر والأمر يحتاج عينًا بصيرة ترى الخيالات فى الظلام فتميز حقيقتها التى قد تخدع الكثيرين، هنا تكمن الدهشة فى المجموعة القصصية «راوتر شيخ البلد» التى كشفت عن براعة عاطف عبيد وقتما سمعنا صوت خطواته البطيئة، بين أسطر الكتاب، وهو يجول بين جنبات «البلدة» يلتقط همس الحكايات وتفاصيلها ويسمع الأسرار والمسكوت عنه، ويرى خلف التفاصيل الصغيرة معانى كبيرة تكشف عن تغييرات حقيقية ترسم الشكل الجديد للبلد ولحياة أهلها وسط العالم الجديد وسطوة العولمة وهيمنة التطور التكنولوجى، والهاى تك والألياف الضوئية والابليكيشينز المختلفة..

المدهش أكثر وأكثر كما يكتشف القارئ فى كتاب عاطف عبيد، أن «البلد» مازالت على حالها كما نعرفها، هى البلد كما نحبها بأهلها بفلاحيها بنسائها بنميمتها بأفراحها وأحزانها بروائح خيرها وأطعمتها بليالى سهرها، بضحكها، ونحيبها بسخريتها، وهمومها الصغيرة بأعمالها اليدوية الشاقة بغيطانها وأشجارها ودوابها ودورها الدافئة، وفى نفس الوقت نرى ونكتشف أن «البلد» تغيرت فعلًا، تغيرات كبيرة، وربما مع السنوات والأيام القادمة تتغير أكثر وأكثر حتى فى شكلها وملامحها، وهذا فى ذاته منتهى الدهشة!!
أنت حكاء ياعم عاطف، هذا ماهمست به لنفسى وقتما فرغت من كتابه وقصصه التى سمعت أسطرها ومعانيها بصوت الحكائين الشعبيين المصريين، هؤلاء الذين نسمع حكاياتهم فتسعدنا لبساطتها وعمقها وأصالتها ونحن لا نعرفهم ولا نعرف أسماءهم لكن حكاياتهم بقيت وستبقى جزءًا من وجداننا وتراثنا الجمعى، أنت حكاء ياعم عاطف، حكاء شعبى صنعت قصصك فى «ماعون» كبير «لتت» فيه التفاصيل القديمة والروح الأصيلة والسخرية الرصينة مع التغيرات العاصفة الجديدة التى تقتحم حياتنا جميعًا وحتى حياة البلد لترسم ملامح مختلفة فى كل مكان تحط فيه، لتخرج من «فرنك الطينى» العتيق «خبيزًا» قديمًا جديدًا له نفس العبق والرائحة والأصالة لكن مذاقه مختلف عما اعتدنا عليه رغم أنه يشبه تمامًا، وهذا أيضًا منتهى الدهشة..
فى النهاية أحسست كتاب «راوتر شيخ البلد» وكأنه عين سحرية فى باب موصد ثقيل حال بين الغرباء وبين عالم أصيل وسحرى، فأتاحت لهم تلك العين السحرية أن يتلصصوا على ذلك العالم ويروا بعضًا من تفاصيله، فينتبهون كثيرًا ويندهشون أكثر وأكثر، وكانت القصص صادمة أدهشت «أهل البندر» وقتما فضحهم الكاتب وفضح جهلهم بالبلد وكل البلاد القريبة منهم وحولهم وبجوارهم، والتى يظنون أنهم يعرفونها ويحملون لها ذكريات وتفيض دموعهم حنينًا لها بعدما تغيرت وتغيرت وتغيرت إلى أن أصبحت لا تعرفهم ولا يعرفونها وهذا أيضًا منتهى الدهشة..
لقد جلست مع المجموعة القصصية وقتًا مكثفًا لا أعرف قدره، ابتسمت كثيرًا واندهشت أكثر وسخرت من نفسى ومعارفى المحدودة بالتغيرات الجديدة التى هبت رياحها العاتية فطالتنا جميعًا فى كل مكان حتى «البلد» وقهقهت مع التفاصيل التى راكمها عاطف عبيد فى قصصه ساخرة من مفارقات «التحديث» الذى طال البلد فسكن قشرتها الخارجية يغير فى الشكل وبعض الملامح، ولم يخترق حتى الآن «القلب» الأصيل لتمارس «البلد» طقوس التحديث وعالمه الجديد بالجلباب والبلغة والعمة والطاقية من قلب الدور القديمة الحانية وحكاياتها الحقيقية المدهشة، أحببت الحكايات والأبطال والعالم الذى دفعنا إليه الكاتب وفتح أمامنا بواباته على مصراعيها لنرى ما لم نكن نعرفه فمر الوقت مع الكتاب والكاتب شيقًا مدهشًا.

علبة صفيح
ظهور علبة سلمون ماكريل صغيرة فى بلدنا يعنى أن حالة من التهور أصابت أحد الفلاحين، وأراد أن يتشبه بالبندر ويُطعِم عياله بالسلمون. إذ يُفرِّغ هو بنفسه علبة السلمون على ٢ كيلو طماطم وكيلو خيار، فيَتيه السلمون وسط طبق سلطة مفخخ برائحة البندر. ثم يرمى العلبة الصفيح بعيدًا حتى لا يعرف الجيران بأكلة السلمون خوفًا من الحسد.
بعد صلاة الجمعة سمعنا صوت قطة تصرخ صراخ المستغيث، شارعنا كله طلع يشوف مالها. كان دماغها محشورًا فى علبة سلمون كبيرة. وبينما كانت تصرخ بشدة كان كل مَن فى الشارع يفكر: مين الفاجر اللى جاب علبة سلمون كبيرة؟!
ورد
أول منشور على صفحة بلدنا على «فيسبوك» كان تهنئة بعيد الحب «الفالنتين».. تعليقات كثيرة مع وضد، غير أن هناك تعليقًا لفت نظرى، من الحاج «مسعد الغلبان»، كتب فى تعليقه: «رغم كل الغيطان اللى فى بلدنا.. بس ماعندناش ولا مشتل ورد».
مفرمة الموبايلات القديمة
لا أعلم سببًا واحدًا لاختيار قريتنا لعمل مفرمة للموبايلات القديمة فيها، ولا أعلم سببًا لاختيار مكان المفرمة بجوار محطة الصرف الصحى بالقرية.
تأتى السيارات ربع النقل من كل مكان فى الجمهورية، تقف فى طابور طويل حتى تنتظر دورها لتفرغ موبايلات قديمة من ماركة ولون. تُوضَع كل الموبايلات فى طاحونة ضخمة، ترمى مخلفات الطحن فى المصرف الخاص بمحطة الصرف الصحى فتطفو على مياه المجارى فى المصرف كل أحاديث الإنبوكس والصور المعدلة بالفلاتر، وتلقيح الناس على بعضهم على فيسبوك.
فراخ التربية البلدى
فى الثانوية كان منتصر الخضيرى يحب زميلته بجنون، كانت أمها تبيع الفراخ هى وباقى أهلها.. ظهرت نتيجة الثانوية العامة دخلت هى كلية التربية ودخل منتصر الآداب، لأن مجموعه صغير.. وحدث أول فِراق.. حزن منتصر بشدة.. كانت كلية التربية فى كفرالشيخ وكانت كلية الآداب فى طنطا.. لم يعتَدْ منتصر هذا الفراق.. اسودَّت الدنيا.. وفى يوم كان يجلس فى شباك الدار.. شباك دارهم كان شبيهًا بباقى شبابيك البلد، ينفع تقعد فيه وأنت مرتاح.. غير أن منتصر لم يكن مرتاحًا هذه المرة.. دخل آداب وهى دخلت تربية.. وبينما كان جالسًا فى الشباك وجد عمها يركب حمارًا وعليه أقفاص الفراخ.. كان ينادى من بعيد.. فراخ التربية البلدى.. ولما اقترب من منتصر نظر إليه ثم قال بأعلى صوته: «فراخ الآداب البلدى».