شجرة البرتقال والمفارقة الساخرة
كلما ذهبت لأداء صلاة الجمعة في المسجد، يلفت نظري حال الناس من حولي. هم مشغولون بأنفسهم وبغيرهم انشغالا يفصح عندي عن معان ودلالات. منها أن العبادة التي جاءوا من أجلها هي موسم احتفالي بالطقوس والأشكال والمظاهر، ومنها الإعجاب بما يأتون من قراءة القرآن، أو أداء السنن ويأخذهم هذا الإعجاب إلى تصديق أنفسهم بأنهم على صواب مطلق، فيبادرون إلى توجيه الآخرين وفرض ما يتخيلون أنه صواب عليهم متذرعين بشكلية أن هذا هو الدين، وأنهم أدرى الناس به. ومن ذلك أنهم يتنافسون على رفع الأذان مع أن بالمسجد رجلا شغلته رفع الأذان في وقته. وياليتهم كانوا على حظ طيب من طراوة الصوت وندواته. فأصواتهم جهيرة زاعقة ومكبر الصوت كفيل بجعل الهمس جهرا ومع ذلك يرفعون عقيرتهم كأنهم يصرخون في واد، أو ينادون من لا يسمع. فلا خشوع ولا نطق سليم للكلمات ولا مراعاة لحقوق الوقف والوصل. ناهيك بالزي وسماحة الوجه ورقة المشاعر ورقي الذوق مع أن كثيرا من المصلين من ذوي الوفرة في المال والجاه.
واليوم كنت أصلي ركعتي عيد الأضحى ثم الاستماع إلى خطبة العيد. فذهبت مبكرا لأشارك في التهليل والتكبير وأعيد على مسامعي جمال هذه التكبيرات والصلوات على النبي الكريم. فكم من الأعياد التي حفظتها ذاكرتي، ارتبطت بجمال أصوات المكبرين، وبجمال جماعة المرددين. ويبدو أن ما أحن إليه أصبح من زمن الذكريات التي عبرت أفق خيالي عشت فيها بيقيني وهي قرب ووصال، ثم عاشت في ظنوني وهي وهم وخيال كما يقول أحمد رامي رحمه الله.
ولا أدري ما الذي جعل شجرة البرتقال تقفز إلى سطح الذاكرة وأنا في هذا الموقف وينشأ بينها وبين هذا الحدث رباط وجودي قائم على المفارقة التي تكشف عن جوهر الأشياء ومعادن الحقائق كما يقول بشار بن برد. فعندي شجرة البرتقال وهي شجرة وحيدة لا ثاني لها. حين جاءتني من مهدها الأول، قيل لي إنها شتلة من شجر المانجو الذي ينمو في فصل الخريف والشتاء، فاستقبلتها مبتهجا ولكنها ذبلت وأوشكت على الجفاف وأوحيت للعامل أن اجتثها وكفى ولكنه لم يفعل واكتفي بقص كل شيء فيها وترك منها مالا يزيد عن شبر فوق سطح الأرض، ولم أكترث لما فعل. وإذا بها تنمو وتورق وتعلو وتكبر، وإذا بها لا تكذب ولا تتجمل وتفصح عن حقيقتها ولا تخجل فهي شجرة البرتقال.
هذه الشجرة صابرة لا تتبرم من قدرها عندنا. فقد اعتقدنا أنها مانجو، وظننا بها ظن السوء فهممنا باجتثاثها، ولولا أنها أصرت على البقاء، ما بقيت. فهي عندنا مثل إخوة يوسف عدلوا عن قتله، فألقوه في غيابة الجب ليبرأوا من جريمة القتل، فإذا بيوسف لا يموت بالجب، ويمكن الله له في الأرض ويملأ الحياة جمالا وعلما وحنانا ورقيا وقوة وعزا ورحمة وغفرانا.
هذه الشجرة لا تخلف الميعاد. ففي وقت الإيراق تورق، وفي وقت الإزهار تزهر، وفي وقت الإثمار تثمر. وهي كريمة العطاء. فكل موسم لها عطاء أوفر واخضرار أجمل. وهي لا تعيد ما سبق بل هي سباقة بالجديد، وهي ذات مظهر لا يخفي سوء المخبر. فمظهرها ومخبرها سواء. لا تنافق ولا تكذب ولا تدعي ما ليس فيها. إن مرضت أعلنت، وإن صحت أبهجت. هي عندي مثل فصل الصيف صريح كاشف الوجه لا يخفي وراءه شيئا منذ أن تشرق الشمس إلى أن تغرب. ثمرات البرتقال التي تجود بها خضراء جميلة ملساء ولكنها لا تقول لك إنها الآن حلوة المذاق، ولاشهية الطعم. تدعوك إلى أن تتمهل وتصبر وتعمل وترعى هذه الثمرات حتى يلين جمودها ويرق ملمسها بعد أن يكبر حجمها وتقول لك إن جمال المظهر هو نفسه جمال المخبر. ولأنها لا تخلف الميعاد ففي وقت جنى الثمار تتدلى إلى أسفل وتدنو ويسهل قطافها.
هذه الشجرة قفزت إلى ذاكرتي وأنا أشهد صلاة العيد عيد الأضحى، وتكبير المكبرين وتهليل المهللين. قفزت لتنشأ المفارقة الساخرة بين الناس وهم في حال من التعبد يؤدونه أداء شكليا تغلب عليه مظاهر الطقوس والأشكال، وبين شجرة البرتقال التي جمعت بين جمال الشكل، وجمال القلب، ورسخت كل معاني الصدق والجد واحترام الوقت والصبر والأناة والتمهل، وهجرت كل معاني الزيف والكذب والتصنع والرياء. إننا في وقت عز فيه الوعي، وهبط فيه الذوق، وتبلد فيه الإحساس، وتساوت فيه الأشجار المثمرة بالأعشاب التي تدوسها الأقدام، فاختلطت القيم ولم يعد العلم شفيعا لصاحبه، ولا الذوق سبيلا للرقي ولا العقل معيارا فاصلا بين الغث والثمين. إنه زمن الاستهلاك والسيطرة على الجموع الحاشدة بمزيد من الزيف والبهتان.