الأزمة والحـل..
د. محمود خليل: «الورش» دمرت الكتابة الدرامية.. ونعانى من ندرة المخرجين المبدعين

- المشكلة تحدث حين يركز الكُتاب على ظاهرة أحادية كالبلطجة ويقدمونها وكأن الشارع المصرى كله بلطجية
- حرية الإبداع لا تتناقض مع المسئولية الاجتماعية للكاتب والتزامه بحماية قيم وتقاليد وثوابت المجتمع
أزمة الدراما.. عنوان عريض لنقاش ساخن فى المجتمع الآن.
بدأ «حديث الأزمة» بنقاش نخبوى، معتاد، مطلع شهر رمضان، الموسم الدرامى الأهم، غير أنه ازداد سخونة وشعبوية مع حديث الرئيس عن «خلل» فيما تقدمه المسلسلات.
لكن هل نحن أمام أزمة بالفعل؟.. وإذا كانت الإجابة بـ«نعم».. من أين نبدأ الحديث؟.. وأقصد هل هى «أزمة موسم» أم «أزمة قديمة تتجدد فى كل موسم»؟.. ثم ما هى روشتة الحل إذا اتفقنا جميعًا على أن هناك أزمة؟
حملت هذه الأسئلة، وغيرها، إلى مفكر ومثقف حقيقى لديه ما يقوله.. الدكتور محمود خليل، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة.. وهذه كانت إجاباته.

■ هل هى «أزمة موسم» أم «أزمة قديمة تتجدد فى كل موسم»؟
- لا شك أن الأحاديث تتعالى والنقاشات تتفاعل حول الدراما مع مطلع شهر رمضان وطيلة أيامه الكريمة، فرمضان يمثل أكبر معرض لسوق الدراما فى العالم العربى ككل، وتتزاحم على مائدته ألوان شتى من الدراما الاجتماعية والكوميدية والدينية والتاريخية، ومن حق الناس أن تبدى رأيها فيما تشاهد، ومن هنا تشتعل النقاشات داخل الإعلام والتواصل الاجتماعى، بل وبين أفراد الأسر والعائلات، ومن الطبيعى أن تتنوع الآراء بتنوع الأذواق والتفضيلات.
وإذا حيّدنا فكرة أن الحديث عن الدراما هو حديث كل موسم رمضانى فسنجد بأمانة أن الدراما المصرية تعيش بالفعل أزمة حقيقية، وهى أزمة تعود بجذروها إلى ما يزيد على عقدين من الزمان، فمع دخول الألفية الجديدة وانتعاش سوق القنوات الفضائية وظهور المسلسلات المدبلجة التركية والكورية وغيرها، بدأ قطاع من الجمهور المصرى والعربى ينصرف إليها، فى الوقت نفسه كانت الدراما السورية- خصوصًا التاريخية والدينية- تنتعش، مدعومة فى بعض الأحوال بتمويل خليجى، فبدأ البساط ينسحب من تحت أقدام الدراما المصرية الشبيهة، بعد أن كانت رائدة فى هذين المجالين، لكن بقيت مصر تنافس على مستوى الدراما الاجتماعية، ثم بدأنا نفقد، بدءًا من عام ٢٠١٠ الكثير من الكبار فى مجال الدراما التليفزيونية، على رأسهم أسامة أنور عكاشة، وبدأت ورش الدراما تحل محل الكتاب، وشيئًا فشيئًا أصبحت تسيطر على سوق الدراما، وأصبحت الكتابة الدرامية عملًا تعاونيًا، يتم التأليف مشهدًا بمشهد، وأحيانًا ما يتم التأليف داخل استديوهات التصوير، ولأن هناك أكثر من يد تشارك فى الكتابة تحول العمل الدرامى إلى ما يشبه «طبق سلاطة» أو ظهر عندنا دراما يمكن وصفها بـ«دراما من كل فيلم أغنية».. مثلًا أحد الأعمال الدرامية، الذى يعرض هذا العام يستدعى فيلم أمير الانتقام على فيلم دائرة الانتقام على فيلم عاد لينتقم، وتجد عملًا آخر يأخذ فكرة من فيلم «خلى بالك من زوزو» وجزء من مسرحية قديمة اسمها «نرجس» وهكذا.. الأحداث داخل العديد من الأعمال تبدو ساذجة وغير منطقية، يغلق المخرج الحلقة على موقف ملتهب، يظل يحضّر له طول الحلقة، وتتوقع معه أن البطل سيسحق كل من حوله سحقًا، ثم تجد فى الحلقة التالية البطلة تضحك عليه بكلمتين ودمتم، ليبدأ فى التحضير لالتهاب جديد.
لو أردت أن ألخص لك أزمة الدراما الحالية فى كلمتين سأقول لك إن أزمتها أنها تحولت إلى «دراما كارتونية».. ما نراه من بلطجة وتنطيط وحركات بهلوانية خارقة هو تمثيل كارتونى. وما نسمعه من تطجين أو تلاعب بالأصوات، وتمثيل بالرمش والحاجب يضعنا أمام شخصيات كارتونية.. الأحداث وتقلباتها أيضًا تبدو كارتونية غير طبيعية.. والأخطر أن الدراما المصرية بما تطرحه من موضوعات تبدو بعيدة عن الواقع وتبدو «افتراضية».. والعالم الافتراضى يعبر عن حالة غير واقعية، أو بعبارة أدق «حالة كارتونية» متخيلة.

■ ما الذى نفتقده.. وفى رقبة من نعلق الجرس؟
- نعانى حالة ندرة فى المخرجين المبدعين فى مجال الدراما الاجتماعية الحقيقية وكذلك الدراما التاريخية والدينية، ونفتقد الكتاب الحقيقيين للدراما بعيدًا عن الورش، ونفتقر إلى الموضوعية، ويشتكى الكثيرون من تحكم الشللية فى اختيار المؤلفين والمخرجين والممثلين، يضاف إلى ذلك وجود شخصيات على رأس الإنتاج الدرامى، أحيانًا ما، لا تكون لديها الدراية أو الخبرة الكافية التى تساعدها على تقديم إنتاج درامى ناجح، نفتقد أيضًا إلى قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصرى الذى سبق وقدم لنا العديد من المسلسلات والأفلام والسهرات والأفلام الوثائقية البديعة. وظنى أن المساحة الأخيرة «قطاع الإنتاج» هى المساحة التى يجب أن تنشط فيها الدولة لإنتاج الأعمال الكبرى والمميزة، كما كانت تفعل فى السابق.
■ كان الحديث الرئاسى عن «أزمة» الدراما مدخلًا لتشكيل لجان عديدة، سواء على مستوى الحكومة أو المؤسسات والهيئات التابعة للدولة.. هل يحتاج حل «الأزمة» إلى لجنة؟.. وإذا كنا فى احتياج إلى هذه «اللجنة» هل المبادرة يجب أن تأتى من الحكومة؟.. أو بمعنى آخر هل يجب أن تقود الحكومة مسار إصلاح «الأزمة المتصورة»؟
- قديمًا قيل إذا أردت أن تقتل موضوعًا فأحله إلى لجنة.. لجنة الدراما الحكومية لن تفلح فى حل الأزمة.. وستقع فى ذلك المأزق الذى وقع فيه أبطال فيلم «القضية ٦٨»: «نفتح الشباك ولا نقفله».. الحلول معروفة.. لا بد أن نمنح الإنتاج الدرامى المزيد من الاستقلالية.. وعدم فرض أجندة معينة على كتاب الدراما.. والاهتمام بالورق والاعتماد على لجان قراءة لديها الخبرة فى اختيار السيناريوهات المتميزة.. ومن المهم دراسة الجمهور، خصوصًا من الأجيال الجديدة «جين زى وجين ألفا»، هذا الجيل الذى يستقبل ما يلقى إليه أحيانًا بلا تفكير، وقطاع لا بأس به منه يتجه إلى الدراما الأجنبية، وأصبح شغوفًا بالمنصة التليفزيونية أكثر من القناة التليفزيونية، وبالمشاهدة على الموبايل أكثر من المشاهدة فى التليفزيون.. ومن الضرورى جدًا جدًا الاهتمام بالإخراج التليفزيونى، لقد سمعت المبدع الراحل محمود ياسين يقول ذات مرة: المخرجون هم الأقدر على تغيير مسار حركة الفن، تلك حقيقة يشهد عليها تاريخنا السينمائى والتليفزيونى.

■ يقولون إن الدراما يجب أن تعكس ما يجرى فى المجتمع.. وهذا متفق عليه.. لكن عندما يقدم صناع الدراما شيئًا موجودًا بالفعل يتهمون بالإساءة للمجتمع.. وهذا تناقض بالغ.. كيف ترى هذا التناقض؟.. وهل يمكن أن نضع حدًا فاصلًا لما يمكن أن يقدم أو لا يقدم على الشاشة؟
- لا خلاف على ضرورة أن تعكس الدراما ما يجرى فى المجتمع، سلبًا أو إيجابًا، على سبيل المثال البلطجة جزء من حياة الشارع، لكن هناك أيضًا «البشر الشقيانين» الذين يسعون فى حياتهم بشرف ووراءهم العديد من القصص النبيلة، يوجد فى الشارع أيضًا المتدين المتطرف ولكن يوجد المسلم والمسيحى العادى المؤمن بربه، والذى يعلم أن الدين معاملة وأخلاق قبل كل شىء.. الدراما لا بد أن تعكس كل الصور التى توجد فى الشارع، تعرض البلطجى والشقيان.. المتطرف والطيب.. الكومباوندات والأحياء الشعبية.. المولات وأسواق البواقى.. الدراويش والتنويريين.. المشكلة تحدث حين يركز الكتاب على ظاهرة أحادية كالبلطجة ويقدمونها.. وكأن الشارع المصرى كله بلطجية.. وهذا غير صحيح وغير واقعى.. وتتفاقم المشكلة أكثر حين لا يدين العمل البلطجة، بل يدافع عنها كوسيلة لنيل الحقوق.. من المهم أن يلتزم الكتاب والمخرجون بمسئولياتهم الاجتماعية، وأظن أنهم يتفقون معى فى أن حرية الابداع لا تتناقض مع المسئولية الاجتماعية للكاتب والتزامه بحماية قيم وتقاليد وثوابت المجتمع.
■ هل تعتقد أن غياب الأعمال الموصوفة بـ«الوطنية» والأعمال الدينية أخل بالموسم الدرامى؟
- الأعمال الوطنية مطلوبة فى كل وقت، بشرط أن تبتعد عن «الأداء الزاعق» أو «الوعظى» أو «المباشر».. فالوطنية سلوك وليست شعارات.. والعمل الدرامى ليس مظاهرة هتيفة بل عمل حرفى فنى له قواعده، وأبسط هذه القواعد البعد عن المباشرة والوعظيات، ومن هذا المنظور يمكن النظر إلى كل عمل يغرس الانتماء ومحبة الأرض والإخلاص للمجموع الذى يعيش بينه الفرد بالعمل الوطنى.. على سبيل المثال: عمل مثل «ليالى الحلمية» ظل يغرس العديد من القيم الوطنية فى المشاهدين عبر سلسلة أجزائه.. وعمل مثل «المال والبنون» غرس العديد من قيم الولاء والانتماء ومحاربة سرقة الآثار والدفاع عن الأرض والوطن وحماية الوطن من الفساد.. هذه هى الأعمال الوطنية الحقيقية، أما الأعمال الأخرى الإنشائية فأثرها على الناس محدود.. من المهم أن ننتبه إلى أن مناقشة الأعمال الوطنية الكبرى دراميًا لا بد أن تكون متمهلة، وليس هناك جدوى لمناقشة عمل وطنى ما زالت أحداثه تتفاعل على أرض الواقع.
تعال بعد ذلك إلى الأعمال الدينية.. والتليفزيون المصرى لديه تاريخ طويل فى إنتاج هذه الأعمال: على هامش السيرة، ومحمد رسول الله والذين معه، والوعد الحق، وصدق وعده، وغيرها. نحن لم نعد ننتج دراما دينية، وآخر ما أذكر أننا أنتجناه هو حلقات «القضاء فى الإسلام». وأسباب ذلك عديدة منها التكاليف الكبيرة لإنتاج هذه الأعمال، مثل الديكورات والملابس وغير ذلك، ومنها عدم وجود كتاب قادرين على إنتاج ألوان الدراما التاريخية والدينية، أضف إلى ذلك عدم وجود ممثلين قادرين على التمثيل باللغة العربية، لقد تعجبت مؤخرًا وأنا أشاهد عملًا تاريخيًا الحوار فيه بعامية الوقت، وقد تكرر هذا الأمر أكثر من مرة، أضف إلى ذلك الأخطاء التاريخية التى يقع فيها الكتاب فى أعمال لا تخضع للمراجعة الكافية من جانب متخصصين، أو تترك هكذا بشكل مغرض من أجل تزييف التاريخ. ظنى أن مصر قادرة على العودة والمنافسة فى سوق الدراما الدينية والتاريخية من خلال الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة فى تخفيض تكاليف إنتاج المشاهد، والاعتماد على أسماء جديدة تستطيع أن تجيد الحديث بالعربية الفصحى، والأهم من ذلك منح الفرص لمن يستطيع أن يكتب النصوص الدينية والتاريخية ليقدم نفسه ويستفاد منه، والتنبه إلى ضرورة وجود لجان لمراجعة هذه الأعمال.

■ كأستاذ جامعى مرموق ومثقف مهتم بالشأن العام وكاتب رأى منتظم.. لو طلبت منكم رؤية لما يجب أن تكون عليه الدراما.. أو رؤية لما تعتقدون أنه الأفضل للدراما.. ماذا تقول؟
- أقول لك إن هناك رؤية من ١١ عنصرًا أتصور أنها يمكن أن تسهم فى إصلاح حال الدراما:
أولًا- تحرير الإنتاج الدرامى، سوى الجهات المهنية المحترفة المتخصصة فى إنتاج المسلسلات التليفزيونية.. ثانيًا- إعادة الاعتبار إلى قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصرى الذى اختفى إنتاجه أو تقلص فى ظروف مريبة بعد عقود طويلة أثرى فيها الدراما التمثيلية والفيلمية بالتليفزيون.. ثالثًا- منح شركات الإنتاج الخاص فرصتها فى العمل والمنافسة.. رابعًا: تحرير الإنتاج التليفزيونى «كتابة وتمثيلًا وإخراجًا» من الشللية.. خامسًا: من المهم فهم الذوق الدرامى للأجيال الجديدة، ودراستهم جيدًا.. دراسة الجمهور.. وتفضيلاته وأولوياته.. مسألة مهمة جدًا إذا أردنا أن نطور الدراما.. سادسًا: الوعى بأن الصدق روح الفن الناجح.. وبالتالى فأى أعمال لا تعتمد على الصدق الفنى والواقعى وتميل إلى المبالغة والهتاف لن تنجح.. سابعًا: الوعى بالجانب الاقتصادى فى الإنتاج الدرامى، وأن من الممكن أن يشكل عائدًا مهما من عوائد العملة الصعبة.. ثامنًا: رد الصناعة إلى أربابها أو بعبارة أخرى «إدى العيش لخبازه».. تاسعًا- إعادة النظر فى ورش الكتابة الدرامية أو تطويرها بشكل يسمح لها بإنتاج أعمال ذات قيمة، أو فى أقل تقدير منح الكتاب الأفراد فرص الوجود إلى جوارها، وهناك الآلاف من الكتاب الذين ينتظرون هذه الفرصة.. عاشرًا: الاهتمام بإنتاج أعمال وطنية حقيقية.. بالإضافة إلى الأعمال الدينية والتاريخية.. حادى عشر: تفعيل الأحاديث المتكررة عن الدراما كجزء من قوة مصر الناعمة إلى واقع حقيقى من خلال إنتاج أعمال قادرة على المنافسة.
■ هل تتخوف من أن يكون هذا التحرك الدائر فى فلك «اللجان» مدخلًا لقيد على الإبداع؟
- أى تقييد للإبداع لن يكون فى الصالح.. الإبداع حرية.. وجزء من أزمة الدراما خلال السنوات الأخيرة ارتبط بعملية «التسييس»، التى خضع لها الإنتاج الدرامى فى بعض الأحيان، الدراما حرفة لها قواعدها، وهى عمل لا يعرف الإملاءات.. الكاتب الحقيقى قادر من تلقاء نفسه على التعبير عن قضايا وطنه وهموم وأشواق وأحلام البشر الذين يعيش بينهم.. توجيه الكتاب أو المخرجين إلى موضوعات معينة- بالحديث عن أن هناك من أوصى بها- يؤدى إلى إلقاء فلوس الإنتاج على الأرض، إذ لن يشاهدها إلا من أوصى بها، وسيعزف عنها الجمهور ما دام لا يجد فيها حقيقة ما يعيشه، والعمل على أمواج الترند لن يفيد الإبداع فى شىء، فليس معنى أن فكرة لمعت مع الجمهور فى مسلسل معين «كما حدث فى مسلسلات البلطجية» أن نعيد ونزيد فيها.. نهر الدراما الراكد يتعفن.. النهر المتدفق هو الذى يتجدد.