الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

رأيت الله فى أوروبا 3

خريف الإيمان.. لماذا تزداد العلمانية فى أوروبا؟

حرف

- أصبحت الممارسة الدينية فى انحدار بسبب عملية العلمانية فى الدول الأوروبية

- توجد مبانى الكنائس فى كل مكان لكنها على الأغلب مزارات للسياح

لا أتذكر عدد المتدينين الذين قابلتهم فى أوروبا، لكننى أتذكر عدد العلمانيين، والملحدين، واللا قدريين الذين التقيتهم بالصدفة، رغم أن الدين ليس مركز الأحاديث الشيقة عند الأوروبيين، إلا أن فضولهم لمعرفة ديانتى وما إذا كنت مسلمة أم لا.. كان فرصة لأسألهم نفس السؤال.. 

تراجع الإيمان بالله

يتجنب الأوروبيون بشكل ما مناقشة أمور الدين والسياسة، وربما كرة القدم «فى بعض الدول»، فرغم ولعهم بالحياة السياسية، إلا أن المسائل الدينية لا تعتبر جزءًا من الحياة اليومية، ولا تحتل مكانة مرتفعة فى قائمة الموضوعات التى يناقشها الأوروبيون بشكل يومى، وبطبيعة الحال ليس بأى شكل محور حديث مع الغرباء، أتذكر أن الكثيرين منهم اعتذروا مسبقًا إذا أردوا أن يسألونى سؤالًا يخص الدين!

ورغم أنه ليس هناك تفسير واضح وعلمى حول ذلك، إلا أنه من مشاهداتى- قد أكون مخطئة- أن الأوروبيين مشغولون بالحياة ومعيشتها والاستمتاع بها أكثر من التفكير فيها، والبحث خلفها ووراءها وما بعدها! هم مؤمنون بأنك لا تملك إلا اللحظة الحالية وليس عليك إلا أن تعيشها، فالماضى انتهى، والمستقبل مجهول.

فكيف يمكن التسلل إلى الأوروبيين وفتح معهم موضوعات تتعلق بالدين وممارسته؟ الحقيقة أننى كنت أملك «مدخلًا خاصًا» سهَّل علىَّ المهمة، فالحقيقة أن الأوروبيين على اختلاف جنسياتهم لديهم صورة نمطية عن المرأة المسلمة، إنها فى عيونهم، ترتدى الحجاب، ولا تسافر بمفردها، ولا تعمل فى مهنة مثيرة مثل الصحافة، ولهذا كنت مثار تساؤل بالنسبة لهم عندما يعرفون أننى مصرية مسلمة، ويصبحون أكثر انفتاحًا للحديث عن الدين على غير عادتهم.. بسبب الفضول!

الأوروبيون يعتبرون التعبير عن الهوية الدينية، أكثر وضوحًا، مثلها مثل التعبير عن الاتجاه السياسى، شىء يجب الإعلان عنه، لكن ليس بالضرورة تبريره. وكلما اتجهت شرقًا أصبح الأوروبيون أكثر حذرًا فى الإفصاح عن ميولهم السياسية وربما الجنسية!

فى أوروبا الشرقية، والغربية، ودول البحر المتوسط، والبلقان، رأيت المتدينين، والكثير من العلمانيين، لكن بالإمكان التقدير بأغلب من التقيتهم كانوا علمانيين أو لا قدريين أو ملحدين، وكما يبدو أن مؤشراتى ليست مُضللة، فبحسب الأرقام والإحصائيات فإن عددًا متزايدًا من الأوروبيين لا يمارسون أى دين. ففى هولندا، ارتفع عدد الأشخاص الذين لا ينتمون إلى أى ديانة من ٤٥ إلى ٥٧ فى المائة بين عامى ٢٠١٠ و٢٠٢١، ما يجعل المجموعة غير الدينية أكبر من أى من الكنائس المسيحية. 

وفى فنلندا، ارتفع عدد الأشخاص الذين لا ينتمون إلى أى دين من حوالى ١.١٤ إلى ١.٧٨ مليون على مدى السنوات العشر الماضية. وانخفضت حصة السكان السويديين الذين كانوا أعضاء فى الكنيسة فى نفس الفترة من ٦٩ إلى ٥٤ فى المائة، بينما ارتفعت حصة الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله فى فرنسا من ٤٤ إلى ٥٦ فى المائة فى السنوات التسع عشرة الماضية.

بحسب الاستطلاعات، فإن الدول التى بها أكبر عدد من الأشخاص الذين أفادوا بعدم إيمانهم بأى نوع من أنواع الروح أو الإله أو القوة العليا هى فرنسا «٤٠٪» وجمهورية التشيك «٣٧٪» والسويد «٣٤٪» وهولندا «٣٠٪» وإستونيا «٢٩٪» وألمانيا «٢٧٪» وبلجيكا «٢٧٪» وسلوفينيا «٢٦٪»، بينما جاءت الدول الأكثر تدينًا هى رومانيا «١٪ من غير المؤمنين» ومالطا «٢٪ من غير المؤمنين».

تشير البيانات الصادرة عن أحدث إصدار من استطلاع القيم الأوروبى «EVS ٢٠١٧-٢٠» إلى أن ٦١٪ من السويديين، و٥٣٪ من الهولنديين، و٥١٪ من البريطانيين والنرويجيين، و٥٠٪ من التشيك يقولون إنهم لا يؤمنون بالله.

فى التشيك كان واضحًا أن الحياة السياسية انعكست على الحياة الدينية، والشعب التشيكى الذى رفض الشيوعية وثار ضدها ونفذ بطولات فى التخلص منها، لم يغير أفكاره الدينية التى كانت تتضمنها، وأصبح يتنافس على الشعب الأكثر إلحادًا فى أوروبا.

فى رومانيا، لم أجد تفسيرًا حول لماذا هؤلاء الرومانيون متدينيون، ولكن الطبيعة الرومانية التى تمتزج بين الحضارة الرومانية القديمة، وإرث السوفيت، وتاريخ البلقان جعل الرومانيين ربما أكثر تمسكًا بدينهم!

ماذا يفعل الله فى أوروبا؟

عندما ننظر إلى ما يحدث فى بريطانيا وبقية دول أوروبا اليوم، فمن السهل أن الله لا ينظر إلى الأوروبيين، حيث توجد مبانى الكنائس فى كل مكان، لكنها على الأغلب مزارات للسياح، فعدد من يزورون الكنائس ضمن الجولات السياحية ربما أكثر ممن يذهبون للخدمة أو الصلاة.

على مدى العقود العديدة الماضية، أصبحت الممارسة الدينية فى انحدار، بسبب عملية العلمانية فى الدول الأوروبية، حيث شهد العديد من البلدان انخفاضًا فى حضور الكنيسة والعضوية فى السنوات الأخيرة، وكما يبدو أن الإيمان أكثر شيوعًا مع تقدم العمر ويكون أعلى بين النساء، وأولئك الذين لديهم تعليم أساسى فقط، وأولئك «يضعون أنفسهم على يمين السلم السياسى وينخفض بشكل ملحوظ بين الأجيال الجديدة، وهؤلاء الذين يصنفون أنفسهم على إنهم فى يسار السلم السياسى. فربما لا يزال بعض الأوروبيين يتبنون المدرسة الكلاسيكية وهو أن اليمين السياسى هم المتدينون، واليساريون، هم العلمانيون. رغم أن هناك تيارات أخرى ظهرت إلى الواقع مثل اليمين العلمانى!

بعدما التقيت الكثير من غير المتدينين أو غير المؤمنين فى أوروبا، كان هناك سؤال يحتاج إجابة، وهو ماذا يفعل الله فى أوروبا؟ 

فالقيم المسيحية تتعرض للهجوم من كل حدب وصوب. الصوت المسيحى فى الساحة العامة أصبح مكتومًا بسبب أولئك الذين يقترحون أن تكون كل المناقشات العامة خالية من «الحديث عن الله». 

التغيرات التى ضربت العالم والأجيال الجديدة، ضربت الحياة الدينية فى أوروبا، والتفسيرات ليست صعبة، قال لى رجل «نمساوى» لا يؤمن بوجود الله، إن هناك حاجة لإعادة تفسير الكتاب المقدس بحسب المعطيات الحالية.

كيف يمكننا أن نعرض الكتاب المقدس اليوم فى وقت أصبح فيه الناس عُرضة للخداع الرقمى؟ ماذا يعنى «احفظ قلبك» (أمثال ٢٤: ٣) و«جدد ذهنك» (رومية ١٢: ٢) عندما يتم تلمذة قلوبنا وعقولنا بواسطة الوسائط الرقمية على مدار ٢٤ ساعة فى اليوم؟ هل يقوم قادة الكنيسة بتجهيز أطفالنا للعالم الرقمى؟

فالحل من وجهة نظره هو تجديد الخطاب الدينى المسيحى، ليواكب تطورات العصر ويصبح أكثر إقناعًا للأجيال الجديدة التى من الصعب إقناعها!

الحياه الدينية والمهاجرون

التغيرات السياسية والاقتصادية التى ضربت الحياة فى أوروبا ليست وحدها التى تقف خلف انتشار العلمانية، فمنذ الحرب على الكنيسة، وفصل الدين عن الدولة، حتى الحروب العالمية، وظهور الشيوعية، ثم انهيارها. كلها فصول تحكى قصة صعود العلمانية.

لكن على الجانب الآخر من الرواية، لا يمكن إنكار المتغيرات الديمو غرافية والمجتمعية، التى ساهمت بشكل أو بآخر بتغيير شكل الهوية الدينية فى أوروبا.. بإمكاننا أن نعترف بأن المهاجرين الأوروبيين من بعض الدول، والهجرات الأجنبية إلى أوروبا لعبوا دورًا.

هناك قلق فى أوروبا بشأن تزايد أعداد المهاجرين، ليس فقط لأنه فى بعض الأحيان يتم ربطهم بالحوادث والأعمال المتطرفة ولا لأنهم يشكلون عبئًا اقتصاديًا فى بعض الأحيان، ولكن القلق الأكبر هو الهوية الأوروبية، والحفاظ عليها من دخول الأجانب غير المندمجين إلى البلاد، ما يؤدى إلى إضعاف الهوية الوطنية وإضعاف التماسك الوطنى. 

وفى الوقت نفسه لا نستطيع التعميم أن جميع الأوروبيين يكرهون المهاجرين، بل العكس، فى اليونان قالى لى شاب اسمه «إلياس» إنه يرحب بالمهاجرين، خاصة هؤلاء الذين جاءوا بسبب تدمير بلادهم، مثل السوريين، وأكد أن على بلاده أن تستوعبهم وأن هذا الدور الأخلاقى الذى يجب أن يقوم به الإغريق المعاصرون»، بينما رأى «جورج» اليمينى أن المهاجرين يغيرون شكل اليونان التاريخية.

وهذا الخوف، بدوره، يتغذى على انشغال غير معلن إلى حد كبير بالانهيار الديموغرافى، خاصة بعدما تزايدت هجرات الأوروبيين من دول أوروبا الشرقية إلى الغرب.

فى الفترة «١٩٨٩-٢٠١٧»، فقدت لاتفيا ٢٧٪ من سكانها، وليتوانيا ٢٢.٥٪، وبلغاريا ما يقرب من ٢١٪. وفى رومانيا، غادر البلاد ٣.٤ مليون شخص، الغالبية العظمى منهم أصغر من ٤٠ عامًا، بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبى فى عام ٢٠٠٧، كما غادر عدد أكبر من سكان أوروبا الوسطى والشرقية بلدانهم إلى أوروبا الغربية نتيجة للأزمة المالية فى عامى ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ مقارنة بجميع اللاجئين الذين وصلوا إلى هناك نتيجة للحرب فى سوريا.

فالجمع بين الشيخوخة السكانية وانخفاض معدلات المواليد وتدفق الهجرة المستمر هو بلا شك مصدر الذعر الديموغرافى فى أوروبا الوسطى والشرقية. 

مخاوف الهجرة بدأت بعد عام ١٩٨٩ فى أوروبا الشرقية والوسطى، والذى أثار مخاوف من اختفاء الأمم بشكلها المعروف، وربما هذا ما يفسر رد الفعل العدائى العميق تجاه أزمة اللاجئين فى عامى ٢٠١٥ و٢٠١٦، على الرغم من أن عددًا قليلًا جدًا من اللاجئين انتقلوا إلى بلدان تلك المنطقة، لأن المهاجرين على الأغلب يفضلون أوروبا الغربية «لاستقرار أوضاعها الاقتصادية وتوافر فرص العمل برواتب أفضل».

فحكومات أوروبا الشرقية، التى تطاردها مخاوف الانهيار الديموغرافى، تبحث عن الأسباب التى قد تدفع مواطنيها، خاصة الشباب، إلى التردد فى الانتقال إلى أوروبا الغربية، فالشعبويون فى وارسو وبودابست حولوا أزمة اللاجئين فى الغرب إلى فرصة للترويج للشرق، فهم يدركون أنه لن يتوقف المواطنون عن المغادرة إلى الغرب إلا إذا فقد الغرب جاذبيته. وتصوير فرنسا وإيطاليا كدول غارقة فى أزمة اللاجئين يساعد فى هذا الهدف.

والحقيقة أن عدد المسلمين فى ارتفاع داخل أوروبا، ففى عام ٢٠٢٢، عاش حوالى ٢٢٣٠٠ مسلم فى فنلندا. فى إنجلترا وويلز، ارتفع عدد السكان المسلمين بأكثر من مليون نسمة من عام ٢٠١١ إلى عام ٢٠٢١، بحلول عام ٢٠٣٠، من المتوقع أن يكون فى فرنسا أكثر من ستة ملايين مسلم، فى إيطاليا، بلغ عدد الأجانب الذين حددوا هويتهم كمسلمين حوالى ١.٦ مليون فى عام ٢٠٢٠، وفى عام ٢٠٢٢، سجلت إسبانيا ٢.٣ مليون مؤمن بالإسلام. من ناحية أخرى، شهدت البرتغال تحول المسيحيين الإنجيليين إلى أكبر مجموعة دينية أقلية فى البلاد.

الخوف فى أوروبا من المهاجرين، لم يكن فقط من المهاجرين المسلمين أو الهندوس، بل من المسيحيين أيضًا، على مدى السنوات الخمسين الماضية، هاجر الملايين من المسيحيين من أغلبية العالم إلى أوروبا، ما أدى لاحقًا إلى ظهور كنائس إفريقية أو لاتينية أو آسيوية، وبعد سنوات كما يبدو أن هناك من يرى أن كنائس الشتات تغير وجه الكنيسة فى أوروبا، بسبب اختلافاتهم المذهبية والعقائدية.

وكما يقول هارفى كويانى: «إن الأفارقة لديهم الحماسة للصلاة والتبشير، فى حين قد يكون لدى الأوروبيين فهم أفضل للفجوة الثقافية التى يجب سدها من أجل التواصل مع الناس. وإذا جمعنا بين الاثنين، فقد نحصل على ما نحتاج إليه للمسيحية الأوروبية».