الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

رمضان فى مدونة السرد المصرى

حرف

يحضر رمضان فى مدونة السرد المصرى عبر صيغ مختلفة، وآليات متعددة، ولم يقتصر َوجود الشهر الكريم على المظاهر المادية والروحية التى تجعل الناس فى بر المحروسة يهفون إليه عامًا بعد عام؛ حيث امتد الحضور الباذخ لرمضان إلى الأدب المصرى، ولطالما حملت النصوص الروائية والقصصية إشارات دالة على روحه وطقوسه الدينية والاجتماعية الساكنة فى قلوب المصريين. 

إن رصد زوايا الفعل الاجتماعى وحركة الواقع المصرى على تنوعه، وتفاعله مع المناسبات المختلفة بوصفها جزءًا من حركة الحياة، وتجلياتها الإنسانية المختلفة بدا جزءًا من البنية السردية لعشرات النصوص التى لا نسعى هنا لاستقصائها، ولكن لتبيان بعضًا من ملامحها، وتأملها.

يؤنسن المصريون رمضان، ولم تخل إبداعات كتابهم من رائحته؛ فحضر رمضان فى ثلاثية نجيب محفوظ، وخاصة فى «بين القصرين»، و«السكرية»، مثلما حضر فى روايته «خان الخليلى». 

كان نجيب محفوظ منشغلًا بالبعد الاجتماعى، برصد المظاهر الحياتية والطقوس؛ حيث نرى حضورًا لاستطلاع الهلال، وتجليات ذلك جميعه فى نفوس شخصياته الروائية، ففى روايته «خان الخليلى» نرى ذلك المقطع السردى الكاشف: «وجاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون.. وعند العشى أضاءت مئذنة الحسين إيذانا بشهود الرؤية ـ وقد اجتزءوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ ـ وازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألاء، فطاف بالحى وما حوله جماعات مهللة هاتفة (صيام صيام كما أمر قاضى الإسلام). فقابلتها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور فى الحى كأنما حمله الهواء السارى».

وفى المبتدأ والختام نرى أيضًا حضورًا بارزًا لرمضان فى «خان الخليلى»، ففى بدايات النص نرى تلك الإشارة الزمنية التى تمثل إطارًا للسرد: «واقترب رمضان فلم يعد يفصل بين هلاله وبين الطلوع سوى أيام قلائل»، وفى نهايات النص نرى ذلك المقطع الدال: «وها هو ذا رمضان مقبل فيا للذكرى!.. أيذكر كيف استقبل رمضان الماضى؟.. أيذكر موقفه من النافذة الأخرى فى انتظار المغرب وكيف رفع البصر فرأى». 

بدا نجيب محفوظ الشغوف بتمثلات الحياة الاجتماعية لدى المصريين، وكان شخوصه البارزون، وفى المتن منهم شخصيته المركزية، أحمد عاكف، الذى بدا واصلًا خطّ المفارقة الأساسى بينه وبين أحمد راشد، حتى فى التعامل مع رمضان. عاكف الذى يكابد العطش والقيظ، والذى يرى فى أحمد راشد شخصًا متحللًا من جميع القيود الدينية والاجتماعية.

تبدو خان الخليلى مشغولة بتباينات الواقع المصرى أثناء الحرب العالمية الثانية، والتمظهرات التى يمكن أن تتجلى فى مجتمع محلّى جدًا جراء حدث كونى، ليتجاور تشرشل وهتلر، مع نوال، ورشدى، والمعلم نونو.

تبدو العلاقة مع شهر رمضان تعبيرًا عن رؤيتين متمايزتين للعالم، الأولى يمثلها أحمد أفندى عاكف، المتمترس حول جانب من قراءات تراثية قديمة. والثانى أحمد راشد الذى يمثّل عنوانًا على المغايرة فى تلك الآونة: «وفى اليوم الأول من الصيام كابد أحمد عاكف تعبًا مرهقًا ، فشق عليه ألا يشرب قهوته، ويدخن سيجارته على الريق، ومضى إلى الوزارة متوجع الرأس متثائبًا، وغالب تعبه مغالبة يائسة حتى دمعت عيناه من التثاؤب واسترخت جفونه. وذكر أن أحمد راشد وأمثاله لا يعانون تعبًا ولا حرمانًا فسره أن يحتقره ويتعالى عليه».

وسنرى شذرات عن الطقس الاحتفالى برمضان فى «المرايا» لنجيب محفوظ أيضًا، حيث الإحالة على ذكريات اللعب الطفولى فى أجواء رمضان:

«وكانت ليالى رمضان فرصة هنية للصغار من الجنسين، يجتمعون فى الشارع بلا اختلاط، ويتراءون على ضوء الفوانيس وهم يلوحون بها فى أيديهم، وكنا نترنم بأناشيد رمضان ونتبادل مشاعر الحب وهو كامن فى براعمه المغلقة. وقنعت عواطفنا الساذجة بتبادل النظرات، وإظهار الرشاقة فى الجرى والغناء، أو المخاطبة بالابتسام فى خفاء». 

وربما كانت نقطة التحول فى رواية «قنديل أم هاشم» ليحيى حقى، لحظة اللقاء الثانى لإسماعيل بنعيمة بعدما منحتها الأيام حاجتها، وفى ليلة القدر يعود إسماعيل إلى السيدة ، متأملًا ما صار، منتقلًا من النفور الشديد إلى الرضا الهادئ، وتصبح غواية المصالحة بين العلم والسماء طريقه الجديد فى تغيير محيطه الاجتماعى الغارق فى الخرافة.

كانت نظرة إسماعيل- على الرغم من تصالحيتها- تتجه لتأمل الواقع الاجتماعى، وكان رمضان حاضرًا أيضًا من زوايا نفسية وتأثيرية تتراوح بين الرفض والقبول، النفور والمصالحة، الثورة العارمة والهدوء المتأمل.

وفى قصة «رمضان» ليوسف إدريس ثمة روح قلقة، ومتمردة، طفولية المنزع، بطلها «فتحى» الذى لم يكن أكثر من طفل يبغى الكمال والبراءة معًا، يريد الالتحاق بأفراد عائلته الأكبر سنًا، ويصبح رجلًا مثلهم، قادرًا على الصوم فى رمضان. ووجبة السحور التى يريد الاستمتاع بها فعلًا ومعنى، ستظل لصيقة بالصائمين، وفتحى ليس أقل من أحد؛ هكذا يفكر ابن العاشرة فى اختراق جدار رمضان الصلد.

لكن منذ متى والأيام تأتى على هوانا، فالعطش قاس والصيف مارد ثقيل، وحينما يختلس لحظات يرتوى فيها مكملًا صيامًا ظاهريًا، تراه أمه ذات مرة ليقرر الجميع مراقبته، ويصبح خوفه مضاعفًا، من رمضان الذى يجلس بعيدًا، مشاهدًا الجميع، الصائمين والمفطرين، والذى يعتقد الصبى بوعيه الساذج بأن رمضان «سيبطحه» فى رأسه لا محالة؛ لتتعزز ثقافة الخوف من القيد الاجتماعى ذاته عبر الضغط العائلى الذى تمارسه الأسرة فى العقاب والمراقبة.

ومن النصوص الجديدة، رأينا رواية «الرجل النملة» للروائى هشام البواردرى التى تلوح فيها مشاهد من الصخب المتوارى خلف اللعب الممكن للأطفال لكرة القدم فى القرية المصرية، وتنظيم الدورات الرمضانية التى صارت جزءًا من طقوس الشهر، وتؤدى على نحو خاص جدًا، بدءًا من الملاعب الترابية التى ليست أكثر من أرض بور فى الحقيقة، وصولًا إلى مغايرتها عن الساحات فى المناطق الشعبية، وقد حملت الرواية إشارات دالة وساخرة فى هذا المسار.

إن معالجات الكتاب على تنويعاتها، ابنة سردية مستقرة، ولربما حمل رمضان تنويعات إنسانية ثرية جدًا، تعيدك إلى حنين خاص للبراءة الأولى.

يبدو رمضان طاقة ملهمة إنسانيًا وإبداعيًا، وحالة روحية خاصة، ومتجددة على الدوام.