رأيت الله فى أوروبا 2
إله الشيوعية الذى فشل.. لماذا الكتلة الشرقية السابقة هى الأكثر تدينًا؟

- بلدان وسط وشرق أوروبا تتمتع بمستويات أعلى من الممارسات الدينية التقليدية
- الأوروبيون متحدون إلى حد كبير فى دعم الفصل بين الدين والحكومة
قُسمت أوروبا منذ عقود بتقسيمات سياسية واضحة، بعد الحرب العالمية الثانية، تم تقسيمها إلى الكتلة الشرقية «الشيوعية» المتحالفة مع السوفيتى، والكتلة الغربية «الرأسمالية» المتحالفة مع الولايات المتحدة، وبينهما سور برلين العنيد، الذى شكّل انهياره بعد الحرب الباردة تغيير شكل أوروبا.
بموازاة التقسيم السياسى، كان هناك التقسيم الدينى لأوروبا- والذى لسبب ما لم يحظ بذات الاهتمام- وخلاله تنقسم أوروبا إلى ثلاثة خطوط دينية: البروتستانتية فى الشمال والغرب، والكاثوليكية فى الجنوب، والأرثوذكسية فى الشرق، كل من هذه الكنائس مُقسمة بشكل أكبر وكل منها له طقوسه الخاصة، كما توجد أربعة بلدان «البوسنة والهرسك وكوسوفو وألبانيا» بها أغلبية مسلمة، بينما المسيحية هى ثانى أكبر ديانة فى تلك البلدان.
العلاقة بين التقسيمتين شكلت أصعب الأسئلة حول الحياة الدينية والسياسية فى أوروبا.. وهى كيف أثر التقسيم السياسى على التقسيم الدينى؟

الشيوعية والإله الذى فشل
الكتلة الشرقية فى أوروبا والتى كانت تابعة فكريًا وفى بعض الأحيان سياسيًا إلى الاتحاد السوفيتى، ضربتها الشيوعية وغيّرت معالمها، وأثرت بشكل فعال على الحياة الدينية فيها.
بشكل مُبسط يمكن تفسير الشيوعية- نظريًا وأيديولوجيًا وتاريخيًا- على أنها تعارض الله وجميع أشكال الدين. فى عام ١٨٤٤، كتب كارل ماركس: «الدين هو تنهد المخلوق المضطهد، وقلب عالم بلا قلب، وروح الظروف التى لا روح فيه».
فى كتابهم المؤثر «The ABC of Communism»، تحدث نيكولاى بوخارين وإيفجينى بريوبرازهينسكى بشدة ضد الدين وقالا: «إن الشيوعية لا تتوافق مع العقيدة الدينية»، وهى الأفكار التى كانت صريحة بشكل مُربك حول الدين.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن مسألة الإيمان لدى الشيوعيين هى مسألة معقدة، ففى لحظة حرجة يقول الشيوعيون السابقون فى أوروبا إن المسيح كان شيوعيًا «فى لوقا ١٢: ٣٣، يأمر يسوع تلاميذه ببيع ما يملكونه وإعطاء الصدقات»، وفى «لوقا ١٤: ٣٣ يقول إنه لا يمكن لأحد أن يكون تلميذه ما لم يتخل عن كل ممتلكاته»، ويؤكد بعض المؤرخين الرأى القائل بأن شكلًا من أشكال الشيوعية كان يُعلّمه يسوع ويمارسه الرسل.
لا يمكن اعتبار «ماركس» هو الرجل الوحيد الذى يتحمل عبء الشيوعية حتى اليوم، فماركس فى حياته المتأخرة اكتفى بالكتابة عن الحاجة لفصل الدين عن الدولة، لكنه كان لا يزال معاديًا للمعتقد الدينى، وفى مواقف أخرى أعرب ماركس عن اعتقاده بأن الإيمان بوجود الله غير أخلاقى ولا إنسانى. بينما الحقيقة أن تنامى الفكر الإلحادى فى الشيوعية ازداد توسعًا بعد وفاة ماركس.
نهاية الشيوعية كحركة سياسية ومعتقدات فى أوروبا كانت على يد حركة الإصلاح التى أنهت الشيوعية فى شرق ووسط أوروبا بداية فى بولندا، فقد أجبرت حركة التضامن النقابية الاجتماعية المناهضة للشيوعية حينذاك الحكومة الشيوعية فى بولندا على الاعتراف بها فى عام ١٩٨٠ من خلال موجة من الإضرابات.
خلال فترة الفوضى تلك، تم الكشف عن نقاط ضعف الشيوعية وفشلها فى تحقيق أفكار كارل ماركس، ويمكن اعتبار أن انهيار الشيوعية كان واضحًا بسبب عدم الكفاءة المتأصلة فى الاقتصادات الشيوعية والاتجاه العام للحكومات الشيوعية نحو الاستبداد والبيروقراطية تحت إطار الشيوعية، حتى انهار الاتحاد السوفيتى.
لم يؤد انهيار الاتحاد السوفيتى إلى تدهور الأنظمة الاقتصادية والعلاقات التجارية فى مختلف أنحاء أوروبا الشرقية فحسب، بل أدى أيضًا إلى إحداث اضطرابات فى العديد من بلدان أوروبا الشرقية، وأدى إلى زيادة معدلات الجريمة والفساد داخل الحكومة الروسية، وبهذا كان واضحًا للأوربيين أن الشيوعية كانت مثل الإله الذى فشل فى إنقاذ عباده.

التحول التاريخي فى أوروبا الشرقية
فى ربيع عام ١٩٩٠، أمضى جون فيفر، وهو أمريكى يبلغ من العمر ٢٦ عامًا، عدة أشهر فى التنقل بين بلدان أوروبا الشرقية على أمل كشف لغز مستقبلها بعد الشيوعية، وكتب حينذاك كتابًا عن التحول التاريخى الذى يتكشف أمام عينيه، لم يكن فيفر خبيرًا، لذا بدلًا من اختبار النظريات، استجوب أكبر عدد ممكن من الناس من مختلف مناحى الحياة. كانت التناقضات التى واجهها رائعة ومحيرة، بحسب تحقيق لـ إيفان كراستيف وستيفن هولمز، فى صحيفة الجارديان عام ٢٠١٩.
بحسب تحقيق الجارديان، كان سكان أوروبا الشرقية متفائلين لكنهم متخوفون، حيث توقع العديد من أولئك الذين قابلهم «فيفر» فى ذلك الوقت أن يعيشوا مثل سكان فيينا أو لندن فى غضون خمس سنوات، أو عشر سنوات على الأكثر. لكن هذه الآمال كانت مختلطة بالقلق والتشاؤم، وبحسب عالم الاجتماع المجرى إليمير هانكيس: «أدرك الناس فجأة أنه فى السنوات المقبلة، سيتم تحديد من سيكون غنيًا ومن سيكون فقيرًا؛ من ستكون لديه السلطة ومن لن يكون؛ من سيتم تهميشه ومن سيكون فى المركز».
وفى نهاية المطاف نشر «فيفر» كتابه، وبعد ٢٥ عامًا، قرر «فيفر» إعادة زيارة المنطقة والبحث عن أولئك الذين تحدث معهم فى عام ١٩٩٠، ليرى إلى مدى تحققت توقعاتهم، وإلى أين أخذتهم الحياة.
هذه المرة، كانت أوروبا الشرقية أكثر ثراءً ولكنها كانت تعانى من الاستياء، لقد أتى المستقبل الرأسمالى، ولكن فوائده وأعباءه لم تكن متساوية، وبعد أن كتب فيفر عام ١٩٩٠ أن «الشيوعية كانت بالنسبة لجيل الحرب العالمية الثانية فى أوروبا الشرقية هى (الإله الذى فشل)، كتب فيفر بعد رحلته الثانية أن (الليبرالية بالنسبة للجيل الحالى فى المنطقة هى الإله الجديد الذى فشل)».
يمكن تفسير رؤية فيفر فى زيارته الجديدة أن الدول الشيوعية السابقة سعت إلى محاكاة الغرب، منذ عام ١٩٨٩ عن طريق ما تمت تسميته بالأمركة، والأوروبية، والديمقراطية، والليبرالية، والتوسع، والتكامل، والتناغم، والعولمة، وبعد انهيار الشيوعية رسميًا، وفقًا للشعبويين فى أوروبا الوسطى اليوم، أصبحت الديمقراطية الليبرالية عقيدة جديدة لا مفر منها، وأصبح تقليد قيم ومواقف ومؤسسات وممارسات الغرب أمرًا ضروريًا وواجبًا.
فقد رأت النخب فى أوروبا الوسطى أن تقليد الغرب هو الطريق الصحيح نحو الحياة الطبيعية، حيث شجعتهم آمال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، وقللوا من شأن العوائق المحلية أمام التحرر والديمقراطية، وبالغوا فى تقدير جدوى استيراد النماذج الغربية، وبعد سنوات ومؤخرًا، بدأت ملاحظة شىء ما فى أوروبا الشرقية، هو أن هناك موجة معاداة لليبرالية تجتاح أوروبا الوسطى.
فى رومانيا، التقيت رجلًا يعمل فى أحد المتاحف، وكان يتحدث بغضب عن أن محاولة الجيل الجديد فى رومانيا تقليد الغرب يغير من الهوية الرومانية، وشكل الدولة التى عرفها، ورجل آخر فى بلغاريا تحدث عن الأمر ذاته، مؤكدًا أن البلغار هم أقدم شعوب الأرض، هويتهم هى محل دراسة، والتشبه بالغرب وتطبيق عاداته يؤثر بشكل فعال على الهوية البلغارية الفريدة.
ربما خلقت النشوة التى سادت بعد انهيار الشيوعية توقعات بأن تحسينات جذرية أخرى كانت فى الأفق. وتصور البعض أن استقالة المسئولين الشيوعيين من مناصبهم كانت كافية حتى يستيقظ الأوروبيون ليجدوا أنفسهم فى بلدان مختلفة وأكثر حرية وازدهارًا، وفوق كل شىء أكثر غربية. وعندما لم يتحقق التغريب السريع بطريقة سحرية، ظهرت حلول أخرى، منها التمرد على الغرب أو الهجرة إليه.. لكن كيف أثر كل ذلك على الحياة الدينية؟

الإيمان المطلق فى أوروبا الشرقية
بالنسبة لسكان أوروبا الشرقية والذين خذلتهم الشيوعية، يبدو أنهم لم ينجحوا تمامًا فى التماهى مع الغرب، فالحياة الدينية تعكس أزمة، فرغم أنها كانت دولًا شيوعية فى السابق، إلا أن الأبحاث أو الأرقام تعكس أنهم أكثر إيمانًا بالله من الدول الغربية.
أظهرت دراسة أن بلدان وسط وشرق أوروبا تتمتع بمستويات أعلى من الممارسات الدينية التقليدية، وهم أكثر إيمانًا بالله من سكان أوروبا الغربية، يشارك فى استطلاع CEEBC مؤلفون من ١٣ دولة، بما فى ذلك جمهورية التشيك، حيث تدعم «دار لانغهام» للأدب هذا المشروع الذى يضم مؤلفين من ١٣ دولة فى وسط وشرق أوروبا. ويقوم المؤلفون بكتابة تعليقات على كل سفر من أسفار الكتاب المقدس.
كما كشف استطلاع مركز بيو للأبحاث أن حصة المسيحيين من السكان فى وسط وشرق أوروبا مستقرة أو فى تزايد، ولكن فى أوروبا الغربية، تشهد المسيحية تراجعًا، وشمل البحث استجواب ما يقرب من ٥٦ ألف شخص بالغ بين عامى ٢٠١٥ و٢٠١٧ فى ٣٤ دولة فى غرب ووسط وشرق أوروبا.
فيما تشير أبحاث جديدة إلى أن هناك مستوى أعلى من الممارسة الدينية التقليدية فى أوروبا الوسطى والشرقية مقارنة بأوروبا الغربية، بحسب دراسة نشرت نتائجها عام ٢٠١٩، وبحسب دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث فى واشنطن العاصمة، فإن سكان أوروبا الغربية يعبرون عن إيمانهم بإله مسيحى بمستويات أقل من سكان أوروبا الوسطى والشرقية.
بحسب الأرقام فإن «الإيمان المطلق» بالله أكثر انتشارًا فى وسط وشرق أوروبا، وتصدرت أرمينيا «٧٩٪» وجورجيا «٧٢٪» قائمة البالغين الذين يقولون إنهم يؤمنون بالله بيقين مطلق، فى حين جاءت فرنسا «١١٪» وسويسرا «١١٪» وألمانيا «١٠٪» ضمن الدول التى لديها أقل قدر من اليقين فى وجود الله.
ومن بين بلدان أوروبا الوسطى والشرقية التى شملها الاستطلاع، هناك ثلاثة استثناءات فقط حيث يقول أقل من ثلثى البالغين إنهم يؤمنون بالله: المجر «٥٩٪»، وإستونيا «٤٤٪»، وجمهورية التشيك «٢٩٪».
يقول معظم هؤلاء البالغين الغربيين إنهم «ابتعدوا تدريجيًا عن الدين»، على الرغم من أن كثيرين قالوا إن ارتباطهم بالدين تلاشى بسبب الخلافات مع مواقف الكنيسة بشأن القضايا الاجتماعية مثل المثلية الجنسية والإجهاض.

يعتنقون أفكار المتدينين
الأوروبيون متحدون إلى حد كبير فى دعم الفصل بين الدين والحكومة. ويقول أكثر من نصف البالغين فى أغلب البلدان إن الدين يجب أن يظل منفصلًا عن سياسات الحكومة، هذا الرأى أكثر انتشارًا فى أوروبا الغربية، فى حين أن العديد من بلدان وسط وشرق أوروبا أكثر انقسامًا، على سبيل المثال، قال ٤٦٪ من الرومانيين إن حكومتهم يجب أن تعزز القيم والمعتقدات الدينية.
لكن الأرقام لديهم تحكى قصة أخرى، والقضايا التى هى محل خلاف بين اليمين واليسار فى دول الغرب يُنظر إليها فى أوروبا الشرقية من منظور دينى وليس سياسيًا، فعلى سبيل المثال الأغلبية فى أوروبا الوسطى والشرقية فى كل البلدان التى شملها الاستطلاع تقريبًا تعارض زواج المثليين.
على الرغم من أن الإجهاض قانونى بشكل عام فى كل من أوروبا الوسطى والشرقية والغربية، إلا أن هناك اختلافات إقليمية فى وجهات النظر حول هذا الموضوع أيضًا، والدول الشرقية يتم النظر إلى تلك القضايا عبر منظور دينى.
والتفسير الوحيد لهذه النتائج هو أن سكان الدول الشيوعية السابقة، والتى لم تنجح الشيوعية فى إدارة حياتهم وسببت لهم العديد من الهزات السياسية والاقتصادية، فإن جزءًا من أجيال ما بعد الشيوعية بشكل ما بدأت أن تؤمن بالله بشكل مطلق، كرد فعل تلقائى عن فشل الشيوعية.