إسلام الشارع.. كيف تعامل الروائيون العرب مع التراث؟
- انسلاخ خطابات المثقفين عن الجماهير وانسياقها خلف أطروحات استعمارية واستشراقية
- الروايات العربية مالت إلى إنكار التراث والخلط بين مقاصد الدين وسوء استعماله
- الأعمال الأدبية أسست لثنائية الحداثة مقابل الإيمان التقليدى فى تبعية للخطاب التنويرى الأوروبى
تمخض لقاء الشرق المتأخر بالغرب المتقدم منذ أواخر القرن الثامن عشر عن صدمة حضارية جعلت الخطاب الفكرى العربى إزاء الحداثة المنشودة متوزعًا بين مسارين؛ الأول هو مسار المصلحين المسلمين، الممثلين برفاعة الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى، والثانى هو المسار الذى انحاز أصحابه للمبادئ والقيم الأوروبية، وظل الاشتباك والتنافر بين الفريقين على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين قائمًا ليرسم حالة الفكر العربى الحديث.
لم يكن الأدب بعيدًا عن هذه الحالة من التنافر، فقد انشغل الأدباء العرب بموقع بلدانهم المتأخرة من العالم المتقدم، وقدموا عبر أعمالهم الإبداعية رؤيتهم لواقعهم بما يمثل قناعاتهم إزاء الموقف المتحتم اتخاذه، ومن ضمن المواقف الأساسية بهذا الصدد يبرز الدين الإسلامى كما عكسته الأعمال الروائية، وهذا ما يركز عليه الناقد العراقى محسن جاسم الموسوى فى كتابه «إسلام الشارع.. الدين فى الأدب العربى الحديث»، الصادر بترجمة عربية أنجزتها هاجر بن إدريس عن «مشروع كلمة للترجمة» بمركز أبوظبى، بالتعاون مع «المركز القومى للترجمة».
فى هذا الكتاب، الذى نُشر بالإنجليزية عام ٢٠٠٩، وفاز بجائزة choice، وهى مجلة الناشرين الأمريكيين التى تنتقى كتبًا متميزة فى الأسلوب والطرح والعرض، يقدم «الموسوى» قراءات وتحليلات لعدد من القصائد والنصوص السردية العربية تُظهر كيفية تعاطى النخبة العربية منذ ظهور خطاب النهضة مع شعارات العلم والتنمية والتطور والسعادة والحرية، بطريقة أدت إلى انسلاخ خطابهم عن الجماهير وانسياقه خلف أطروحات استعمارية واستشراقية دون قدر من التأنى.
يتميز كتاب الموسوى بابتعاده عن النقد التطبيقى الجامد الذى يتعامل بآلية مع النص الأدبى وفق مناهج جاهزة، إذ يتجول أستاذ الدراسات العربية والمقارنة فى جامعة كولومبيا بسلاسة ما بين أعمال أدبية لكتّاب عرب من الثلاثينيات وحتى التسعينيات من القرن العشرين، راصدًا التغيرات التى حلّت على تعاطيهم مع الإسلام وفقًا للسياق السياسى والاجتماعى المهيمن بكل فترة، وكاشفًا عن الرؤى القاصرة التى وسمت بعض الخطابات الروائية مثلما وسمت من قبل الخطابات الفكرية.
ومع أن سلاسة التعاطى مع النصوص الأدبية قد أسفرت عن قراءات نقدية ثرية وكاشفة، فإنها كانت على قدر غير قليل من تكرار بعض الأفكار، والمرور السريع على أعمال روائية فى مقابل مقاربات كاملة تتجاوز موضوع الكتاب لأعمال روائية أخرى، ومع هذا، يظل الكتاب ثريًا بما قدمه من استبصارات تتجاوز الدرس الأدبى نحو قراءة فى الواقع الاجتماعى والثقافى بالقرن المنصرم.
النظرة الاستشراقية فى الرواية
ينطلق الكتاب من أن الإسلام ليس عقيدة متجانسة، لأنه وإن كان يضم معتقدات وممارسات مشتركة متجذرة ومسيطرة على الحياة العامة فهو متعدد يضم فرقًا وطوائف شتى، ومن ثم فإهمال جوانب الاختلاف المتعددة فى الخطاب الأدبى انسجم مع نظرة استشراقية شكّلت كيانًا متجانسًا اسمه الإسلام، فلم يظهر الإسلام فى الأعمال الأدبية حتى الستينيات من القرن الماضى باعتباره عنصرًا قويًا فى الوعى الجماعى، وظل حضور الدين باعتباره عزاء أمام الفساد والانحطاط ظاهرة قليلة الانتشار فى العالم العربى، فمالت الأعمال الروائية بتلك الفترة إلى إنكار التراث والخلط ما بين مقاصد الدين وسوء استعماله، وانقاد المثقفون إلى هذا الفهم رغبة منهم فى التخلى عن الإرث العثمانى واللحاق بركب الحضارة الأوروبية، غير أنهم سرعان ما وقعوا فى تخبط وخطاب نخبوى ينأى عن هموم مجتمعاتهم.
ومع هزيمة يونيو ١٩٦٧، مال موقف الروائيين العرب إلى ازدراء الدين، فاستحضروه بأعمالهم الروائية إما للحط من شأنه أو لإعلائه بطريقة لا تتماشى مع حقيقة وجوده فى حياة الناس وممارساتهم، كما برز الانفتاح على خطاب التصوف باعتباره وسيلة لتخليص الروح من أغلال البيروقراطية وقيودها.
يرى «الموسوى» أنه منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى الستينيات اعتمد الأدب العربى على رؤية علمانية تنتقد نقدًا صريحًا كل من يتخذ مواقف مغايرة إزاء الدين، ويؤسس لثنائية الحداثة مقابل الإيمان التقليدى بما يشى بتبعية خطابهم للخطاب التنويرى الأوروبى. ويستدل المؤلف على هذه الفكرة بالنظر إلى نهاية رواية يحيى حقى «قنديل أم هاشم» التى وإن اختارت نهاية استرضائية فإنها اعتبرتها تعبيرًا عن موقف خاطئ.
يعتبر الكاتب أن رواية «قنديل أم هاشم» على وجه الخصوص صوّرت تخبط المثقفين بين إنجازات الثقافة الغربية والخلفية العربية الإسلامية التقليدية التى ينتمون إليها، فيقول: «الرواية لا تظهر اهتمامًا حقيقيًا بالتقاليد ولا حتى بالفضاء كما يعيشه المصريون فعلًا، بل تنزلق فى مأزق جيل من الكتاب خلطوا بين التنشئة العائلية والقيود المجتمعية من جهة، وبين الإسلام فضاء يمثل جملة من الرموز والممارسات والجذور الطبقية من جهة أخرى، وهو خلط يعتمد على نموذج التفرع الثنائى للشرق والغرب»، ومن ثم فإن الرواية قد صورت التراث بطريقة اختزالية خلطت بين الممارسات الشعبية والتراث العربى الإسلامى برمته، وانحازت إلى الخطاب الاستعمارى المبنى على أن معضلة المجتمعات العربية مصدرها الإسلام. هذا الموقف الذى يعلّق عليه «الموسوى» بقوله: النخبة الثقافية التى تنازلت عن الهوية الوطنية من خلال انسياقها خلف النموذج الغربى للعلوم والتطور قد أعادت مثل تلك الانتقادات دون وقفة تأمل.
الحداثة والإسلام
يرصد المؤلف الكيفية التى عبّرت بها بعض أعمال نجيب محفوظ عن إشكالية الحداثة والإسلام، فيشير إلى أن أعمال محفوظ ما قبل الستينيات كانت قد انخرطت فى الموقف السابق تبيانه من الدين، ولكن أعماله المتأخرة شهدت اختلافًا، ففى روايته «ليالى ألف ليلة»، ١٩٧٩، يظهر إيمان محفوظ بقوة الشارع باعتباره مصدرًا لا ضرر فيه، وأن الإسلام يستمد قوته من الشارع، فيقول: الرواية سرد استثنائى يركز فيه محفوظ على إسلام الشارع، ويبرز التصوف فى الرواية باعتباره قوة ناعمة تلغلغت فى المجتمع عن طريق المريدين فى شكل لغة تشغل فضاء يتكون من رموز وطقوس تغير المتلقى وتشكله وبالتالى تحدث تغييرًا فى السلطة السيادية.
وفى تحليله لرواية «رحلة ابن فطومة»، ١٩٨٣، يعتبر المؤلف أن الرواية تلخص مسيرة من الحيرة التى لم تجد ما تبحث عنه من اطمئنان ويقين فى الحداثة أو فى الإسلام المسيس أو الإسلام تحت وصاية المؤسسات، علاوة على أنها مثلت وسيلة لانتقاد السلطة بالنظر فى انعدام الكفاءة فى ديار الإسلام، بسبب سوء تصرف الحاكم والسلطات، ويظهر فى الرواية أن محفوظ لا يلقى اللوم على الإسلام ورسالته بل ينتقد الحكام بصورة أساسية.
وفى دراسته للسيرة الذاتية لطه حسين «الأيام» يلفت المؤلف إلى أنها ليست إلا رحلة من خطاب دينى مهترئ تحت وطء العادات والتقاليد البالية إلى خطاب مغاير يجمع بين الحداثيين المصريين والمفكرين والفلاسفة الفرنسيين والزعماء العلمانيين ومشاهير المستشرقين.
ويحضر الخطاب العلمانى بقوة فى قصص قصيرة يذكرها المؤلف بكتابه، إذ يشير إلى أن كلًا من يوسف إدريس فى قصته القصيرة «لغة الآى آى»، وفؤاد التكرلى فى قصصه القصيرة وفى روايته «الرجع البعيد»، يركزان على مسألة الاختيار المنعتق من الواجبات الاجتماعية والهوس الأخلاقى، ويصوران عالمًا يعتمد على الاختيار العلمانى ولا مكان للدين فيه.
لا تقتصر الملاحظات التى يصل إليها «الموسوى» فى كتابه على دراسته للخطاب الفكرى بالأعمال الأدبية، بل إنه يقدم ملاحظاته حول اللغة التى نأت عن الإحالات الدينية والمحسنات البديعية فى لغة القرآن لتشكل خطابًا علمانيًا يدفع الخطاب الدينى على المستوى البلاغى والمعجمى بعيدًا منذ الأربعينيات، إذ يخلص المؤلف إلى أن الرواية العربية اعتمدت على لغة ذات طابع رسمى تم تعميمها من خلال سياسة تعليمية وإعلامية استمرت حتى الاحتلال الأمريكى للعراق سنة ٢٠٠٣، واعتمدت خطابًا رسميًا استمد شرعيته من تطلعات الدولة الوطنية للإصلاح، كما غاب بها أى دعم للقيم الإسلامية ليصير المثقفون فى قطيعة مع رؤى المتدينين ممن عاصروهم.
ويوضح فكرته تلك بقوله: لجأت الدولة الوطنية إلى فهم مجزأ للتاريخ لا يهتم إلا لمامًا ببعده الدينى، فكانت كتابات النخبة عن المواضيع الإسلامية جزءًا من استراتيجية التقنين والتطبيع. وانتزعت العلامات الدينية من اللغة نفسها التى أصبحت أداة قومية جعلت من الإسلام والتاريخ مجرد هوية ثقافية تقوم على قومية تتفاعل مع قوميات أخرى.
الموضوعات الإسلامية والمصلحة السائدة
فى الوقت الذى كشف فيه الكتاب عن تأثير خطاب النهضة على النتاج الأدبى بما جعل حضور الإسلام بالأعمال الأدبية بعيدًا عن اعتباره قوة ثقافية، فتم إغفال ذكر الإسلام أو خلط بالتقاليد أو الخرافات مثلما نجد فى رواية «قنديل أم هاشم»، أو حضر من خلال السخرية من رجال الدين مثلما نجد فى أعمال مثل «بركة» للكاتب العراقى جعفر الخليلى، ورواية «دكتور إبراهيم» للكاتب ذو النون أيوب- فإن نماذج أخرى أعادت كتابة القصص القرآنية بعد تجريدها من الحضور الإلهى مثل مسرحية «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم، غير أن شكلًا آخر من الاستحضار يقف عنده المؤلف وقفة كاشفة. يتعلق هذا الشكل بميل بعض الكتّاب إلى إدراج موضوعات إسلامية فى سياق فكر متناغم مع المصلحة السائدة، والمثال الذى يستحضره بهذا الصدد هو كتابات عبدالرحمن الشرقاوى، والتى يرى أنها جاءت فى إطار السعى للتكيف مع نزعة جديدة لإعادة تقويم التراث.
يقف المؤلف عند رواية جاءت بمرحلة متأخرة مقارنة بالأعمال الأخرى، وهى «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسوانى، ليرصد كيف استحضر الكاتب اللغة القرآنية بكامل رمزيتها ليبرز أساليب التلاعب المختلفة بها، ويرى «الموسوى» أن هذه الرواية يمكن اعتبارها نقدًا للنهضة، وما آلت إليه الدولة آنذاك من وضع شاذ سيؤدى إلى اندفاع نحو الحركات الإسلامية.
يمكن القول إنه على الرغم من الصورة البانورامية التى حرص المؤلف على أن يقدمها للأدب العربى على مدار ما يقرب من سبعة عقود، فلا تزال المنطقة التى طرقها «الموسوى» فى كتابه بحاجة إلى مزيد من الدراسات، سواء فى العقود التى تطرق إليها المؤلف والتى تمتد من الثلاثينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضى والتى شهدت تحولات عظمى من الصعب أن تستوعبها دراسة واحدة، أو فى العقود التالية التى يمكن أن تكشف عن مستويات مغايرة من التعاطى مع الإسلام فى الأعمال الأدبية، لا سيما مع تنامى تهديدات الإسلام السياسى وتعاظم مخاطره بالعقود الأخيرة. وفى كل الأحوال يقدم الكتاب فرصة لإعادة النظر فى الخطاب الثقافى العربى وعلاته من منظور الأدب المهموم بالواقع العربى.