حرف تواصل فتح القضية المثيرة للجدل
وقائع جديدة فى ملف اغتيال نجيب محفوظ بـ«الترجمة المشوهة»
- قولها «لا أترجم حرفيًا» تبرير مشوه لأن ما فعلته تدخل واضح وصل حد «التأليف»
- من الجمل التى حذفتها «إذ هو ينطلق فى تلك البقاع ملوحًا بِنبُّوته المخيف»
- هل هناك مدرسة من مدارس الترجمة تسمح للمترجم بإضافة واستقطاع فقرات كاملة؟
- المترجمة اليونانية أضافت جملًا كاملة لرواية «أولاد حارتنا» مثل «كان مستبدًا وطاغية»
- لم تكتفِ بالإضافة وأقدمت على حذف أسطر كاملة من الرواية الأصلية
يواصل الدكتور هشام محمد حسن، الأستاذ المساعد فى تخصص «فقه اللغة والأدب البيزنطى» بقسم «اللغويات التطبيقية» فى الجامعة الهيلّينية الأمريكية بالعاصمة اليونانية أثينا، كشف وقائع تشويه أعمال الأديب العالمى نجيب محفوظ، على يد مترجمة يونانية.
واختص الباحث والمترجم جريدة «حرف» بكشف هذه الوقائع، واستعرض فى العدد السابق من الجريدة كيف أضافت المترجمة اليونانية، بيرسا كوموتسى، إضافات غير موجودة فى النصوص الأصلية التى كتبها أديب نوبل إلى النسخ اليونانية المترجمة عن هذه الأعمال.
ونبه «حسن» فى العدد السابق إلى النصوص المضافة من عند المترجمة على روايتى «الحرافيش» و«ولاد حارتنا»، وقارنها بما هو موجود فى النصوص الأصلية، ويواصل فى هذا العدد ما كشفه فى الرواية الأخيرة، التى ترجمتها «كوموتسى» بعنوان «أولاد الجبلاوى».
المثال الأول
فى إطار نقدنا البنَّاء لترجمة رواية «أولاد حارتنا» إلى اليونانية الحديثة، بعنوان «أولاد الجبلاوى»، وقفنا على نفس الإشكالية التى تتبعها المُترجمة اليونانية، منذ بدأنا فى نقد ترجمة رواية «الحرافيش»، ألا وهى اتباع نفس المنهجية «المعيوبة» فى الترجمة.
وللتوضيح الكامل أرفق نص نجيب محفوظ من روايته المعنونة «أولاد حارتنا» باللغة العربية (ص: ١١)، وتقديم ترجمة بيرسا كوموتسى إلى اليونانية (ص: ١٤)، مع تقديم ترجمة إلى العربية لترجمة المترجمة اليونانية، كى يتمكن القارئ العربى من متابعة المنهجية التى اتبعتها السيدة «كوموتسى».
عند الوقوف على الترجمة نلاحظ أنَّ الجمل والعبارات التى باللون الأحمر لا تتفق مع نص «محفوظ» المُرفَق، بل نحنُ بصدد جملٍ غريبة مُقحمة على نص محفوظ مثل: «هذا الرجل المُرعب يتصرف بهذه الطريقة فقط عندما يتعذَّب عقله بأفكار خطيرة وجادة» و«[...] عدم قدرتهم على مواجهته بقوة وشجاعة. كان مُستبدًا وطاغية فى المنزل تمامًا كما كان فى صحرائه».
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا من أين أتت المترجمة اليونانية بهذه الجمل والعبارات، فى حين أن نص نجيب محفوظ لا يحوى هذه الصورة الأدبية، التى «ألفتها» المترجمة اليونانية وخلقتها فى ذهن القارئ اليونانى؟
المثال الثانى
مثال آخر صارخ أُقدّمه إلى القارئ العربى، من فقرة أخرى من النص العربى لرواية «أولاد حارتنا» (ص: ١٨)، وقفت فيه على نفس المنهجية العشوائية التى تتبعها المترجمة اليونانية، وحددتها بخطوط زرقاء، وهى إشكالية «حذف» أسطر بأكملها من النص الأصلى لـ«أديب نوبل».
وللتوضيح- كى نقطع الشك باليقين- أقدم الترجمة إلى العربية لذات الفقرة المُترجَمَة إلى اليونانية، وهنا حدّث ولا حَرَج.
حذفت المترجمة اليونانية جملة كاملة وهى: «إذ هو ينطلق فى تلك البقاع ملوحًا بِنبُّوته المخيف غازيًا كل موضع تطأه قدماه»، وحاولنا إيجاد تفسير منطقى لحذف هذه الجملة من الترجمة، ولم نجد ردًا منطقيًا يشفى ظمأ حيرتنا المتزايدة.
من النماذج التى تم تقديمها حتى الآن نجد أنفسنا واقفين مكتُوفى الأيدى أمام اتباع منهجية غريبة لا علاقة لها بمدارس الترجمة المتعارف عليها علميًا فى ترجمة رواية نجيب محفوظ إلى اليونانية على يد المترجمة، وهى التمتع بحرية كاملة فى «إضافة» جملٍ وأسطر من وحى خيالها فى متن الرواية نفسه، تاركةً الانطباع للقراء اليونانيين أنَّ ما يقرأوه هو كلام نجيب محفوظ نفسه، وفى الوقت نفسه «حذف» أسطرٍ وجملٍ كاملة من النص الأصلى.
وفى إطار رد المترجمة على ما نُشر حتى الآن من نقدٍ ترجمتها لروايتى «الحرافيش» و«أولاد حارتنا»، قالت إن: «الترجمة ليست مدرسة واحدة ولكنها مدارس». لكنها لم تُوضّح لنا ماهية مدرسة الترجمة التى اتبعتها أثناء ترجمتها أعمال نجيب محفوظ.
نجدها تتحدث فى المطلق عن مدارس الترجمة، وتستشهد بترجمات درينى خشبة، ولكنها نسيت أنْ تذكر أنَّ «خشبة» كان يكتب على غلاف ترجماته عبارة «ترجمة بتصرف»، وهو الأمر الذى لم نقابله فى ترجمات «كوموتسى» لأعمال نجيب محفوظ إلى اليونانية.
وبدورى أطرح سؤالًا ريطوريقيًا، هل هناك مدرسة من مدارس الترجمة التى تزعم السيدة المُترجمَة بوجودها تسمح للمترجم أن يستقطع من النص الأصلى فقرات وجملًا وأسطر، دون توضيح سبب هذه الاقتطاع والاستقطاع؟!
على المستوى العلمى والأكاديمى لم أطلع حتى تاريخه على مدرسة من مدارس الترجمة تُعطى الحق للمترجم/المترجمة فى مثل هذا التدخل الفج، الذى نراه فى ترجمات نجيب محفوظ إلى اليونانية.
فأى تدخُّل فى النص يتم وفقًا لمعايير علمية مُحددة، وهى وضع علامات ترقيم وتنصيص، أو تقديم شروحات فى الهوامش، يشرح فيها المترجم سبب تدخُّله فى النص الذى هو بصدد ترجمته.
لكن المترجمة اليونانية، وبكل أريحية، تحاول تبرير «تشويه» نصوص «محفوظ»، قائلةً إنَّها لم تترجمها «حرفيًا». مَن هنا تحدث عن «ترجمة حرفية» و«ترجمة كلمة بكلمة»؟ شتَّان بين الترجمة الحرفية، وما أقدمت عليه «كوموتسى» من تدخُّل فى نصوص نجيب محفوظ، إمَّا عن طريق التأليف المُباشر، معتبرةً نفسها «مؤلفة» أو (co-author) مع نجيب محفوظ نفسه، أو عن طريق حذف جملٍ وعباراتٍ لا يشوبها أى عيب ولا تخرج عن إطار الأدب واللباقة.
كما تطرقت المترجمة إلى أنها «استخدمت أدواتها الخاصة» فى الترجمة، لكنها لم تذكر ما هى تلك «الأدوات الخاصة» التى تمسح لها بتشويه النص الأصلى.
وتزيدنا المترجمة اليونانية من الشعر بيتًا، محاولةً تبرير تشويه أعمال نجيب محفوظ، بالقول إنها عكفت على ترجمة «الحرافيش» مدة عامين، حتى خرجت إلى الضوء فى عام ١٩٩٦، كى تُدرك وتفهم الحيثيات الثقافية للعمل الأدبى.
وهنا اسمحوا لى أنْ أوضح أنَّ «كوموتسى» لم تتمكن من فهم الحيثيات الثقافية التى استغرقت منها عامين، وهناك أدلة واضحة وضوح الشمس، تطرقتُ إليها فى العدد السابق من «حرف»، وهى كالتالى:
المثال الثالث
فى ملحمة «الحرافيش» (ص: ٨٩) النص العربى لنجيب محفوظ يقول: «أين الشاب العجيب البالغ الستين من عمره؟ القوى النشيط الفاحم الشعر؟ هل غلبه النوم فى سهرته الليلية أمام التّكِيَّة؟».
لكن السيدة «كوموتسى» ترجمت كلمة «التكية» إلى كلمة (Asylum-Άσυλο)، وهى ترجمة غريبة جدًا فى النص اليونانى المُترجَم، لأنها تعنى «الملاذ والملجأ»، على الرغم من أن كلمة «التكية» نفسها تُستخدم فى اليونانية الحديثة (tekes-τεκές) بنفس معناها فى اللغة العربية.
وكلمة «التكية»- كما هو معرف للجميع- أصلها تركى، وتغلغلت فى الثقافتين المصرية واليونانية على حد سواء، نظرًا لخضوع البلدين لحكم الإمبراطورية العثمانية لأكثر من ٤ قرون.
المثال الرابع
وقفنا أيضًا عند إلصاق المترجمة اليونانية صفة «قِدّيس» أو «Agios» بـ«الحسين»، حفيد النبى محمد صلى الله عليه وسلم، حين ذكرت فى ترجمتها المُشَوَّهَة: «إلى قديسه المحبوب، الحسين».
هنا قد يقول البعض إنَّها ربما أرادت أنْ تصبغ «الحسين» بصبغة قُدسية، لكننى كمتخصص أجزم وأؤكد تمام التأكيد أنَّه شتان بين «القُدسِيّة» و«القِدّيس» فى اللغة اليونانية الحديثة.
فصفة «قديس» تحمل فى طياتها صبغة مسيحية كاملة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بسير القديسيين فى المسيحية. بيد أنَّه فى الإسلام لا كهانة ولا كهنوت فيه، مثلما أشرتُ باستفاضة فى المقالة التى نشرت فى العدد السابق من «حرف».
المثال الخامس
فى ترجمتها اليونانية لرواية «أولاد حارتنا» أو «أولاد الجبلاوى» (ص: ٢٣)، استعاضت «كوموتسى» عن كلمة «ناى» الموجودة فى نص «محفوظ» الأصلى بكلمة يونانية أخرى هى (Flogera-Φλογέρα)، على الرغم من وجود نفس التسمية «ناى» فى اللغة اليونانية الحديثة، وترددها بين ثنايا الأدب اليونانى الحديث (راجع رواية الأديب اليونانى الحديث أليكساندروس باباذيامنديس ووصفه للناى فى روايته المعنونة «الدرويش الفقير»).
غيض من فيض
هذه الأمثلة ليست إلاَّ غيض من فيض، ودليل واضح على أنَّ المُترجِمَة اليونانية اللبيبة لم تبذل مجهودًا فى إدراك المخزون الثقافى لفحوى الكلمات سالفة الذكر فى اللغة العربية من جهة، والثقافة اليونانية الحديثة التى هى بصدد الترجمة إليها من جهة أخرى.
كما تطرقت «كوموتسى» إلى أنَّ التدخلات التى تمت على ترجمتها حدثت نتيجة تدخل «المحرر». وهذا بهتان وكذب، أولًا: أين اسم «المُحرر» على أعمالها المُترجَمة؟!! لا يوجد ذكر لأى مُحرر يونانى أو عربى على ترجماتها كلها.
حتى إذا قبلنا بوجود محرر «مجهول الهوية» لأعمالها المُترجمة، فهل يحق للمُحرر هذا التدخل السافر على النص الأصلى؟! طبعًا لا. إنَّ دور المُحرر يقتصر على متابعة الصياغة اللغوية فى اللغة اليونانية فقط، وغير ذلك لا دور له على الإطلاق، إلا إذا كانت السيدة الفاضلة «كوموتسى» تدعو إلى دينٍ جديدٍ للمحررين الأدبيين!
وقد استشهدت المترجمة اليونانية باسم الدكتور محمد حمدى إبراهيم- رحمه الله- أستاذ الدراسات اليونانية القديمة فى كلية الآداب جامعة القاهرة، بأنَّه «أجرى فحصًا دقيقًا لترجماتها لمحفوظ بناءً على لغة المصدر (اللغة العربية) ولغة التقديم وصحة الترجمات». وأنا هنا أرى محاولة غير أخلاقية لتوريط اسم أستاذ كبيرٍ- توفاه الله- فى إطار دفاعها عما تم اقترافه من تشويه لنصوص «نجيب» الأصلية أثناء ترجماتها إلى اليونانية.
هى بذلك تمارس منهجية المغالطات المنطقية، فى ردها على نقد ترجماتها الذى قدمتُه بكل وضوح ومنهجية لا تحتمل القيل والقال. حتى تطرقها إلى أنَّ تدريس نصوصها المُترجَمَة إلى اللغة اليونانية يتم فى كليتى اللغات والترجمة وآداب الأزهر، هذا يعكس إشكالية كبيرة جدًا، تتعلق ومستوى القائمين على التدريس فى هذا القسم، خاصةً أن هناك قسمًا يونانيًا حديثًا فى آداب القاهرة لا يدرس أعمال «كوموتسى» المُترجمَة جملةً وتفصيلًا، بين المواد الدراسية المفروضة على طلاب القسم.
وأشارت المترجمة اليونانية إلى حبها الجم للكاتب نجيب محفوظ، وأنها كتبت رواية بعنوان «نزهة مع نجيب محفوظ فى شوارع القاهرة»، لكنها لم تذكر المعلومة كاملةً، وهى أنَّ هذه الرواية نشرتها «كوموتسى» باللغة اليونانية كـ«مؤلفةٍ» وليست كـ«مترجِمَةٍ»؛ وصدرت عن دار نشر «بسيخويوس» فى عام ٢٠١٤، وهى نفس دار النشر التى تتعاون معها «كوموتسى» وأصدرت ترجماتها لـ«نجيب محفوظ» إلى اليونانية.
وتُرجمت هذه الرواية من اليونانية إلى العربية على يد المترجم خالد رءوف.
ونجدها فى «ردّها» تحيد عن موضوع ترجمات «محفوظ» إلى اليونانية، الذى نحن بصدده، وتستشهد بأعمال أخرى تبدو فيها «مؤلفة» وليست «مُترجِمَة»؛ بيد أنَّ موضوعنا هنا هو نقد ترجمات «محفوظ» إلى اليونانية، ولسنا بصدد مناقشة الإنتاج الأدبى للسيدة «كوموتسى».
أخيرًا وليس آخرًا، الإشكالية الحقيقية فى ترجمات السيدة بيرسا كوموتسى أعمال نجيب محفوظ إلى اليونانية لها بُعد خطير جدًا، يتمثل فى احتمالية الرجوع لهذه الترجمات، والاعتماد عليها كمراجع أساسية عند إعداد أبحاث علمية وأكاديمية فى الجامعات اليونانية تتعلق بالأدب العربى والمصرى بين الدارسين اليونانيين.
هذا بلا منازع- إذا حدث- سيخلق جيلًا مشوهًا من المهتمين بالأدب العربى والمصرى فى اليونان، نظرًا للإدراك المبتور للنصوص، الذى تسببت فيه تلك الترجمات، فى إطار الاعتماد على هذه الترجمات فى دراسة أدب نجيب محفوظ بشكل ممنهج وفى إطار علمى أكاديمى.