الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

التحليل النفسى لزعيم الحشاشين.. هل كان حسن الصباح مريضًا عقليًا؟

كريم عبد العزيز فى
كريم عبد العزيز فى دور حسن الصباح

ورد فى أحد كتب التاريخ التى تتناول سيرة الحسن الصباح، أنه كان مريضًا «بالماليخوليا»، وهو المسمى القديم للكثير من الاضطرابات النفسية والعقلية، وأنه تعرض لما يشبه العلاج النفسى الآن، وتعاطى العقاقير العشبية التى كانت تستخدم كدواء فى علاج الاضطرابات النفسية فى ذلك الزمان. فيُحكى أنه بعد وصوله إلى أصفهان هربًا من مصر، أقام فى بيت أحد أتباع الباطنية، الذى لاحظ على الحسن كثرة حديثه مع نفسه بصوت مسموع، وانعزاله الشديد عن كل ما حوله، وزعمه أنه يرى ما لا يراه الآخرون من جن وملائكة، فظن فيه الجنون، وقرر إعطاءه بعض العقاقير التى كانت تستخدم لعلاج الاضطرابات العقلية، وعندما علم الحسن بذلك، ترك بيته وهرب، ولم ينس هذا الموقف لسنوات طوال، حتى أصبح صاحب قلعة آلموت، وذاع صيته، فأتى بهذا الباطنى، وسأله «من منا مريض بالماليخوليا الآن ؟!»، فسجد الباطنى تحت قدميه خوفًا، مما يؤكد تاريخيًا أن الحسن الصباح كان يعانى فعلًا من مرض عقلى، واضطرابات نفسية حادة. سنحاول هنا أن نقدم تحليلًا نفسيًا عن شخصية «الحسن الصباح» بما توافر من معلومات تاريخية، وكما قدمه مسلسل الحشاشين دراميًا، فالحقيقة أن الحسن يُعد هو النموذج الأهم فى تاريخ الجماعات المتطرفة، الذى أُعيد إنتاجه فى أغلب أمراء الجهاد، وقادة جماعة الإخوان، وغيرهم الكثير، وبالتحليل النفسى لهذا النموذج، نقدم تحليلًا وافيًا لكل من اختاروا خدمة الظلام، من جماعات إرهابية.

نرجسى

الشخص النرجسى هو الشخص الذى لا يرى إلا نفسه، يعبد صورته عن ذاته، ويقدس أفكاره الخاصة، حتى لو أفكار مضللة أو خاطئة، والحسن الصباح تظهر عليه كل أعراض النرجسية بشكل مدهش، فهو مؤمن بأفكاره فقط لا غير، يرفض أى اختلاف أو تعددية، يرى ذاته هو الحق المطلق، لدرجة حولته إلى قاتل محترف، لا يقبل وجود الآخرـ . وأفضل نموذج على ذلك مشهد الحلم فى مسلسل الحشاشين، المقدم بشكل رمزى للغاية، عندما قتل نفسه فى الحلم قائلًا: «مفيش إيمان إلا بالحسن الصباح»، فى هذه اللحظة وقتل داخله كل لحظة شك ممكنة فى قناعاته، وتوحد مع شخصيته النرجسية المعقدة.

ولم يكن قتله لابنه «حسين» إلا تأكيدًا على هذا المعنى، فهو لم يقتله لذنب اقترفه، أو عقابًا له على قتله لأحد كبار الدعاة، كما ورد فى التاريخ والمسلسل، ولكنه قتله حتى لا يرى ذاته مرة أخرى، فهو يرفض أن يواجه ذاته المتمردة مجسدة فى شخصية ابنه، كما ورد عنه تاريخيًا أنه قتل ولده الثانى «الهادى» فى مرحلة لاحقة لتمرده عليه.. فالحسن لا يرى إلا انعكاس صورته فى الحياة، ويرفض أى صورة مختلفة عنه أو متمردة عليه. هذا التكوين النرجسى، قد يمنح صاحبه «كاريزما» خاصة، وحضورًا جيدًا بين الناس لفترة طويلة، فصورة الشخص النرجسى تختلط مع الثقة بالنفس أمام الآخرين، لدرجة يصعب معها الفصل بينهما، فيبدو النرجسى وكأنه واثق من نفسه، قوى الشخصية مما قد يثير إعجاب كل من حوله، خاصة أصحاب النفوس الضعيفة، فاقدى التحقق والثقة بالنفس، فيعتبرونه نموذجًا كاملًا يسعون إلى اتباعه وتقليده، إلى أن تأتى اللحظة المدمرة، التى يدمر فيها النرجسى كل من حوله بدم بارد.

تلك السمات نجدها بشكل واضح فى مختلف قادة ورموز الجماعات المتطرفة، مثل حسن البنا، أو أسامة بن لادن أو أبوبكر البغدادى، وغيرهم الكثير، فجميعهم يعانون من نرجسية تصل إلى حد الضلال.

TOXIC

علاقة دنيا زاد بالحسن الصباح، كما تم طرحه فى مسلسل الحشاشين، تعكس حالة غاية فى التعقيد من العلاقات الإنسانية، وتكاد تكون هى العلاقة الأهم فى المسلسل، من حيث الصراع النفسى، فدنيا زاد، لا تؤمن كما هو واضح بفكر الحسن الصباح الباطنى المتطرف، ولكنها تؤمن بالحسن نفسه، بقدرته على الفعل، مصدقة لطموحه الذى سوف يبتلعها هى شخصيًا مع تطور الأحداث، فهى دائمة الشك فى فكره وعقيدته المنحرفة، لدرجة أنها سألته «هو إنت لما تموت مين هيديك مفتاح الجنة»، تعرف حقيقته بشكل واضح، ولكنها ضحية عشقها له، ونرجسيته شديدة التأثير، ولم تتمكن من مصارحته بتلك الحقيقة إلى درجة محاولة قتله بالسم، إلا بعد قتله لولدها الكبير «الحسين»، ففى هذه اللحظة فقط تحررت من تلك العلاقة السامة، ومن سطوة الحسن وذاتيته.

وكما ورد فى التاريخ فإن زوجة الحسن كانت مقيمة فى قلعة أخرى غير قلعة آلموت، خاصة بعد قتله لولديها الحسين والهادى، فقام بإبعادها عن مكان وجوده، ونفاها عن عالمه الخاص إلى عالم آخر أكثر قسوة، ولم يرها حتى توفى، مما يعكس أن علاقة الحسن بزوجته وأولاده، معتمدة على ذاتيته الشديدة، والاستغلال المبالغ فيه لكل من حوله، و عدم القدرة على العطاء.

 

سيكوباتى

حسب نظرية فرويد عن «الأنا الأعلى» و «الهو» والأنا، فإن ما قام به الحسن الصباح، وغيره من رموز الجماعات المتطرفة، هو تغليب الـ«هو» أو الهوى والرغبة والغريزة على «الأنا الأعلى» أى المثالية والضمير، ولكن بطريقة غاية فى الخطورة، فهم يمارسون تفسيرهم الخاص للدين والقرآن، بما يتسق مع هواهم وذاتيتهم الخاصة، فتتحول تدريجيًا تلك التفسيرات المتعسفة النابعة من الهوى والرغبة، إلى أفكار مطلقة، تسيطر على ضمائرهم، فنجدهم فى النهاية يقتلون بلا رحمة، تحت فكرة الحروب المقدسة، وتحويل الهوى إلى إله يُعبد.

فتاريخ الحسن الصباح وجماعته، الملىء بالكثير من القتل والاغتيالات، كلها تمت بدم بارد، وبدون لحظة شك واحدة، فتتحول تلك الشخصيات إلى شخصيات «سيكوباتية»، تمارس العنف ضد المجتمع بلا ندم، ويتحول بالتدريج إلى شخصية عدوانية، تجد متعتها فى إيذاء العالم من حوله، عدوانية نابعة من خوف دائم وعدم شعور بالأمان، والرغبة الدائمة فى العزلة وعدم الثقة فى كل من حولهم. فكما كان الصباح فى قلعة آلموت، نجد المراكز الرئيسية لأغلب جماعات الموت والإرهاب فى الصحراء أو الجبال أو المناطق النائية، ولهذه الفكرة نماذج كثيرة فى تاريخ الجماعات المتطرفة قديمًا وحديثًا.

الشخصية السيكوباتية، لا يتوقف عنفها على المختلفين معها فقط، بل ينسحب كذلك على من حولها، فهو عنف مجرد من كل إنسانية ممكنة، مثل قتل الحسن لأبنائه، أو تعذيبه مثلًا لتابعه «زيد بن سيحون»، أو قتله لصديقه نظام الملك، كما حدث فى الحشاشين، أو تخويفه لكل من يُظهر له أى اختلاف فى الرأى أو العقيدة، أو حتى إرساله لشباب فى عمر الزهور ليلقوا حتفهم بلا قيمة إلا إرضاء لشخصه المريض، مثل كل العمليات الانتحارية التى تمت فى العصر الحديث، فى مصر وغيرها، ليروح ضحيتها شهداء لا ذنب لهم، سوى إرضاء دموية

هلاوس عظمة

يرصد لنا مسلسل الحشاشين، وتاريخ الصباح، أنه كان يدعى دائمًا قدرته على التواصل مع عالم الغيبيات، وكان يرى ما لا يراه غيره، ويأتيه العلم باطنيًا، فأحيانًا يدعى أنه أوقف العاصفة، كما روى عن نفسه فى بعض ما وصلنا من كتابات تاريخية، وكما ظهر فى المسلسل، وأحيانًا يدعى أنه يعلم فنون السحر، وعلم الأرقام، ويُحكى عنه أنه كان يتحدث مع نفسه ويقول إنه يحدّث الجان والملائكة، كما وضح مسلسل الحشاشين وعلاقته مع جنية الظلام، وأنه المختار الموكل له أمر الرعية بوصاية من الإمام نزار بن المستنصر.

كل تلك السمات وأكثر، لا تخرج فى علم النفس عن كونها أعراض الضلالات النفسية والهلاوس السمعية والبصرية، والتى تعكس مرضا عقليًا حادًا أصاب الحسن الصباح، يصل إلى حد الفصام، ولكن نتيجة لتكوينه النرجسى المعقد، ورغبته الأصيلة فى التميز المرضى، وقدرته على اختيار أتباعه من فاقدى الثقة والموهبة، واللعب على مساحات النقص لديهم، مثلما فعل مع حارسه فى السجن «بزرك أميد»، الذى استغل إحساسه بالنقص والضعف، ورغبته فى الاختلاف، وحوله من حارس فى بلاط السلطان، إلى تابع له، وأقنعه كما أقنع غيره أنه يعلم عنهم ما لا يعلمون عن أنفسهم، فاتبعوه.

فالحسن الصباح كما غيره من قادة التطرف فى التاريخ، تحركه أفكار وسواسية، تسيطر على سلوكه العام، يسعى دائمًا إلى تنفيذها ولو على حساب من حوله، فمريض الوسواس القهرى تسيطر عليه مجموعة من الأفكار حتى وإن كانت لاعقلانية، وتتحول إلى لعنة تطارده، لا تهدأ إلا بتنفيذها، فالحسن تتحكم فيه أفكار توهم العظمة والتميز، وتكون فى غاية الخطورة عندما يتعلق الأمر بالوسواس الدينى أو أفكاره عن الدين بشكل منحرف.

فالحسن الصباح مزيج معقد من الاضطرابات العقلية، مزيج منحه القدرة على نقل مرضه الداخلى إلى الخارج، ليُضل به أتباعه، ويوصلهم إلى الانتحار تحت مسمى الدين، مثل غيره من قادة التطرف، على مدار التاريخ. وقد تمكن مسلسل الحشاشين من رصد تلك السمات النفسية بامتياز، بداية من الكتابة المتقنة والإخراج عالى الجودة، وصولًا إلى الأداء المميز للنجم كريم عبدالعزيز، الذى انتقده البعض أنه تسبب فى ارتباط الناس إيجابًا بالحسن الصباح، بسبب أدائه الهادئ، وحضوره العظيم، رغم أن العكس تمامًا هو ما حدث، فهذا الأداء الهادئ ساعدنا على كشف أسرار الشخصية، وعكس تكوين الشخصية السيكوباتية باحتراف شديد، التى تُظهر هدوءًا يصل إلى حد البرود أحيانًا، وتُبطن صراعات لا تنتهى وعوالم خفية من الظلام، فالأداء الهادئ الظاهر لكريم عبدالعزيز جعلنا ندرك باطن الحسن الصباح.