الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى: كتبت الشعر بالصدفة
- المظاهرات وتجاربى العاطفية الأولى وراء تحولى من مدرس إلى شاعر
- كل شىء فى زوجتى سهير كان جميلًا.. وألهمتنى العديد من القصائد
- جلست مع السادات فأدركت أنه مثقف.. وقال لى «جربت أكون شاعر»
- فكرة «بيت الشعر» بدأت من باريس.. وفاروق حسنى ساعدنى فى إنشائه
- لم أغير رأيى فى «قصيدة النثر» وما زلت أقول: «الشعر لا يُكتب بغير الموسيقى»
- صلاح عبدالصبور سبقنى فى طريق الريادة لأن لغته أقرب إلى التجديد
- أعترف بأن قصيدتى فى هجاء العقاد لا تخلو من «طيش».. لكنه كان «قاسيًا جدًا»
للشعر فى حياتنا أهمية وضرورة، فليست هناك لغة أو ثقافة بدون شعر، ونحن دائمًا نحتاج إليه للتعبير عن كامل وعينا. ولا يمكن الحديث الآن عن الشعر دون التطرق إلى واحد من رواد حركة التجديد فى الشعر العربى المعاصر، ليس فى مصر فحسب بل فى العالم العربى كله.
إنه الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، الذى كان على مدى سنوات طويلة فى طليعة مَن قادوا حركة التجديد الشعرى، ورغم أنه كان أصغر الرواد سنًا، جعله نضجه الشعرى المبكر فى زمرة المجددين.
بدأ «حجازى» نشر قصائده الأولى التى لفتت إليه الأنظار أوائل الخمسينيات، وهو دون العشرين، تميزت لغته الشعرية بالصفاء وأناقة اللفظ وطلاوة العبارة، ولكن دون أن تنسى انتسابها إلى هموم البشر وتجاربهم، والحياة التى تضطرب بمختلف الآمال والآلام.
وإلى جانب ريادته للشعر فهو كاتب المقال والمثقف الذى عبّر بمواقفه عن رفضه قوى الاستبداد والظلام، ودخل معها الكثير من المعارك التى قادته إلى الاعتقال والهجرة والاستقالة والمحاكمة.
الشاعر الكبير كان فى ضيافة برنامج «أطياف»، الذى تقدمه الدكتورة صفاء النجار على قناة «الحياة»، فكان هذا الحوار مع صاحب «مرثية العمر الجميل»، عن تجربته التى امتدت على فترة زمنية طويلة، شهدت فيها مصر والعالم تحولات سياسية كبرى، تداخلت كلها مع إنتاجه الشعرى، فارتبطت قصائده بمواقف وأحوال وتجارب خاصة وعامة.
■ لك مشوار طويل وريادة فى الشعر العربى، امتلك خلالها لغتك الخاصة.. كيف أثرت النشأة فى تكوينك الشعرى والثقافى؟
- أثرت النشأة فى تكوينى بلا شك، لأنى نشأت فى بيئة ريفية كانت تحافظ على كثير من التقاليد الموروثة. تعلمت أولًا من الأسرة طبعًا، وبعد ذلك أو إضافة إلى هذا تعلمت من الناس، الجيران والأصدقاء إلى آخره. وأظن أن نشأتى فى الريف، وتحديدًا فى بلدة اسمها «تلا» بالمنوفية، هى التى أهلتنى لهذه الحياة التى عشتها ولا أزال أعيشها إلى الآن.
■ متى اكتشفت قدرتك على نظم الشعر؟
- التمست هذه القدرة أولًا فى محبتى للشعر، فقبل أن أنظم أحببت الشعر وقرأته وتلقيته ممن كانوا حولى. والدى كان يملك مكتبة متواضعة جدًا. لكنها على كل حال كانت تضم بعض دواوين الشعراء من بينهم حافظ إبراهيم. بينما الأصدقاء والزملاء كانوا يملكون شعرًا أكثر ومختلفًا عما كان يملكه أبى. كانوا يملكون بعض دواوين الشعراء المعاصرين، وأنا هنا أتحدث عن أواخر الأربعينيات.
- أشعار «الرومانتيكيين» وقتها كانت هى السائدة، ليس فقط عن طريق القراءة، ولكن كذلك عن طريق الغناء. فـ«عبدالوهاب» فى أواخر الأربعينيات كان قد قدم عدة قصائد للشاعر على محمود طه، مثل «الجندول»، و«كليوباترا»، بالإضافة إلى «الكرنك» للشاعر أحمد فتحى، بجانب قصائد أخرى رائعة غناها لـ«شوقى»، ولا تزال تحتفظ بقيمتها يومًا بعد يوم.
■ كيف تم الانتقال من الشعر «الرومانسى» أو «الرومانتيكى» إلى الشعر الحر.. وقد كتبت فى بداياتك الشعر العمودى؟
- بدأت طبعًا بقراءة شعراء «الإحياء»، خاصة «شوقى» و«حافظ» وإلى حد ما «البارودى» و«مطران»، ثم انتقلت إلى «الرومانتيكيين» فى أواخر الأربعينيات كما ذكرنا.
فى أوائل الخمسينيات بدأت ظاهرة فاجأتنى، وكنت أحتاج إلى أن أفهمها وأعرف موقفى منها. هذه الظاهرة هى النماذج أو المحاولات أو التجارب الأولى التى قرأتها فى الشعر الجديد أو الحر أو التفعيلة كما يقال. وأظن أنى قرأت آنذاك قصيدة عبدالرحمن الشرقاوى «رسالة من أب مصرى إلى الرئيس رومان».
■ هل أتيحت لك فرصة الاطلاع على قصيدة «الكوليرا» للشاعرة نازك الملائكة آنذاك؟
- فى ذلك الوقت لم أقرأ لـ«نازك الملائكة»، لأنها لم تكن لها أعمال شائعة. «نازك» عرفتها عن طريق مجلة «الآداب» البيروتية، هى وسواها من الشعراء العراقيين والعرب عامة، مثل بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتى.
قصيدة «الكوليرا» طبعًا قرأتها، وأظن أن ذلك كان فى وقت متأخر، يعنى لم أقرأها وقت نشرها، أو وقت نظمها عام ١٩٤٧. إعجابى وقتها كان بما يُقدم آنذاك فى أوائل الخمسينيات، يعنى ١٩٥٣ و١٩٥٤، «السياب» و«البياتى»، وبالطبع بعض قصائد «نازك».
■ دراستك كانت تؤهلك أن تصبح مدرسًا، فقد تخرجت فى «مدرسة المعلمين»، لكن صدفة حولت مسيرتك من «الأستاذ المدرس أحمد عبدالمعطى حجازى» إلى «الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى».. فما الذى حدث؟
- فى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات كانت مصر تمر بمرحلة مهمة فى تاريخها، وكان المصريون يناضلون فى سبيل الاستقلال. وقتها اشتركت فى المظاهرات التى كانت تطالب بالجلاء والدستور وإلى آخره، بل أننى قدت بعضها، ووجدت نفسى قادرًا على أن أصوغ عبارات نهتف بها، وهذه العبارات التى كنت أصوغها تلاقى استحسانًا لدى زملائى الطلاب المتظاهرين.
أيضًا فى ذلك الوقت الذى كنت فيه فتى فى حوالى الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمرى، كانت لى بعض التجارب العاطفية، وكان لا بد أن أعبر عنها، وكان من الصعب فى هذا الوقت أن أصرح بعواطفى، لذا لم أجد إلا الشعر أستطيع به أن أعبر عن هذه العواطف.
■ ترتب على مشاركتك السياسية اعتقالك، وبالتالى حرمانك من التعيين.. كيف ترى هذه التجربة؟
- نعم، اُعتقلت لمدة قصيرة لا تزيد على شهر، لكن هذا الشهر أدى إلى حرمانى من العمل فى التدريس، كان ذلك فى عام ١٩٥٥، وتصادف فى نفس العام كذلك أن قصيدتى الأولى التى قرأها القراء نُشرت فى مجلة «الرسالة الجديدة»، ثم نُشرت لى بعد ذلك قصيدتان فى المجلة ذاتها، وبدأ قراء الشعر يعرفون اسمى. وعندما وجدت نفسى محرومًا من العمل فى التدريس، بدأت فى البحث عن عمل فى الصحافة.
■ تطلب هذا التحول انتقالك إلى القاهرة لبدء العمل فى مجال الصحافة وتحديدًا فى مؤسسة «روز اليوسف».. كيف بدأت هذه الرحلة؟
- البداية كانت فى «صباح الخير»، ثم انتقلت إلى «روز اليوسف»، والواقع أن المجلتين كانتا تصدران ولا تزالان عن دار واحدة، وكان بإمكانى دائمًا أن أنشر فى «روز اليوسف» و«صباح الخير».
■ خلال وجودك فى «روز اليوسف» التقيت عددًا من الشعراء والمثقفين والكتّاب الذين أثروا فى تكوينك الثقافى والفكرى.. مَن ساعدك فى هذه الفترة؟
- لا بد أن أذكر بالخير بالتقدير والامتنان أحمد بهاء الدين، وحسن فؤاد، وطبعًا إحسان عبدالقدوس وصلاح جاهين. المؤسسة كانت تضم خيرة الكتاب والفنانين فى مصر.
■ تجربتك الشعرية تنقلها إلى الأجيال الجديدة من خلال «بيت الشعر» الذى أقمته وتشرف عليه، وتقام ندواته فى واحد من البيوت الأثرية فى القاهرة هو «بيت الست وسيلة».. كيف بدأت فكرته؟ وما الذى تستفيده من لقاءاتك الشعرية مع الشعراء الشبان؟
- خلال إقامتى فى باريس اُفتتح بيت للشعر، فى الحى الذى كنت أسكنه هناك، وكنت أذهب إليه لكى أستمع إلى الشعراء وأحاورهم وأنتفع بتجربتهم، وعندما عُدت إلى مصر التقيت بصديق عزيز هو الفنان فاروق حسنى، وكان قد أصبح وزيرًا للثقافة، فعرضت عليه إنشاء بيت للشعر فى مصر.
قلت للوزير فاروق حسنى آنذاك إن مصر مسئولة قبل غيرها عن الثقافة العربية، وعن الشعر العربى تحديدًا، خاصة فى هذا العصر الحديث، ولم تمر فترة طويلة حتى وجدته يعرض علىّ هذا البيت إلى جانب بيوت أخرى، من أجل اختيار المناسب والأفضل منها.
■ ديوانك الأول كان بعنوان «مدينة بلا قلب»... متى أصبحت القاهرة مدينة لها قلب يحنو على الفتى القروى أحمد عبدالمعطى حجازى؟
- أصبحت القاهرة لها قلب كبير بالنسبة لى، عندما وجدت العمل والأصدقاء، وعرفت الحب، ونظمت أشعارى وعرفنى الناس. من وقتها أصبحت القاهرة هى الأم الرؤوم، التى قدمت لى الكثير ولا تزال، أنا وملايين آخرين غيرى.
أنا سميتها «مدينة بلا قلب» فى الوقت الذى كنت أبحث فيه عن كل ما امتلكته قبل أن أمتلكه، يعنى شكوت وهى استجابت على الفور، وأعطتنى ما لم أكن أحلم بنيله والحصول عليه.
■ «الأصدقاء والحب».. الحب الحقيقى للحبيبة والزوجة الراحلة الدكتورة سهير عبدالفتاح، كيف بدأت هذه القصة الجميلة؟ وكيف ساندت ودعمت الراحلة الأحاسيس الشعرية لدى الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى؟
- البداية كانت بتعرفى على والدها، الذى كان يعمل فى الإذاعة، ويكتب أيضًا فى بعض الصحف مقالات حول الفن والفنانين، وكان رجلًا كريمًا شرقاويًا، فدعانى لزيارته فى منزله.
فى هذه الزيارة تعرفت على «سهير» من بعيد، وكانت فى ذلك الوقت تبلغ السابعة أو الثامنة عشرة من عمرها، وأنا هنا أتحدث عن أوائل الستينيات، وبمرور الوقت بدأت العلاقة تتطور من شاب يزور أباها إلى محب عاشق.
■ ما الذى جذبك إلى الدكتورة سهير عبدالفتاح؟
- لا أبالغ إذا قلت إن كل ما فيها كان جميلًا وظل جميلًا حتى رحلت، بل ازدادت جمالًا وكمالًا بعد أن أصبحنا زوجين. كانت آنذاك فى السابعة عشرة من عمرها، وتدرس فى المعهد العالى للموسيقى العربية، وهذا فى حد ذاته جذاب للغاية، كفتاة جميلة تعزف على العود، ومن ناحية أخرى كانت قارئة وطيبة وودودة وبريئة.
كل هذا ويبقى السؤال مطروحًا: «لماذا سهير بالذات؟». هذه إحدى المصادفات، أو سر لا أستطيع حتى الآن أن أكشفه أو أكتشفه.. سؤال لا أستطيع أن أجيب عنه حتى هذه اللحظة.
■ هل ألهمتك بعض القصائد؟
- طبعًا ألهمتنى العديد من الأشعار، ونشرتها بالفعل تحت عنوان: «حبيبتى»، أظن أن هذا كان فى الديوان الثالث «لم يبق إلا الاعتراف».
■ د. «سهيرة» كانت تخاف عليك جدًا، لدرجة أنه عندما دعاك الرئيس السادات لزيارته فى استراحته بالإسكندرية، بعد عودتك إلى مصر، أصرت على أن تصطحبها معك.. ما الذى تتذكره عن هذه الدعوة؟
- الرئيس السادات أرسل نقيب الصحفيين صلاح جلال للحديث معى ومع الكتّاب والفنانين المصريين الذين كانوا يعيشون فى فرنسا آنذاك، وحمّله رسالة ودعوة للعودة إلى الوطن. كنا قد تعرضنا لعدد من الأزمات عام ١٩٧٣، إذ فُصلنا من عملنا، وجرى التضييق على ما نكتبه وننشره بعد عودتنا للعمل فى الصحافة.
نقيب الصحفيين قال لى إن حرية التعبير ستكون مكفولة عندما نعود إلى مصر، فقلت له: «يا أستاذ صلاح انظر هذا هو بيتى فى باريس، وأنا الآن أعمل فى تدريس الأدب العربى فى جامعة باريس، ومع ذلك سأترك كل هذا لكى أعود إلى مصر».
سألنى النقيب: «متى ستعود؟» فقلت له: «فى نهاية العام الدراسى». وبالفعل فى نهاية العام الدراسى عدت إلى مصر لأول مرة منذ إن رحلت عنها عام ١٩٧٤. وفى اليوم التالى لعودتى أرسل إلىّ الرئيس السادات رسالة، دعانى فيها للقائه فى استراحته بالمعمورة.
ذهبت رفقة زوجتى «سهير»، وحين وصلت إلى باب الاستراحة وفُتح الباب، وجدت الرئيس على اليمين والسيدة «جيهان» حرمه على اليسار فى انتظارنا، ودخلنا فأخذت السيدة «جيهان» زوجتى «سهير» لتجلس معها فى الداخل، وجلست مع الرئيس على مائدة ومقعدين فى الحديقة.
■ ماذا تلمست فى شخصية «السادات» خلال هذا اللقاء؟
- اللقاء كان فى منتهى الكرم والحنو، استمع خلاله الرئيس إلىّ بصدر رحب، لمدة ساعة و٤٠ دقيقة. وتلمست من اللقاء أنه كان مثقفًا، لأنه حدثنى عن الشعر، وقال لى إنه جرب أن يكون شاعرًا.
حدثنى كذلك عن صلاح عبدالصبور، وتحاورنا حول بعض المسائل السياسية، وكنا نتكلم عن الديمقراطية، حتى انتهى اللقاء وأنا راض تمامًا، وقررت بعده أن أعود إلى مصر بشكل نهائى.
وعدت الرئيس السادات بأننى سأعود بشكل نهائى إلى مصر بعد عام، لكن بعد اللقاء بشهر واحد وقع حادث اغتياله، فلم أعد إلا بعد ٨ أعوام، فى عام ١٩٨٩ على وجه التحديد.
■ بذكر الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور.. ما طبيعة علاقة الصداقة الوطيدة التى جمعتكما لسنوات؟
- عرفته شاعرًا قبل أن أعرفه إنسانًا، قرأت له قصيدة أو قصيدتين من قصائده قبل أن أراه، وأظن أنى قرأت قصيدته «شنق زهران»، وفى ذلك الوقت كنت لا أزال أكتب الشعر بلغة أقرب إلى لغة «الرومانتكيين».
كان شعر «صلاح» أقرب إلى لغة الحداثة، وكان يرى أن الشعر الجديد من موسيقى وصور وموضوعات يحتاج إلى لغة أخرى غير اللغة «الرومانتيكية» التى كانت سائدة فى ذلك الوقت، وكان على حق.
■ هل هذه اللغة هى التى جعلت صلاح عبدالصبور شاعرًا أكثر شعبية من أقرانه؟
- طبعًا، لغة «صلاح» كانت مادة أساسية وشرطًا من شروط الحداثة والجدية التى قدمها فى شعره، وهو سبقنى فى طريق الريادة. لكن لكل لغته، حتى فى إطار التجديد والحداثة. ولا يُطلب من الشعراء المجددين أن يكتبوا بلغة واحدة.
■ ما تقييمك للمشهد الشعرى فى مصر والعالم العربى الآن؟
- تعرفت من خلال «بيت الشعر» فى القاهرة على الكثير من الشعراء الشبان، والذين أكدوا لى أن مصر مليئة بالشعراء الشباب الذين سيعطون لهذا الفن حقه وينقلونه إلى الأجيال التالية.
■ لك رأى معارض لـ«قصيدة النثر». لكن فى الفترة الأخيرة ازدهر هذا النوع بشدة وفاز أحد شعرائها بجائزة الدولة التشجيعية.. ألم يغير ذلك من رأيك؟
- لا.. أنا أقرأ ما يُنشر فى قصيدة النثر بإعجاب، حينما أجد النماذج التى تثير إعجابى. لكن هذا شىء يختلف عما قلته سابقًا. أنا قلت ما يلى: «الشعر لا يكتب بغير الموسيقى».
■ فى حال التزمت «قصيدة النثر» بالموسيقى.. هل ستنال إعجابك؟
- الإيقاع أيضًا ليس واحدًا، نحن نستطيع فى النثر أن نتحدث بإيقاع. لكن الإيقاع الذى أتحدث عنه هو «العَروض» أو الوزن. الشعر العربى وأى شعر فى العالم لا يستغنى عن عنصر الموسيقى، وهذا العنصر يضاف إلى عناصر أخرى لتكوين اللغة الشعرية.
■ فى بداياتك تعرضت للرفض من الشاعر والكاتب الكبير عباس محمود العقاد، الذى كان يحكّم مسابقة المجلس الأعلى للفنون والآداب، وتقدمت إليها أنت وصلاح عبدالصبور، لدرجة أنه أحال قصيدتيكما إلى «لجنة النثر».. ألا ترى أن هذا الموقف يتجدد بمواصلة رفضك هذا النوع من الشعر؟
- هناك اختلاف بين الموقفين. أنا لست ضد أن يتصرف شاعر ما فى شكل الوزن، بل أشترط عليه فقط أن يحافظ على الموسيقى، ويأتى بالوزن الذى يرتاح إليه ويعجبه ويساعده على أن يقدم ما يريده فى الشعر، لكن لا بد من الوزن.
الفرق واضح بين موقفى وموقف الأستاذ العقاد. الأخير كان يقول إن ما نكتبه بوزن جديد يشبه النثر وليس الشعر، وهذا غير صحيح. والدليل على هذا أن شعرنا الذى كان فى نظر الأستاذ العقاد نثرًا، أصبح هو الشعر السائد الآن فى الأقطار العربية كافة.
■ لديك القدرة والمرونة على تغيير مواقفك وأفكارك من فترة لأخرى، بدليل موقفك من العقاد، الذى كتبت فيه قصيدة هجاء فى مطلع شبابك، لكنك الآن تتحدث عنه بحنو، بل تلقى أبياته الشعرية بفخامة وأناقة، وهى من الشعر العمودى.. لماذا؟
- طبعًا، أنا أعترف بأن قصيدتى فى هجاء الأستاذ العقاد لا تخلو من طيش، لأننى كتبت هذه القصيدة بالطريقة التقليدية التى كان الأستاذ يدافع عنها، وأردت أن أقول له: «نحن نجدد لا لعجزنا عن كتابة القصيدة كما تكتبها أنت أو كما يكتبها غيرك، وإنما نحن نجرب موسيقى أخرى لكنها موجودة فى شعرنا».
الأستاذ العقاد كان قاسيًا جدًا، لأنه لم يكتف بإعلان رأيه فى شعرنا، وإنما طاردنا عندما سافرنا مع الوفد المصرى الذى كان يشارك فى «ملتقى الشعر» بدمشق، وهدد بأنه سيستقيل من المجلس الأعلى للآداب والفنون، لو سُمح لنا بأن نلقى أشعارنا، فاضطر يوسف السباعى إلى أن يصارحنى أنا وصلاح عبدالصبور بأنه لن يفتح لنا المجال لإلقاء الشعر.
■ شعرك ملىء بالموسيقى.. لماذا لم يتغن به مطرب؟
- غنى لى سيد مكاوى قصيدة: «أتحداه أن يرى فيك بعض الذى أرى». هذه القصيدة التى غناها سيد مكاوى كان قد اشتراها منه محرم فؤاد وغناها، واشترى محرم فؤاد منى نصًا آخر وغناه، لكنه لم يذع أو أذيع ولم يلق قبولًا جماهيريًا.
■ على ذكر الطرب.. مَن المطرب المفضل لك؟
- عبدالوهاب مطرب وملحن عظيم ومثقف متذوق، وقد تعرفت عليه فى باريس.
■ ومَن مِن المطربات؟
- أستمع للسيدة أم كلثوم، خاصة أعمالها فى مرحلة الثلاثينيات والأربعينيات، وكتبت مقالتين عنها أعتز بهما جدًا.
■ لكنك قلت إن أم كلثوم «ظاهرة جماهيرية»، وأنها ليست مطربتك الأولى.. لماذا؟
- ليست مطربتى الأولى بالفعل. كنت أحب جدًا الاستماع إلى ليلى مراد، وكنت شديد الإعجاب ولا أزال بـ«أسمهان»، وبعد ذلك فى الستينيات كنت شديد الإعجاب بـ«فيروز». لكن الآن وأنا أجد نفسى أمام هذا التراث الغنائى، أضع أم كلثوم فى مكانها، وأتذوقها الآن أكثر مما كنت أتذوقها من قبل.
■ انتقلت من الشعر إلى النثر لتعبر عن روح التجديد فى مصر، ومحاربة قوى الظلام التى كانت سائدة وتنتشر وتتوغل فى المجتمع بعد عودتك من باريس فى أوائل التسعينيات.. كيف حدث ذلك؟
- بدأت الكتابة لصحيفة «الأهرام» وأنا فى باريس، بعدما زار إبراهيم نافع، رئيس تحريرها ومجلس إدارتها آنذاك، العاصمة الفرنسية والتقانى وعرض علىّ الكتابة للصحيفة، وذلك بعدما فقدت معظم كتابها الكبار آنذاك، مثل توفيق الحكيم عام ١٩٨٧، ثم يوسف إدريس ولويس عوض وعبدالرحمن الشرقاوى بعد ذلك بسنوات قليلة.
فى البداية كنت أكتب صفحة كاملة، وكانت مصر تمر بفترة صعبة، وكذلك الصحافة المصرية، بعدما انتشر دعاة العنف والإرهاب، وجرى خلط الدين بالسياسة، وأصبح لدينا أعداء للنهضة المصرية والمرأة والكتاب المثقفين وطه حسين وهدى شعراوى ودرية شفيق وقاسم أمين ومحمد عبده. لذا كان لا بد للثقافة المصرية أن تتصدى لهؤلاء. وأنا وجدت أن الكتابة فى هذا الوقت ليست فقط عملًا أحبه، بل واجب ثقافى ووطنى وإنسانى.
■ بعد كل هذه الرحلة الطويلة.. ما الذى كنت تتمنى أن تفعله ولم تستطع؟
- لم أتمكن من أن أجد الوقت لأكتب المسرحية الشعرية، مع أننى أعددت مخططات مسرحية شعرية، لكن لم أستطع أن أنفذها حتى الآن، أيضًا هناك شىء لم أقم به، وأحب أن أفعله، هو كتابة مذكراتى.
■ لماذا لم تكتب مذكراتك؟
- للأسف الشديد لم أكتب منها إلا مقتطفات فى موضوعات مختلفة، لكن فكرة كتابة مذكرات كاملة لم أحققها حتى الآن.