مانفريد بيتاك.. قصة العالم الإسرائيلى الذى عمل فى مصر 30 سنة بـ«غطاء نمساوى»!
تولى رئاسة البعثة الأثرية النمساوية العاملة فى مصر.. وبذل جهدًا كبيرًا لخدمة الادعاءات اليهودية حول آثار بنى إسرائيل
طالب بإقامة متحف لآثار تخص اليهود فى الشرقية وحصل على تمويل من اتحاد المنظمات الصهيونية
لا نكشف سرًا حين نقول إن إسرائيل، ومنذ عقود، تعمل على اختراق البعثات الأثرية العاملة فى مصر، ضمن خطة محكمة للوصول إلى أى أثر أو دليل يثبت ادعاءاتها الكثيرة حول التاريخ المصرى.
وهذا الاختراق يحدث بشكل غير مباشر، فلا توجد مثلًا بعثة أثرية إسرائيلية تعمل فى مصر، أو حتى بعثة تحمل جنسية بلد آخر لكن قوامها من خبراء الآثار الإسرائيليين، وما يجرى على الأرض أن كثيرًا من البعثات الأثرية تضم بين أعضائها يهودًا يحملون جنسيات أخرى غير الجنسية الإسرائيلية.
وبهذه الطريقة لا يمكن الامتناع عن منحها تصريحًا بالحفر والتنقيب، فليس هناك أى رابط «على الورق» بين هؤلا اليهود وإسرائيل.. لكن أجهزة الأمن ذات الصلة بالملف تبذل جهودًا مكثقة لحصار هذا الاختراق، ولذلك فإن الموافقة على عمل أى بعثة يستغرق وقتًا طويلًا، حتى يتم إجراء التحريات اللازمة حول خلفيات أعضائها، وهو أمر يعرفه كل المرتبطين بملف عمل البعثات الأثرية فى مصر، حتى إن كثيرًا من هذه البعثات يشكو طول المدة اللازمة للحصول على تصريح بالعمل.
لكن هناك من استطاع أن يخفى هويته الحقيقية لسنوات طويلة قاربت الأربعين عامًا قبل أن يفاجئ كثيرين بالكشف عن انتمائه الحقيقى.
البداية من «تل الضبعة»
اسمه مانفريد بيتاك.. والأوراق الرسمية تقول إنه نمساوى الجنسية، يهودى الديانة، ويعمل «أستاذًا فخريًا لعلم المصريات» فى جامعة فيينا، ولسنوات طويلة، تولى رئاسة البعثة الأثرية النمساوية العاملة فى مصر، خصوصًا فى «تل الضبعة» التابعة لمركز فاقوس بالشرقية.
أما لماذا «تل الضبعة» على وجه التحديد؟.. فهذا لأن هناك اعتقادًا بين اليهود بأن القصر الذى تربى فيه النبى موسى، عليه السلام، موجود فى القرية، وأنها شهدت مولده وطوافه فى طفولته داخل تابوت فى نهر النيل بعد أن ألقت به والدته خوفًا من أن يقتله فرعون مصر، حسب الرواية الدينية المعروفة.
وأيضًا يعتقدون أن خروج اليهود مع موسى كان منها، ومن هنا تسعى وفود يهودية لزيارتها سنويًا باعتبارها مكانًا أثريًا شهد خروج أجدادهم هروبًا من فرعون.
ومعروف أثريًا أن هناك قرى فى محافظة الشرقية مقامة بالكامل على قرى فرعونية قديمة، ومنها: قنتير والخناعنة وتل الضبعة ورشدى والحسينية.
وفى بداية الألفينات كان قد تفجّر جدل كبير عن مساعٍ يهودية لإقامة «مولد» فى الشرقية على غرار «مولد أبوحصيرة» فى البحيرة، فقد تقدم أهالى قرية «قنتير» بمحافظة الشرقية، آنذاك، بشكوى من زيارات اليهود المتكررة للقرية لمشاهدة آثار رمسيس الثانى وبحر فرعون الذى يعتقد أن سيدنا موسى قد ألقى فيه.
وقرية «قنتير» كان اسمها «برامسيوم» أو «بيت رمسيس»، وقد أنشئت لتكون مقرًا للحكم فى شرق الدلتا، وحتى تنطلق منها الجيوش المصرية المتجهة للشرق وفلسطين عبر سيناء.
وفى شكواهم قال الأهالى إن «اليهود يزورون قريتهم عبر سيناء والإسماعيلية ويعودون مرة أخرى ويأخذون معهم قطعًا من الحجارة لاعتقادهم أن سيدنا موسى، عليه السلام، قد تربى فى قصر رمسيس الثانى الموجود بالقرية، وأُلقى فى اليم وهو داخل التابوت، وهذا اليم هو ما يطلق عليه (بحر فرعون)»، الذى يستخدمه الأهالى الآن فى الصرف الزراعى.
هذا عن «تل الضبعة» نفسها.. فما الذى فعله مانفريد بيتاك؟
البحث عن تاريخ مزيف
على مدار سنوات بذل الرجل جهودًا كبيرة للبحث عن «تاريخ مزيف» يخدم الادعاءات اليهودية بوجود أثر لـ«بنى إسرائيل» فى المنطقة، بل تجاوز الحد بحديثه عن إقامة متحف لآثار ادّعى أنها تخص اليهود فى تل الضبعة.
وفى عام ٢٠٣٣ أشعل «مانفريد» النار فى مصر والعالم بعد العثور على كشف أثرى عبارة عن تخطيط معمارى لمنزل مكون من ٤ حجرات، عثر عليه فى مدينة «هابو» فى البر الغربى للأقصر، وعثر على شبيه لها فى منازل أثرية مكتشفة حديثًا بفلسطين تعود للعبرانيين.
فقد أثار هذا الكشف جدلًا واسعًا بين علماء آثار كنديين ونمساويين ومصريين حول التخطيط العمرانى لمنازل بنى إسرائيل، وكان مانفريد بيتاك، الذى كان يشغل مدير معهد الآثار المصرية فى العاصمة فيينا آنذاك، أول من لفت الانتباه إلى وجود تشابه فى تفاصيل منازل بنى إسرائيل والمنزل المكتشف فى مدينة «هابو» بصعيد مصر، وجاءت نتائج البحث الأثرى النمساوى تحت عنوان «العثور على الإسرائيليين فى مصر» لتلقى مزيدًا من الزيت على النار حول قصة وجود اليهود فى مصر، وخروجهم فى عهد النبى موسى، عليه السلام، طبقًا للقصص القرآنية والتوراتية.
لكن كان يتم التعامل مع «مانفريد» وما يقوله بحسن نية، للأسف، وفى أسوأ الأحوال أنه شخص يهودى يشعر بحنين لأجداده، لكن ما جرى بعد سنوات من العمل أنه بدأت الحقيقة تظهر على السطح.
ونتوقف هنا أمام شهادة سابقة كان قد أدلى بها د. نورالدين عبدالصمد، المسئول السابق بوزارة الآثار، حول هذه القضية، ويعود تاريخها إلى عام ٢٠١١، حيث يقول:
«لقد شكّل الكيان الصهيونى بعثته للتنقيب عن الآثار برئاسة عالم آثار نمساوى يهودى يدعى مانفريد بيتاك.. وعندما بدأت الحفائر طالب العديد من علماء الآثار الشرفاء، الأمن القومى بإخراج هذا الرجل من مصر، لأن أبحاثه كلها تزوير للتاريخ وتدليس.. وكان هذا الرجل يعمل فى مصر منذ ٣٠ سنة.. ولكن فى السنوات الأخيرة بدأت كتبه تصدر من إسرائيل لتوزع فى جميع أنحاء العالم.. وقد قمت بشراء بعضها من كندا ووجدته يخلط أبحاثه (المزعوم أنها علمية آثارية) ببعض الإصحاحات من التوراة، خصوصًا سفرى التكوين والخروج، التى تحاول أن تثبت أن الهكسوس كانوا يهودًا... ومن المعروف أن بعثته تحصل على التمويل من اتحاد المنظمات الصهيونية»!
تقرير عبرى يكشف السر
برغم كل ذلك فقد ظل الحديث عن مانفريد بيتاك يدور بين مؤيد ومعارض، فهناك من يهاجمون ما يقوم به، وآخرون يدافعون عنه باعتباره عالم آثار كبيرًا، قبل أن تنكشف الحقيقة مؤخرًا.. حينما خرج مانفريد بيتاك ليعرّف نفسه على أنه «بروفيسور إسرائيلى» وليس عالمًا نمساويًا، كما كان يفعل طوال تاريخه!
ففى تقرير نُشر مؤخرًا على موقع hidabroot، وهو موقع إخبارى إسرائيلى متخصص فى الثقاقة والتاريخ، تحدث الموقع- وننقل هنا بالنص- أن «البروفيسور الإسرائيلى مانفريد بيتاك يقوم بالبحث فى مدينة أفاريس، عاصمة الهكسوس منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد، منذ سنوات عديدة، ونحن نعرف بظهور اسم النبى يعقوب على أختام هذه الفترة التى تتوافق مع زمن يعقوب فى مصر، لكن من الصعب للغاية الحصول على مزيد من المعلومات، بسبب أن المصريين يقيدون أعمال التنقيب بشدة من جانب أى بعثة آثار إسرائيلية، حتى إنهم يطالبون بتغطية كل مكان يتم حفره».
واتخذ الهكسوس من مدينة أفاريس، فى محافظة الشرقية الحالية، عاصمة لهم بعد أن غزوا مصر وأسسوا ما يعرف بعصر الانتقال الثانى «نحو ١٧٨٦-١٥٦٧ قبل الميلاد» الذى استمر حتى تمكن المصريون بقيادة أحمس من طردهم وتأسيس ما يعرف بعصر الإمبراطورية «نحو ١٥٦٧-١٠٨٥ قبل الميلاد».
الموقع العبرى قال إن «هناك عددًا كبيرًا من البرديات المصرية القديمة الشهيرة التى يحتاجها الباحثون المعاصرون الإسرائيليون للتحقيق فيها، حيث إنهم فى حاجة إليها للمقارنة بينها وبين ما هو موجود بالكتاب المقدس، لكن المصريين يرفضون ذلك بشدة ولا يسمحون لأى باحث إسرائيلى بالوصول إلى تلك البرديات خشية أن تؤدى أبحاثهم إلى تقوية (الصهيونية)».
وزعم الموقع العبرى أنه «فى العاصمة أفاريس، وجد البروفيسور بيتاك مقابر جماعية، مثل تلك التى تم إنشاؤها بعد الأوبئة، حيث يتم دفن كميات كبيرة ولكن من الذكور فقط، وفى رأيه يمكن أن تكون هذه المقابر نتيجة لطاعون، ومن الواضح أنها صنعت على عجل، وتحت ضغط شديد، ووضعت الجثث فى حالة من الفوضى، وبسبب عدم التخطيط والظروف المناسبة لم يتمكن من اختبار فرضياته، بسبب الصعوبات الكبيرة التى كانت تنهال عليها».
وفى نهاية تقريره، يذكر الموقع أن «السعى سيظل مستمرًا لمحاولة الحصول على قصاصات من المعلومات عن أسلافنا اليهود فى مصر قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، لكن لا ينبغى أن نتوقع أن يتقدم بسرعة»!.
نحن إذن أمام قضية مهمة تستوجب معها إعادة فتح ملف البعثات الأثرية العاملة فى مصر والتدقيق أكثر فى خلفيات العاملين بها، فلا نبالغ إذا قلنا إن تاريخنا معرض لاستهداف متعدد الاتجاهات.