الإثنين 10 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

زكى نجيب محمود يجيب: لماذا نحن متخلفون؟.. حوار مع صديقى المتطرف!

زكى نجيب محمود
زكى نجيب محمود

- المتطرف يكون هلعًا جزوعًا يسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع قبل أن تتسع الفرصة أمام ذلك الخصم

- المريض بالتطرف لا يعرف وهو بالتالى لا يعترف بأنه مريض

- رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة من تطرف فى فكرة إلى تطرف فى الفكرة التى تناقضها

لم يكن الدكتور زكى نجيب محمود مجرد أكاديمى يُدرّس الفلسفة، بل كان مشروعًا فكريًا متكاملًا، سعى إلى بث الروح النقدية فى الفكر العربى، وربط الأصالة بالمعاصرة، برؤية لم يصل إليها أحد قبله، وغالبًا لن يصل إليها أحد بعده.

كان فيلسوفًا حقيقيًا، وأديبًا حقيقيًا، ولن يكون هناك أى تجاوز لو قلنا: «لم يستحق لقب فيلسوف فى مصر إلا اثنان: الدكتور زكى نجيب محمود، ومعه الدكتور فؤاد زكريا».

ومن هنا، ليس غريبًا أبدًا أن نعود، مرة تلو الأخرى، إلى قراءة ما قدّمه الدكتور زكى نجيب محمود. وهذه المرة، نتوقف عند كتابه رؤية إسلامية.

وتكمن أهمية الكتاب فى السؤال الكبير الذى يطرحه أستاذنا: «لماذا تخلفنا؟».

والإجابة هى موضوع حلقاتنا الأربع على مدار الشهر الكريم.

يبدأ الدكتور زكى نجيب محمود من «أصل الداء» وهو «التطرف»، ولكى يصل بنا إلى ما يريد أن يقول وضعه فى سياق حوار مع «صديق».

يسأل «الصديق» وهو زائر عاد لتوِّه من سفر: لست أفهم كلمة التطرف يوصف بها متدين، فالمتدين الحق متمسك بدينه، لا زيادة ولا نقصان، إنه إنسان يلتزم الخط الدينى، وخط الدين خط واحد، والأمر بعد ذلك يكون فى أفراد الناس هو: إما سائر على هذا الخط وإما منحرف عنه، فأين يكون فى هذه الصورة الواضحة مَن هو معتدل ومَن هو منحرف؟ 

قال الدكتور زكى نجيب محمود لزائره: قد فاتتك تفرقة مهمة بين طرفين، هما «الدين» كما هو مثبت فى كتابه المُنزل من جهة، و«المُتدين» بذلك الدين من جهة أخرى، فبينما الكتاب «واحد»، فإن المتدينين به كثيرون، وليس هو من الأمور الشاذة فى طبيعة الناس أن يختلفوا فى طريقة فهمهم لنص واحد قرأوه: وهذا هو ما حدث بالفعل للمسلمين «كما حدث مثله فى أتباع الديانات الأخرى جميعًا»، فالمسلمون متفقون على الكتاب الكريم، لكنهم مختلفون فى فهمهم لبعض آياته: ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة، ومِن ثَمَّ يكون معنى التطرف يا صاحبى هو أن يأخذ المسلم بطريقة معينة فى الفهم، أو قل: بمذهب معين، ثم يُعلن أنه هو وحده الصحيح، وقد أخطأ الآخرون، ولو وقف أمره عند هذا الحد، لما كان عليه غبار؛ لأن معنى أن يأخذ إنسان بمذهبٍ معينٍ دون سائر المذاهب هو أنه قد رأى الصواب فى جانب المذهب الذى اختاره، لكنه ينقلب «متطرفًا» إذا هو أراد أن يُحمل الآخرون بالقوة- كائنة ما كانت صورة القوة- على مشاركته فيما اعتقد.

بدأ الحديث هادئ النبرة، ثم ازدادت الحرارة شيئًا فشيئًا، وهو ما يرجعه فيلسوفنا إلى أن «موضوع التطرف فى حياتنا أكثر أهمية وأشد خطورة، من أن يؤخذ بهذا الهدوء».

لذا قال لزائره: اسمع يا أخى، إننى بحكم فارق السن بينى وبينك- على الأقل- أستأذنك فى مواصلة حديثى؛ لأفتح عينيك على حقيقة: «المتطرف» فى مجال الدين أو فى أى مجال غير الدين:

أولًا: ليس ما يؤخذ على المُتطرِّف أنه قد اختار لنفسه وجهة نظر يرى الأفكار والمواقف من خلالها، لا، فهذه- على العكس- علامة نضج، وكذلك ليس ما يُؤخذ عليه أنه يحاول إقناع الآخرين بمشاركته فى وجهة نظره؛ لأن تلك المحاولة منه إنما هى علامة إيمانٍ بصدق ما رأى، لكن الذى يُؤخذ عليه حقًا هو إرهابه الآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، ففى ذلك الإرهاب جوهر التطرف.

ولأضرب لك مثلًا على ذلك من التاريخ: فإنه لما نشبت الحرب بين الإمام على- كرم الله وجهه-وبين معاوية، على الحق فى إمارة المؤمنين لمن تكون؟، كان الموقف يتضمن رأيين فى أحقية الخلافة، أولهما: أن آل النبى- عليه الصلاة والسلام- أحق من غيرهم بها، وفى هذه الحالة تكون الأحقية لعلى، فضلًا عن أن عليًا قد بُويع بالفعل، والرأى الثانى: هو أن أحقية الخلافة جائزة لكلِّ ذى أصل عربى، سواء أكان من آل بيت رسول الله ﷺ أم لم يكن، وفى هذه الحالة لم يكن ثمة ما يمنع أن يتولاها معاوية إذا توافرت له البيعة، فلما ثارت فى قلب المعركة مسألة الاحتكام إلى الكتاب الكريم، فى فضِّ الخلاف بين الفريقين المتحاربين، تطورت الحوادث تطورًا سريعًا أدَّى إلى أن يُعلن بعض أنصار الإمام على- كرم الله وجهه- خروجهم عليه؛ اعتقادًا منهم بأنه لم يكن حاسم الرأى فى مسألة الاحتكام إلى الكتاب، وأطلق على هؤلاء المعارضين اسم «الخوارج».

ولم يلبث هؤلاء الخوارج أن كونوا لأنفسهم وجهة نظر شاملة، كان منها رأى فى أحقية الخلافة، فلا هم سلموا بأولوية آل البيت فى ذلك الحق على سواهم، ولا هم وافقوا على أن يقصر ذلك الحق على من كان ذا أصل عربى من بين المسلمين الأكفاء للخلافة، وخرجوا برأى ثالث هو أن كلَّ مسلم له حق الحكم ما دام ذا قدرة معترف بها، دون أن يكون بالضرورة من أصل عربى، أو أن يكون بالتفضيل من آل البيت.. فإذا ضممنا هذا الرأى إلى غيره من آرائهم، ونظرنا إليها فى ذاتها، فربما وجدنا وجهة نظر الخوارج خالية مما يُؤخذ عليهم، فهى وجهة نظر لا تقل عن سواها من وجهات النظر.. إذن فلماذا نفرت منهم الأمة الإسلامية، ولا تزال تنفر من مجرد ذكرهم؟! كانت العلة فى تطرفهم بالمعنى الذى أسلفته عن التطرف؛ وهو اللجوء إلى القسوة العنيفة، إرهابًا لكلِّ من وقعت عليه أيديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإن لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها، ولا بدَّ أن نُضيف هنا حقيقة عنهم لتكتمل الصورة أمام القارئ، وهى أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة، ويُديمون الصلاة، حتى لقد كانوا يُعرفون بما كانت تتقرح بهم جباههم من السجود على حصباء الأرض العارية، فالخوارج- كما ترى- قد أغضبوا الأمة الإسلامية على طول التاريخ الإسلامى كله، لا لمجرد أن لهم وجهة نظر إسلامية خاصة، ولا لأنهم قصروا فى عبادة الله، بل هم أغضبوها بتطرفهم حين يكون معنى التطرف لجوء صاحبه إلى الإرهاب، فلا هى الموعظة الحسنة وسيلتهم، ولا هى الجدل بالحجة تُقارع الحجة، ولا هى الحكمة: وتلك الوسائل الثلاث هى وحدها المذكورة فى القرآن الكريم.

ثانيًا: إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم، هو العلامة الحاسمة التى تميز المتطرف عمن سواه، كان محالًا أن يلجأ إليه إنسان قوى واثق بنفسه وبعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف فى أى صورة من صوره، لماذا؟ لأن الإنسان إذا أحسَّ فى نفسه ضعفًا، تملكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأى خائف آخر، ترى المتطرف هلعًا جزوعًا، يسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع قبل أن تتسع الفرصة أمام ذلك الخصم، وليس هذا النزوع العدوانى مقصورًا على المتطرف فى الدين، بل هو نزوع نلحظه فى كلِّ ضروب التطرف الأخرى، فإذا أحدثت جماعة انقلابًا فى بلدها، تولت على أثره مقاليد الحكم فى ذلك البلد، فإنها على الأرجح لا تتريث قبل أن تنزل على من تتوخى فيهم المعارضة، كل ضروب التنكيل والتعذيب تخلصًا منهم أولًا، ليكونوا عبرة لغيرهم ثانيًا.

ثالثًا: لا يتطرف بالمعنى الذى حددناه للتطرف: إلا من حمل على كتفيه رأسًا فارغًا وحاويًا، اللهم إلا أضغاثًا دفع بها إلى ذلك الرأس، عن فهم أو عن غير فهم؛ وذلك لسببين يأتيان على التعاقب فى خطوتين: فمن جهة أولى، لا تكون الأفكار التى شحن بها رأسه علمية بأى معنى من المعانى، إذ الفكرة العلمية لا هى تتطلب أن يتعصب لها أحد بالتطرف فيها، ولا الأخذ بما يشعر فى نفسه بأى حافز يحفزه إلى ذلك؛ لأنها ما دامت فكرة علمية فهى مقطوع بصوابها من ناحية، وخالية من أى شحنة انفعالية، من ناحية أخرى، وهنا ننتقل إلى الخطوة الثانية: وهى أن ما يمتلئ به رأس المتطرف، ما دام لا يمت إلى العلم بصلة فلا بدَّ- إذن- أن تكون فيه الخصائص المضادة لخصائص العلم، ومنها حرارة الانفعال، وغموض المعنى، واحتمال أن تتعدد فيها وجهات النظر فى فهمها وتأويلها واغتراف جانب من جوانبها مع إهمال الجوانب الأخرى.

وهذه الخصائص كلها لا غبار عليها، إذا كان رأس حاويها فيه القدرة الناقدة، وموضوعية النظر، بحيث إذا تقدم إليه ناقد بنقد شىء مما فى رأسه، لم يقابله بالثورة الغاضبة، وبالتهديد بالقتل أو بالضرب، بل أنصت إلى نقده بعقل مفتوح، وما دمنا قد حددنا معنى التمرد باقترانه بالإرهاب الأهوج، تحتم أن يكون رأس المتطرف قد خلا من الضوابط التى تمكنه من مخالفة الآخرين لوجهة نظره.

رابعًا: لقد تساهلنا فيما أسلفناه، حين جعلنا التطرف فى أىِّ مجال، وجهة نظر؛ لأن من كانت له وجهة للنظر ثبت عليها ورأى كل شىء من خلالها.. لكن التطرف فى حقيقته الدفينة «حالة» من حالات التكوين النفسى، تجعل صاحبها معدًا لأن يتطرف وكفى: فليس المهم هو الموضوع الذى يتطرف فيه، بل المهم فى تكوينه هو أن يتطرف للتطرف فى حد ذاته، ومن هنا رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة من تطرف فى فكرة إلى تطرف فى الفكرة التى تناقضها: فنراه اليوم- مثلًا- متطرفًا فى رؤية إسلامية معينة، ثم نراه غدًا متطرفًا فى رؤية شيوعية، مع أن الإسلام والشيوعية ضدان لا يلتقيان.

إن المريض بالتطرف لا يعرف وهو بالتالى لا يعترف بأنه مريض، شأنه فى ذلك شأن المرضى بسائر الأمراض النفسية، وإذا كاشفت المتطرف الدينى مثلًا بحقيقة حالته، أجابك بأنه إنما يسير على الخط الدينى، فماذا يعنى التطرف فيمن يتمسك بدينه ويلتزم أوامره ونواهيه؟