فى ذكرى ميلاد العبقرى المدلل
مريض نوبل .. هل يستحق يوسف إدريس كل هذا التقدير؟
- فى أول ظهور لنجيب فى مبنى الأهرام بعد ساعات من إعلان فوزه بجائزة نوبل كان إدريس موجودًا فى مكتبه ولم يستطع أن يسيطر على أعصابه وقرر أن يعتدى على محفوظ الذى خطف منه الجائزة وإحسان عبدالقدوس هو الذى منعه
- يوسف إدريس: رُشحت للجائزة قبل نجيب محفوظ خمس مرات وكانوا يستبعدوننى فى آخر لحظة لمواقفى السياسية
- يوسف إدريس عن جائزة نوبل: لو كنت نلتها لاستغللت منبرها العالى للحديث عن القضية العربية الفلسطينية ولهذا فلم آخذها ولن آخذها وبما أن للأستاذ نجيب محفوظ رأيًا فى هذا الصراع أنا غير موافق عليه فأنا غير موافق على الجائزة سياسيًا
- لقد أفسد التدليل يوسف إدريس إلى الدرجة التى تجعلنى أطالب النقاد بإعادة تقييم ما أنتجه.. أعتقد أننا فى حاجة إلى عملية فرز إنتاج يوسف إدريس الأدبى لنعرف الذهب منه والفالصو لديه جواهر أدبية ولديه أيضًا أعمال لا ترقى حتى للقراءة
- سألوا نجيب: هل يستحق يوسف إدريس نوبل؟ فأجاب: إبداعه لا يؤهله لها
لا أعرف على وجه اليقين ما الذى جرى لى فى هذه الليلة.
خرجت من مدرستى الثانوية متجهًا إلى بيت الثقافة، قابلت الأستاذ رياض أمين المكتبة الذى وجدته يضع فى يدى مجموعة يوسف إدريس القصصية «بيت من لحم» وهو يقول: لن تكون بعد أن تقرأها كما كنت قبلها أبدًا.
ومن مفتتح القصة التى أخذت المجموعة اسمها:
«الخاتم بجوار المصباح، الصمت يحل فتعمى الآذان، فى الصمت يتسلل الأصبع، يضع الخاتم فى صمت أيضًا، يطفئ المصباح، والظلام يعم، فى الظلام أيضًا تعمى العيون، الأرملة وبناتها الثلاث، والبيت حجرة، والبداية صمت».
إلى نقطة النهاية:
«الأرملة وبناتها الثلاث، والبيت حجرة، والصمت الجديد، والمقرئ الكفيف الذى جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته فى الفراش على الدوام هى زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ، تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها، بل هو شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين، إذ هم القادرون على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك، شكًا لا يمكن أن يصبح يقينًا إلا بنعمة البصر، وما دام محرومًا منه فسيظل محرومًا من اليقين، إذ هو الأعمى، وليس على الأعمى حرج... أم على الأعمى حرج؟».
شهقت مما قرأت... اعترفت للأستاذ رياض أن «بيت من لحم» بالفعل قادرة على تغييرك بمجرد أن تقرأها، ربما لم يكن واضحًا أمامى ما الذى تغير داخلى لحظتها، لكننى شعرت بطوفان يجتاحنى، ولأول مرة أعرف معنى أن تكون هناك كتابة مخيفة.
حملت يوسف إدريس ووضعته فى مكانة خاصة عندى لا يدانيه فيها أحد.
جذبتنى أفكاره البراقة المشتعلة، اعتقدت أنه ملك الفكرة فى أدبنا العربى، لا يمكن أن يأتى أحد بما يأتى به.
لكن تكسرت هذه الصورة عندما وجدت نجيب محفوظ بين يدى.
بعد شهور قليلة كنت أعيش بين فصول «الحرافيش»، فأيقنت أننى أمام العالم الواسع الذى لا تلمع فيه الفكرة فقط، ولكن يمكنك أن تستمتع أيضًا بالبناء والشخصيات والحوار.
حاصرنى نجيب بعد ذلك.
قرأت «أولاد حارتنا» و«الطريق» و«رحلة ابن فطومة» و«السراب» و«اللص والكلاب»... فقررت أن أضع نجيب محفوظ خارج التصنيف... لا أساويه بأحد ولا أساوى به أحدًا، حتى لا أكون ظالمًا لا له ولا لغيره.
بعد سنوات تأكدت أننى كنت على صواب.
فى حواره مع جريدة «الدستور» فى أغسطس ٢٠٢٢ أشار الأديب الكبير محمد المخزنجى- كان قريبًا ومقربًا من إدريس- إلى أن يوسف عندما قرأ «الحرافيش» قال: عملها نجيب محفوظ، أى أنه أتى بما لم يأتِ به أحد.
وبعد سنوات طويلة استطعت أن أميز بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس على خريطتى الأدبية.
نجيب واحد من آلهة الإبداع.
ويوسف واحد من شياطينه.
الآلهة تبنى فى هدوء ودون صخب، تضع للعالم قواعده، لا تتعجل النتائج، ولا تنظر إلى كلمات الشكر والثناء والتقدير.
الشياطين يثيرون الفوضى فى كل مكان، لا يمكن أن ننكر عليهم عبقرية أفكارهم، لكنهم لا يهتمون ببناء العالم ولا بقواعده، يشغلهم مجدهم، ما يستطيعون تحقيقه، ويا ويل العالم إن لم يعترف لهم بما يعتقدون أنهم يستحقونه.
من زاوية الرؤية هذه تحديدًا قرأت غضب يوسف إدريس من فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى العام ١٩٨٨.
لقد حاول كثيرون تخفيف حدة ما حدث، ربما نزولًا على حالة نفاق ثقافى وأدبى نعيشها طول الوقت، أو لنكن أكثر تأدبًا فنقول إن ما جرى كان نزولًا على فلسفة المواءمة التى يعيش بها المثقفون المصريون، فهم لا يميلون إلى الوضوح، وهو ما أضاع علينا توثيق مساحة ثقافية كاشفة جدًا.
لا أسعى هنا لإدانة يوسف إدريس بشىء، ولكنها محاولة لفهم ما جرى، ونحن نعيش أجواء ذكرى ميلاده السابع والتسعين.
يوسف من مواليد ١٩ مايو ١٩٢٧.
من بين العلاقات الجديرة بالتأمل فى حياته علاقته بالأديب الكبير محمد المخزنجى.
فى حواره مع جريدة أخبار الأدب فى ١٠ يناير ١٩٩٩، يقول المخزنجى عن قيمة يوسف: الكاتب العظيم لا تتجلى عظمته فى أن تكتب مثله، أو أن يصنع كتابًا على شاكلته، ولكن أن يفتح أقفاص ذات الكُتاب الآخرين ليطلقوا عصافيرهم فى الأجواء لتذهب حيثما تريد هى، وهذا سر عظمة يوسف إدريس، هو بطل تحرير أدبى، وإذا كانت هناك ثورات فى تاريخ الأدب القصصى العربى، فهناك ثورة أحدثها إدريس ليس فقط فى إرساء شكل من أشكال الكتابة يتبعه الآخرون، ولكن بتوجيههم إلى قيمة الحرية فى اختيار صوت الذات الملائمة لكى يغنى كل منهم أغنيته التى تصنع فى النهاية الموسيقى الكونية.
شهادة المخزنجى عن غضب يوسف إدريس بسبب حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل مهمة إذن، فهو من القلائل الذين يتحدثون عما يعرفون، ولأنه اقترب من يوسف فمؤكد أنه عرف.
فى حواره مع «الدستور» فى أغسطس ٢٠٢٢ يقول المخزنجى:
«كنت فى الاتحاد السوفيتى عندما أشعل البعض هذه الفتنة، وعدت بعد شهور من حدوثها وفى اليوم الثانى حادثت يوسف إدريس، فقال: تعال فورًا».
ذهب المخزنجى إلى يوسف فى بيته بـ«١٠٠ شارع النيل عمارة الهلالية»، وسمع منه، وكان قد سمع من العديد عن بعض ما حدث وبدا كأنها معركة بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس.
يضيف المخزنجى: من خلاصة ما جمعته أن يوسف إدريس لم يشعل هذه المعركة كما لم يؤججها نجيب محفوظ، بل افتعلها كذابو كل زفة، فثمة من اختطف تعليقًا ليوسف إدريس عن أن الجائزة مُسيسة، وطار بها يشعل حريق أن يوسف إدريس قال إن الجائزة ذهبت إلى نجيب محفوظ لموقفه السياسى الممالئ لإسرائيل.
ويجزم المخزنجى: يوسف لم يقل هذا أبدًا، قال إن الجائزة مُسيسة، ولا أحد فى العالم ينكر أن هذه الجائزة وغيرها لا تخلو من التسييس.
ويكشف المخزنجى عما اعتبره أمرًا مهمًا للغاية، فيوسف كان ينتظر نوبل انتظارًا خاصًا، يقول: «كأى فنان كبير لم يستطع أن يخفى انتظاره لجائزة كان يستحقها بكل تأكيد ولأسباب بسيطة وإنسانية للغاية، أن تمنحه حصانة ولو معنوية عالمية يقول بها ما لم يستطع ويتوق لقوله، وحفنة نقود ليد شرقاوى حاتمى الكرم لحد لا يصدقه من لا يعرفه».
حديث المخزنجى الذى صاغه بعد كل هذه السنوات ليس إلا حديث محب، عينه عن كل عيب كليلة، ولذلك لا يمكننى أن أعول على ما يقوله، فقط سأتوقف معه عند ما كشفه من أن يوسف كان بالفعل ينتظر الجائزة، ويعتقد أنه الأحق بها، وهو ما يفسر أنه غضب ليس من لجنة الجائزة كما قال، ولكن من نجيب محفوظ.
وهنا يمكننا أن نعود مرة أخرى إلى أرض الأحداث الساخنة.
فى ١٣ أكتوبر ١٩٨٨ تم الإعلان رسميًا عن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الآداب.
يعتقد البعض أن أول اعتراض من يوسف إدريس على فوز نجيب بالجائزة كان بتصريحه الذى أدلى به لجريدة «الوفد» فى ٢٠ أكتوبر ١٩٨٨، أى بعد سبعة أيام فقط من الإعلان الرسمى عن الفوز العربى الأول بالجائزة.
الحقيقة أن يوسف أعلن عن غضبه الشديد مما جرى بعد ساعات قليلة من معرفته بخبر فوز نجيب بالجائزة، وهنا أعتمد على ما قالته زوجته السيدة رجاء.
كشفت رجاء عن أن الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس منع يوسف من ارتكاب حماقة كان من الممكن أن تتحول إلى فضيحة دولية، ففى أول ظهور لنجيب فى مبنى جريدة الأهرام بعد ساعات من إعلان فوزه بجائزة نوبل، كان إدريس موجودًا فى مكتبه، ولم يستطع أن يسيطر على أعصابه وقرر أن يعتدى على محفوظ، الذى خطف منه الجائزة حسبما اعتقد، فأسرعت سكرتيرة إحسان لتنبهه إلى ما يمكن أن يرتكبه إدريس بعد دقائق، عندما يدخل محفوظ مكتبه بالدور السادس بالجريدة، فسارع إحسان ليلحق بيوسف ونجح فى تهدئته وتهيئته لاستقبال نجيب، وعندما سكت عن يوسف الغضب رفع سماعة التليفون واتصل بنجيب مهنئًا إياه بالجائزة.
هذه شهادة لا يمكن لأحد أن يطعن فيها، خاصة إذا كان هناك من يدعمها، ليس بالتفصيل ولكن بالإشارة إلى تواجد يوسف ونجيب فى مكان واحد - مؤسسة الأهرام - بعد ساعات من إعلان فوز محفوظ بنوبل.
فى مقاله «نوبل بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس» والمنشور فى جريدة الأهرام ١٩ نوفمبر ٢٠٢١ يقول فاروق جويدة: فوجئت بالصديق الراحل سلامة أحمد سلامة مدير التحرير يطلبنى ويقول: نجيب محفوظ حصل على جائزة نوبل ووكالات الأنباء أذاعت الخبر الآن، وكنت يومها مشرفًا على الأقسام الثقافية بالأهرام، وقلت له: نحن أمام حدث عالمى كبير وأقترح أن نفتح مكتب توفيق الحكيم وكان مغلقًا بعد رحيله لكى يستقبل فيه نجيب محفوظ زواره العرب والأجانب، واقترحت أن يرافق الزميل الكاتب فتحى العشرى نجيب محفوظ فى لقاءاته خاصة مع الضيوف الأجانب، وشهد الأهرام يومها حدثًا فريدًا وتوافدت الصحافة العالمية تحتفى بأول كاتب عربى يحصل على أكبر جائزة عالمية.
صاحب «أرخص ليالى»: نجيب محفوظ حصل على جائزة نوبل بفضل مهادنته لليهود وعدم انتقادهم
كان يوسف ونجيب فى المكان ذاته بعد ساعات من إعلان الخبر، وهو ما يجعلنى أصدق أن يوسف كان ينتوى بالفعل ضرب نجيب محفوظ، فالأمر ليس بعيدًا عن تصرفاته ولا سلوكه، ولولا تدخل إحسان عبدالقدوس كما قالت زوجة إدريس لكنا أمام فضيحة عالمية مدوية.
فى تصريحه بجريدة «الوفد» قال يوسف إدريس: إننى رُشحت للجائزة قبل نجيب محفوظ خمس مرات، وكانوا يستبعدوننى فى آخر لحظة لمواقفى السياسية، أما محفوظ فقد حصل عليها بفضل مهادنته لليهود وعدم انتقادهم، أما حكاية أن نجيب محفوظ قد فتح الباب أمام الأدباء العرب، فالعكس هو الصحيح لأنهم لن يمنحوها لأديب عربى آخر قبل ثلاثين عامًا على الأقل، وأؤكد أن نجيب محفوظ قد حصل على الجائزة قبل ترجمة أعماله خصوصًا أن زقاق المدق هى الرواية الوحيدة المترجمة له إلى السويدية.
تصريح يوسف هنا يهدم أى محاولة للدفاع عنه، فهو لا يهاجم الجائزة فقط ولكن يهاجم محفوظ، لا يبنى على أنه حصل على الجائزة لأسباب سياسية فقط، ولكن يغمز ويلمز فى أن رواياته لم تترجم إلى أى لغة أخرى باستثناء «زقاق المدق» الرواية الوحيدة المترجمة إلى السويدية.
ثم إن قوة التصريح واكتماله تكذب ما فعله يوسف بعد ذلك عندما أرسل رسالة إلى نقيب الصحفيين نشرتها جريدة الأهرام فى ٣ مارس ١٩٨٩، قال فيها إن هناك محاولة لتشويهه أمام الرأى العام، وأنه لم يدلِ بأى تصريح حول نوبل أو نجيب محفوظ.
لم أندهش بالطبع عندما قرأت هذه الرسالة، فمؤكد أن يوسف كان يتحدث بجدية وصدق، ففى عصبيته لم يكن يعرف ما الذى يقوله على وجه التحديد، أو أنه كان يريد أن يكذب الكذبة ويعتقد أنها ستدخل على الناس، وهذا هو الأقرب لى، ولأن محمد المخزنجى كان يصدق يوسف فى كل ما يقوله فقد ذهب إلى أن هناك من صنع هذه الضجة وأن يوسف لم يفعلها رغم أنه صاحب التصريح الواضح والصريح والذى لا يقبل التأويل.
بعد هذه الرسالة بما يقرب من ثلاثة شهور فقط وفى ٤ يونيو ١٩٨٩ كان الكاتب الكبير الراحل محمود فوزى يحاور يوسف إدريس على صفحات مجلة أكتوبر.
سأل محمود: هل يصح أن تقول إن نوبل لنجيب محفوظ هى جائزة كامب ديفيد الثقافية، وإن الجائزة منحت لمحفوظ مكافأة له على استقباله أدباء إسرائيليين؟
لم يستنكر يوسف السؤال، لم يقل إنه لم يقل ذلك، لكنه أجاب بما يؤكد أنه قال.
يقول يوسف: والله مسألة استقبال نجيب محفوظ لكتاب إسرائيليين معروفة، لأنه كان يقابلهم فى الأهرام، بينما نحن كنا نرفض أن نقابلهم.
ويعود محمود فوزى فيسأل: ألم تقابل كاتبًا إسرائيليًا؟
فيجيب يوسف: إطلاقًا، ليس هناك إلا واحد فقط جاء على أنه مراسل الهيرالدرتربيون واتضح أنه إسرائيلى الجنسية، وقد نشر كلامًا سخيفًا عن نجيب محفوظ بعد تشبيهه بالموظف ومدح فى كثيرًا، رغم أنى الوحيد الذى رفضت أن أقابله وقابلنى فى الأسانسير، هو كتب عن شكلى فلم يكن حديثًا معى.
أعتقد أن من يريدون تبرئة يوسف من تهمة الإساءة إلى نجيب محفوظ وقعوا أسرى لما كان يقوله ولما سبق وكتبه فى مقاله «أما حكاية نوبل»، وهو المقال الذى نشرته جريدة الأهرام فى ٢١ نوفمبر ١٩٨٨.
وأعتقد أنه من المهم أن نستعرض هذا المقال كاملًا، لأنه وثيقة مهمة فى هذه المعركة:
يقول يوسف: «هناك كلمة أخرى لا بد أن أقولها، فقد ملأت حلقى بالمرارة والإحساس أنه حتى الحركة الثقافية حركة قطيعية، بل قطيعية بغير كبش يقودها إلى مسار سوى، هجوم على فلان كلنا نهاجم، مدح لفلان كلنا نمدح، من يشذ أو يقول رأيًا مخالفًا لا بد أنه مارق أو مجنون أو أحمق، إننا نريد من أول وأصغر صحفى إلى أكبر كاتب أن يكون لنا جميعًا نفس الرأى والموقف، وألا نخرج عن هذا الإجماع القومى».
«وأنا أفهم أن الإجماع القومى يكون على مقاومة مستعمر أو القيام بثورة أو عمل كبير خطير لا بد من اشتراك الجميع دون جدال فى المساهمة فيه، ولكن أن تكون هناك قضية أدبية أو علمية ويكون لمعظمنا أو حتى لكلنا رأى فيها، ثم يقول أحدنا رأيًا مخالفًا فينهال عليه الغوغاء الصغار بالطوب والحجارة واللعنات، لأنه فى رأيهم شذ أو لم يسر مع القطيع فتلك الطامة الكبرى، إذ الحركة الثقافية بالذات توصف بأنها حركة ثقافية، لأنها خلافًا للحركات السياسية والحزبية هى المكان الصحيح لاختلاف الآراء أو تضادها، إذ الهدف فى النهاية ليس هو الإجماع على رأى، وإنما الوصول إلى الحقيقة، وكل مثقف يرى الحقيقة من زاويته الخاصة، ولهذا فنحن نسميه مثقفًا من أجل هذه الخاصية، والوصول إلى الحقيقة يستلزم بالضرورة تعدد الآراء».
«وسأقول لكم القصة التى تحملت مرارتها طوال الأسابيع الماضية، حتى وأنا مسافر إلى تونس والمغرب، القصة أنى كنت ربما أول من سمع بحصول الأستاذ الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل إذ كنت أستمع إلى نشرة أخبار راديو إسرائيل التى تجىء فى الواحدة والنصف، وفى الحال أصبت بفرحة الذهول ومددت يدى إلى قرص التليفون فوجدته مشغولًا وظللت أحاول حتى رد رقم نجيب محفوظ وهنأته بالجائزة».
«وكان الرجل كريمًا فأرسل لى برقية «لا أريد أن أنشر كالتافهين صورتها الزنكوغرافية» يشكرنى فيها على أنى كنت أول من هنأه تليفونيًا، إذ كانت ابنته أو السيدة زوجته لا أدرى هى التى ردت على، ولكنى بعد أن أغلقت السماعة أحسست أو بالأصح خفت على الأستاذ نجيب محفوظ من نوبل وإغراءاتها لأنى خائف ولا أزال على الحركة الثقافية العربية من الرمال الناعمة التى يسحبنا إليها اللوبى الصهيونى المسيطر على الحركة الثقافية فى العالم».
«ولهذا حين اتصل بى الشاب محرر الوفد قلت له هذا المعنى، قلت له إنه ليس بينى وبين الأستاذ نجيب محفوظ إلا كل ود، فهو الوحيد الباقى من مجلسنا فى حجرة أستاذنا توفيق الحكيم، والعلاقة بيننا لم تشبها شائبة، ولكنى خائف عليه، لأن لجنة جائزة نوبل تغازلنى وتغازل كل كتاب وشعراء العرب الكبار، وكنت ولا أزال مرشحًا لها، ولو كنت نلتها لاستغللت منبرها العالى للحديث عن القضية العربية الفلسطينية والصراع الرهيب الذى يخوضه الشعب العربى، ولهذا فلم آخذها ولن آخذها، وبما أن للأستاذ نجيب محفوظ رأيًا فى هذا الصراع أنا غير موافق عليه، فأنا غير موافق على الجائزة سياسيًا، ولكنى أكن كل الود والتقدير والاحترام لنجيب محفوظ، ومتأكد أنهم لن يستعملوه مخلب قط للنفاذ إلى حركتنا الثقافية القومية، أنا ضد الجائزة سياسيًا ولكنى مع نجيب محفوظ الكاتب الوطنى الكبير».
أنا لا أكتب لنيل الجوائز فقد رفضت جائزة حوار واعتذرت عن عدم قبول جائزة صدام مناصفة
«هكذا قلت، وهذا هو رأيى إلى الآن، ولكننا حولنا نيل الجائزة إلى فرح قومى، وكأننا نلنا اعتراف العالم بنا، فى حين أننا نحن أصل العالم، بل إنى قرأت لأحد الأساتذة الكبار أن اللغة العربية قد طالت قامتها إلى أن أصبحت عالمية بجائزة نوبل، وكأن اللغة العربية ليست أقدم وأعظم لغة نزل بها القرآن الكريم من ألف وأربعمائة عام، وكانت لغة الحضارة فى أوروبا المسيحية نفسها، وكأن نجيب محفوظ ولد بجائزة نوبل، والأدب العربى وجد بجائزة نوبل، وكأننا كنا لا شىء وأصبحنا كل شىء، لأن سى «نوبل» أعطى كاتبًا كبيرًا من كتابنا جائزته».
ولم يكتف الأمر بهذه اللوثة المجنونة الغوغائية، ولكن انقلب الأمر على، وخرجت صراصير وفئران وتلاميذ كتابة حتى لو نزلت أسماؤهم بأكبر الأبناط ينهالون على لومًا وتقريعًا ويقولون إنى غيران، وأنى كذا وكذا، وإنى كنت الوحيد الرافض».
أنا يا سادة لا أغير من جائزة نوبل ولكنى أغير فقط حين أجد أحدًا آخر قد سبقنى فى إبداعه
«أنا يا سادة لا أغير من جائزة نوبل، ولكنى أغير فقط حين أجد أحدًا آخر قد سبقنى فى إبداعه، ووضعنى فى الدرجة الثانية وهذا لم يحدث إلى الآن، فأنا لا أكتب لنيل الجوائز، فقد رفضت جائزة حوار واعتذرت عن عدم قبول جائزة صدام مناصفة، ولم أتقدم ولن أتقدم لجائزة الدولة سواء التشجيعية أو التقديرية، وإذا أعطوها لى سأرفضها وشكرًا لجامعة الزقازيق لترشيحها لى، وشكرًا لكلمات الصديق محمود السعدنى ورجاءات جمال الغيطانى، ولكنى أرجوهم سحب الترشيح، لأنه بعد أن نال فلان وعلان جوائز الدولة التقديرية ستصبح بالنسبة لى جائزة تكديرية لا داعى لها».
«وحتى لو كنت قد قلت رأيى وكان عكس ما يعتقد معظم الناس، فهل هى جريمة أن يقول رجل رأيه وسط آلاف الغوغاء، أم أن الجريمة الكبرى أن ننسب نجاح نجيب محفوظ إلى جهد قومى وكفاح قومى، لقد فاز محفوظ بالجائزة لأنه أكثر الكتاب دأبًا فى العالم على الكتابة والإنتاج الذى أفرزه وهو ثمرة جهده وحده، والجائزة – مع رأيى فيها – له وحده، وكان واجبًا أن نقابل الأمر بكثير من الرزانة وكثير من الاحترام والتقدير لأنفسنا، والتكريم لدأب الرجل وليس لمدح جائزة نوبل، لأنها اعترفت بنا وغفرت جميع سيئاتها وسوءاتها».
«لقد كان رأينا جميعًا فى نوبل حين فاز بها فى العام الماضى شاعر يهودى روسى نكرة رأيًا مضادًا رهيبًا، كان رأينا أنها عنصرية نجسة، ولكن وفى عام ١٩٨٨ أصبحت هى أعظم وأروع شىء حدث لنا وفى حياتنا وأنظف جائزة فى العالم لمجرد أن الذى نالها هذا العام كاتب مصرى».
«ياللمهزلة... إن جائزة نوبل هى هى بكل فحواها العنصرية والسياسية، ولم ولن يغير منها ومن طبيعتها وطبيعة اتجاهاتها أن ينالها كاتب عربى أو كاتب مصرى، ولكنى – بعد أن استمعت لخطبة الرئيس مبارك – أرجو أن يكون منح نجيب محفوظ الجائزة بداية حقيقية لتنظيف تلك الجائزة من الحقد الرهيب على العرب وعلى السوفيت وعلى العالم الثالث التى بدأت تزحف إليه لتحتويه بكتابه ورموزه الثقافية واتجاهاتهم».
«إنى لا أريد أن أترك لنفسى حرية وصف المشهد، فمن داخلى الحقيقى كنت أحس أن نجيب محفوظ نفسه الذى أعرفه، وأعرف تواضعه غير سعيد بهذا، بل غير سعيد بأن ينال هو الجائزة وأنال أنا الشتائم، وقد انقلبت على الغوغائية الثقافية بما تحمله لى من أحقاد مهينة صغيرة، وغيظ يجعل الأمر فرحًا لنجيب محفوظ ومأتمًا لى، تدعون التواضع والطيبة والأدب ولكنكم أيها الصغار وإن كان فيكم كبار مسنون، لم تتمالكوا أنفسكم وتفجر غيظكم منى ككاتب تصوروا أنه سقط سقطة العمر ولم أكن أتصور أن رجالًا كبارًا شكلهم طيب جدًا وحديثهم كحديث الملائكة يملكون كل هذه الطاقة على الحقد».
«إنى لن أغير رأيى السياسى فى الجائزة حتى تتغير الجائزة فعلًا، وعلى طول المدى ولن أغير رأيى فى نجيب محفوظ، الوحيد الذى كان عاقلًا فى مديح نوبل، لأنى لا أكن له سوى الود والتقدير والاحترام، بل إذا كان أحد يعرف قيمتى المتواضعة فى مصر فهو نجيب محفوظ ولا أحد سواه، كما أعرف أنا قيمتكم».
يوسف إدريس يحتاج إلى محلل نفسى أكثر من محلل أدبى
«من لم يبح بغيظه فليمت به، أما أنا فإن شاء الله لن أموت بغيظكم منى، فعمرى بيد إله عادل، أدين له بموهبة منحنى إياها وحرمكم منها، وما هو بغرور هذا الذى أقوله وإنما طاعة لربى لأنى إنما بنعمته أتحدث».
وفى ختام مقاله العاصف كتب ملحوظة قال فيها: «دق جرس التليفون توًا وكان المتحدث هو الصديق الكبير نجيب محفوظ ودار بيننا فى التو حديث لو سمعه المغتاظون لانفجرت عقولهم بغيظ أكبر».
كنت دائمًا أتعامل مع يوسف إدريس على أنه سفاح، وأعتقد أننى ما رأيته سفاحًا كاملًا مثلما رأيته فى هذا المقال، الذى أعتقد أنه يحتاج إلى محلل نفسى أكثر من محلل أدبى، فأنا أمام طفل قرر أن يحطم كل أثاث البيت، لأن هناك من أغضبه.
كان من أغضب يوسف إدريس هو الناقد الكبير رجاء النقاش الذى كتب مقالًا عن يوسف بعنوان «الرافض الوحيد»، وأعتقد أنكم لمحتم الإشارة إليه فى مقال يوسف.
اعتبر النقاش ما كتبه يوسف تجاوزًا فى حقه، فكتب مقالًا آخر بعنوان «الرافض الوحيد مرة أخرى» فند فيه كل ما قاله إدريس بغضب، يقول النقاش:
أولًا: لغة المقال كانت هابطة جدًا لا تليق بكاتب كبير محبوب من الجميع مثل يوسف إدريس، فقد استخدم فى رده على الذين حاوروه كلمات غير لائقة، مثل قوله إن الرد عليه كان لوثة مجنونة غوغائية، وأن الذين ردوا عليه هم من الفئران والصراصير، فهل يقبل أحد أن يلقى على زملائه فى القلم مهما كان حجمهم فى رأيه كل هذا الوحل والطين؟ أعتقد أن هذا الأسلوب مرفوض، وإن قبلناه من كاتب غير مسئول ولا أهمية له، فلن نقبله أبدًا من كاتب نحبه ونحمل له كل الاحترام والتقدير والإكبار مثل يوسف إدريس.
إن الذين ردوا على يوسف إدريس هم الزملاء: صبرى أبوالمجد وجمال الغيطانى ويوسف القعيد، ثم كاتب هذه السطور، وهؤلاء ليسوا فئرانًا ولا صراصير، ولكنهم بشر من خلق الله وكل جريمتهم أنهم اختلفوا مع يوسف إدريس فى رأى من آرائه.
ثانيًا: كرر يوسف فى مقاله عبارته «الشريرة» التى قالها عشرات المرات شفهيًا وتحريريًا، وهى أنه سمع بفوز نجيب محفوظ لأول مرة من إذاعة إسرائيل، وهدف يوسف إدريس من هذا القول الذى يكرره هو التأكيد بأن جائزة نوبل جاءت إلينا من تل أبيب، ولم تجئ إلينا من استكهولم فى السويد، وهذا كلام مؤلم وجارح ورخيص ولا دليل عليه، وأرجو أن يتنزه عنه كاتبنا العزيز يوسف إدريس.
ثالثًا: شن يوسف إدريس فى مقاله حملة عنيفة جدًا على جائزة نوبل، واتهمها بأنها مغرضة وملوثة، ولكن لماذا لم يعلن هذا الرأى خلال السنوات الطويلة الماضية، وهو يكتب منذ ما يقرب من أربعين سنة، وخلال هذه الفترة أصبح من أكبر الكتاب العرب فى العصر الحديث على مر العصور، وأصبح من أصحاب الكلمة المسموعة عند جماهير واسعة من قرائه المحبين؟، لماذا لم يعلن يوسف إدريس رأيه السيئ فى الجائزة إلا عندما نالها نجيب محفوظ، أى عندما نالها الأدب العربى لأول مرة؟ أين كان يوسف إدريس طيلة السنوات الطويلة الماضية وجائزة نوبل قائمة وموجودة منذ عام ١٩٠١ إلى الآن، وقد عاصر أربعين سنة من عمر هذه الجائزة على الأقل؟، إن هذا التوقيت يدل على أنه يريد الهجوم على جازة عام ١٩٨٨ التى كانت من حظ الأدب العربى، وليس الهجوم على الجائزة نفسها.
رابعًا: من الثابت والمؤكد أن يوسف إدريس بذل جهودًا كبيرة مضنية للحصول على هذه الجائزة، وفى اعتقادى أنه كان أحد المرشحين الأساسيين، ولكن الدراسات التى أجرتها لجنة جائزة نوبل أدت إلى حسبان نجيب محفوظ هو أول أديب عربى يستحق الجائزة الأولى، وكان ذلك حقًا وعدلًا من الجائزة، لأن نجيب محفوظ هو الأكبر سنًا، وهو الأكثر إنتاجًا ومثابرة فى الإبداع الروائى القصصى، فيوسف إذن كان يسعى بهمة ونشاط، فلما نالها غيره ثارت ثائرته، وهجومه على الجائزة – فى هذه الحالة – يبدو هجومًا شخصيًا وغير موضوعى.
خامسًا: هناك فكرة تفوح من مقال يوسف إدريس وقد كررها كثيرًا فى تصريحاته المختلفة، ولا أريد أن أطيل فى ردى على هذه الفكرة، وهى قوله المتكرر إن الجائزة أعطيت لنجيب محفوظ مكافأة له على استقباله عددًا من الأدباء والمثقفين والصحفيين الإسرائيليين، وأرجو ألا يعود يوسف إلى هذه النقطة مرة أخرى، فهو يعرف ونحن نعرف جميعًا أنه هو نفسه يلتقى بهؤلاء المثقفين والصحفيين الإسرائيليين، وأن هناك أدلة ثابتة على ذلك.
كان رجاء النقاش موجوعًا وهو يقرأ ما كتبه يوسف إدريس عنه، وكان موجوعًا أكثر وهو يرد عليه فى مقال أعتقد أنه لم يشف غليله، فقد كان إدريس قاسيًا ومتوحشًا، وأعتقد أنه فعل ذلك لضعف موقفه من ناحية، ولتصوره الجامح عن نفسه بأنه الأهم فى الأدب العربى، وهو تصور أعتقد أنه يحتاج لمراجعة.
من زاوية خاصة أعتبر يوسف إدريس كان ضحية لنقاد نفخوا فيه إلى الحد الأقصى بما جعله لا يرى غير نفسه، ولا يعترف بأحد فى الأدب العربى كله إلا إذا كان هو، وعلى الجميع أن يخضعوا لذلك ويعتبروه عقيدة لا تقبل الشك أو التشكيك.
عودوا مرة أخرى إلى ما كتبه فى مقاله «وأما حكاية نوبل» لتتأكدوا بأنفسكم.
يقول يوسف: «أنا يا سادة لا أغير من جائزة نوبل، ولكنى أغير فقط حين أجد أحدًا آخر قد سبقنى فى إبداعه، ووضعنى فى الدرجة الثانية».
وقبل أن تتهمنى بشىء، فأنا أقر ليوسف إدريس بعبقريته وموهبته وإبداعه، لكن مشكلتى معه أن المدح المطلق له حوله إلى «عبقرى مدلل».
لقد أفسد التدليل يوسف إدريس إلى الدرجة التى تجعلنى أطالب النقاد بإعادة تقييم ما أنتجه، أعتقد أننا فى حاجة إلى عملية فرز إنتاج يوسف إدريس الأدبى؛ لنعرف الذهب منه والفالصو، لديه جواهر أدبية ولديه أيضًا أعمال لا ترقى حتى للقراءة، بل إنه فى كثير من قصصه القصيرة مسرح إبداعه الأول تتوه منه الفكرة وتتهافت الشخصيات وتنزل اللغة إلى أرض الركاكة، فلا تصدق أن هذا هو نفسه من كتب «بيت من لحم» أو «أكان لابد يا لى لى أن تضيىء النور» أو «عن الرجل والنملة» أو حتى «أحمد المجلس البلدى».
غفر نجيب محفوظ ليوسف إدريس إساءته لأنه كان الأذكى
لقد غفر نجيب محفوظ ليوسف إدريس إساءته، ليس لأنه كان الأديب الأكبر والأهم فى أدبنا العربى، لكن لأنه كان الأذكى.
فى كتابه «نجيب محفوظ إن حكى» يسأل يوسف القعيد نجيب: بمَ تفسر موقف يوسف إدريس من حصولك على نوبل؟
فيجيب نجيب: أثناء حملته على الجائزة كان يتصل بى تقريبًا كل يوم فى التليفون، والعلاقة كانت طيبة للغاية.
يستدرك يوسف: رغم هجومه؟
فيؤكد نجيب: كان يقول لى إننى لا أهاجمك، أنا أهاجم الجائزة.
كان نجيب يعرف أن يوسف يهاجمه هو وليس الجائزة، وهو ما يفسر لنا ما قاله محمد سلماوى أنيس نجيب محفوظ وجليسه من أن الخلاف بين الكاتبين الكبيرين انتهى أمامه فى مكتب نجيب بالأهرام.
قال يوسف لنجيب: أنا لم أهاجمك أبدًا.
فرد عليه نجيب: وأنا لم أسمع شيئًا.
يوسف إدريس عصبى والعصبى يجب عليك أن تعامله فى هذا النطاق خصوصًا أنه يندفع جدًا ثم يروق
كان نجيب فيما يبدو لى يعرف يوسف جيدًا، ليس على المستوى الأدبى فقط، لكن على المستوى النفسى أيضًا، لذلك كان يأخذه على قدر عقله- إذا جاز التعبير- حتى لا ينفجر فى وجهه.
يؤكد ما أذهب إليه ما قاله نجيب نفسه فى حوار نشرته مجلة المصور فى ٩ أغسطس ١٩٩١ بعد أيام من وفاة إدريس.
يقول: ليس عندى استعداد للغضب من يوسف إدريس بصراحة، لماذا؟ لأن يوسف إدريس عصبى، والعصبى يجب عليك أن تعامله فى هذا النطاق، خصوصًا أنه يندفع جدًا ثم يروق، ولا يثبت على حالته العصبية، ويندر أن ترصد فى قلبه حقدًا أسود، فقد أتسامح مع يوسف إدريس فى خطبة طويلة، على حين لا أتسامح مع غيره فى جملة واحدة.
لقد عرف نجيب محفوظ ما أقدم عليه الرئيس مبارك، الذى عندما سمع ما يقوله يوسف وما يفعله، قرر أن يبعده عن مصر مؤقتًا حتى يهدأ، وبالفعل سافر يوسف إلى تونس والمغرب لعدة أيام، وهو ما صرح به بعد ذلك الكاتب الكبير يوسف القعيد.
كان نجيب محفوظ يعرف استحقاقه الجائزة التى لم يسع إليها مثلما فعل يوسف، وكان يعرف أيضًا أن يوسف لا يستحقها، لكنه لم يصرح برأيه إلا بعد رحيل إدريس فى أغسطس ١٩٩١.
فى كتابه «ليالى نجيب محفوظ فى شبرد»، الذى وثق فيه الكاتب الصديق إبراهيم عبدالعزيز حوارات ومناقشات نجيب مع رفاق جلسة شبرد على مدار سنوات، أشار إلى هذه الواقعة:
سئل محفوظ: ماذا يبقى من يوسف إدريس؟
فأجاب: قصصه.
سئل: هل يستحق عليها جائزة نوبل؟
فأجاب: إبداعه لا يؤهله لها.
علق أحد الحاضرين: لقد حصل على جائزة صدام حسين واعتبرها كجائزة نوبل.
فعلق: ما دام أخذها تبقى أكبر من نوبل.
يحتج كثيرون بأن يوسف إدريس كان مرشحًا بالفعل للجائزة وأن نجيب محفوظ أخذها منه دون أن يستحقها.
فى كتابه «قصة نوبل نجيب محفوظ.. وثائق تنشر لأول مرة يرويها د. عطية عامر» يروى محرره وحيد موافى أن لجنة نوبل اتصلت بالدكتور عطية عامر، الذى كان رئيسًا لمعهد الدراسات العربية بجامعة استوكهولم وطلبت منه ترشيح أديب آخر إلى جانب نجيب محفوظ.
يقول الدكتور عطية: رشحت لهم يوسف إدريس والتقيته فى استوكهولم وأخبرته بترشحه مع نجيب محفوظ، ففرح وقال لى: سيبك من نجيب.. هذه الجائزة سترفعنى إلى السماء، لماذا لا تريد ذلك؟ قلت له: يكفى أننى رشحتك كمنافس لمحفوظ وليس بديلًا عنه.
ورغم أننى لا أملك دليلًا على صدق ما قاله الدكتور عطية أو كذبه، إلا أننى سأتوقف عند ما قاله يوسف نفسه عن ترشحه للجائزة.
فى عدد مجلة الهلال الصادر فى أول سبتمبر ١٩٨٦، قال نصًا عن ترشيحه لنوبل: معلوماتى عن هذا الموضوع من الدرجة الثانية، كنت قد قرأت مرة فى النيوزويك أننى رشحت لعدة مرات من قبل، أيضًا أصدقاء لى من السويد قالوا لى إننى رشحت للجائزة فى القائمة القصيرة التى تحتوى على خمسة كتاب من كتاب العالم، وقيل لى إننى كدت أفوز بها منذ عامين عندما نالها «كولدنج» الإنجليزى، لأن التصويت كان لصالحى، لكن سكرتير اللجنة خرق التقاليد وأعلن فوز «جولدنج» قبل أن يجتمع المجلس، واحتج أحد المسئولين الكبار فى اللجنة، وهدد أن يعلن الحقيقة، وفهمت أننى كنت سأحصل على الجائزة.
ويضيف يوسف: من بين معلوماتى أيضًا أن سكرتارية لجنة الجائزة جاءت إلىَّ، وأخذت كل مؤلفاتى والكتب التى كتبت عنى وأجرت معى لقاء مطولًا وترجموا لى مجموعة قصص، من بينها «الحرام» حتى يصبح لدى الناس مادة يقرأونها ويحكمون عليها... هذا ما حدث؟
كان يوسف فى الغالب يقوم بعملية ترويج لنفسه لا أكثر، وحتى لو كان رشح للجائزة فالأمر لم يكن بهذا الزخم، وربما ما قالته ابنته نسمة فى حوار مطول نشرته المصرى اليوم فى ٢٥ ديسمبر ٢٠١٨ يعطينا مؤشرًا مختلفًا لما جرى.
تقول نسمة: قبل جائزة نوبل التى حصل عليها نجيب محفوظ عام ١٩٨٨ كان والدى مرشحًا لها، وقد عرفنا ذلك عن طريق صحفيين من السويد جاءوا إلينا فى المنزل وطلبوا من والدى حوارًا، وقالوا له نحن نجرى معك الحوار؛ لأنك مرشح للفوز بجائزة نوبل هذا العام، وأكدوا له ذلك مرارًا وتكرارًا، وبعد هذا اللقاء دخله إحساس كبير بأنه الفائز بجائزة العام، وأصبح مهتمًا بالأمر، حتى تم إعلان اسم نجيب محفوظ فائزًا بها، وقتها أصيب أبى بصدمة وإحباط شديدين ودخل فى حالة اكتئاب.
هنا تكشف نسمة اللغز، فبينما يقول يوسف فى حواره إن من قابلوه كانوا من سكرتارية لجنة نوبل، تقول نسمة إنهم لم يكونوا سوى صحفيين من السويد، والفارق كبير جدًا.
الأمر نفسه حدث عندما صرح يوسف بأن أحد أعضاء أكاديمية نوبل عرض عليه اقتسامها مع أديب إسرائيلى، لكنه رفض، ولم يكن هذا صحيحًا أيضًا.
القصة كشفها كاملة «شبل اسمبارك» عضو لجنة نوبل للآداب، الذى تحدث مع موقع «فرانس ٢٤» فى ٣ مايو ٢٠١٤.
كان السؤال: أثيرت قضية الروائى المصرى يوسف إدريس، الذى تم الاقتراح عليه تقاسم الجائزة مع كاتب إسرائيلى... أليست هذه سياسة؟
وكانت الإجابة: كان ذلك حماقة من رجل سياسى «زعيم سابق لحزب سويدى» كان فى زيارة إلى مصر وقتها، وتحدث مع يوسف إدريس واقترح عليه ذلك، وغضب إدريس يومها كثيرًا وراح يصرخ أمام الجميع، الاقتراح لم يكن من أحد أعضاء جائزة نوبل.
سأل الموقع شبل: وهل كان يوسف إدريس وقتها فعلًا مرشحًا للجائزة؟
فرد: قائمة أسماء الأدباء المرشحين تبقى سرًا لا يمكننا الكشف عنها، لذلك لا يمكننى التأكيد بأن إدريس كان فعلًا مرشحًا يومها.
شبل كشف فى نفس الحوار عن أن الأديب العربى الذى كان مرشحًا فى العام الذى حصل فيه نجيب على الجائزة هو الشاعر أدونيس ولم يكن يوسف إدريس.
أغلب الظن أن يوسف إدريس كان مريضًا بنوبل، وهذا المرض لم يكن ليبرأ منه إلا بالحصول عليها، ولم تكن حالة الجنون التى أصابته بعد أن فاز بها نجيب محفوظ إلا نتيجة ليقينه أنه لن يحصل عليها أبدًا بعد ذلك، وربما لهذا هاجم نجيب محفوظ، ولا أستبعد أن يكون كرهه بلا حدود، لأنه كان يرى فى فوز نجيب حجبًا لفرصته فى الحصول على نوبل، التى كان يرى أنه وحده من يستحقها.
إننى أشفق على هذا الأديب الذى لم يتحمل قلبه الاستمرار فى الحياة كثيرًا بعد صدمته بعدم الحصول على نوبل، فقد مات بعد إعلان الجائزة بثلاث سنوات فقط، وهو لم يكمل عامه الرابع والستين بعد.
لا أستبعد أنه مات بحسرته واحتراقه، ولم يكن فى ذلك ضحية نفسه فقط، بل كان ضحية لمن وضعوه على العرش وحده.. وأقنعوه بأنه لم يأت مثله ولن يأتى مثيله.
مرة ثانية.. إننى لا أدين يوسف إدريس بشىء.
ولكنى أحاول قراءة تجربته من زاوية مختلفة.
وأعتقد أن النقاد مطالبون بذلك أيضًا.
فهل يفعلها أحدهم ويعيد ترتيب الأوراق التى تتعلق بيوسف إدريس فى حياتنا الأدبية؟
أتمنى ذلك.