حوار عمره 14 عامًا.. أحزان الدكتورة ابتهال المتجددة
- بعد موته وجدت أننى يجب أن أعيش وهناك مبرر واحد ووحيد لذلك وهو أن أحافظ على اسمه
- وقفت إلى جوار نصر أبوزيد فى محنة تكفيره ومصادرة حريته التى قادها الظلاميون بلا رحمة
صباح 5 يوليو 2024، نشرت الدكتورة ابتهال يونس صورة للدكتور نصر حامد أبوزيد على حسابها بـ«فيسبوك»، لم تعلق على الصورة بشىء، لم تكتب جملة واحدة، لم تحاول أن تضع ما تريده فى إطار جامد تحكمه الكلمات، اكتفت بالصمت الذى هو أبلغ من أى كلام.. أدركت أن أحزانها لا تزال حية على زوجها، الذى قُتل معنويًا قبل أن يموت بشكل مريب ومراوغ.
هذا نص حوار أجريته مع الدكتورة ابتهال يونس بعد أيام قليلة من وفاة نصر، وأعتقد أن حالتها التى وجدتها عليها لا تزال تلازمها حتى الآن.
ظل الدكتور نصر حامد أبوزيد هو بطل القصة وحده، يتصدر الصورة بمفرده، فهو المفكر الكبير الذى اضطهده خصومه، وخططوا مع سبق الإصرار والترصد لإبعاده عن تلاميذه ومحبيه، جرجروه عنوة إلى المحكمة، نجحوا فى استصدار حكم بتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس رفيقة حياته ونضاله وكفاحه، رفضت حكم المحكمة، وضعت كل خصوم زوجها تحت حذائها وخرجت معه، إلى أرض أرحب وأفسح، تتنفس معه نسيم الحرية بعيدًا عن المطاردة والتربص.
الآن مات نصر أبوزيد، كل الناس اعترفوا بذلك، إلا هى، عندما جلست إليها فى فيلتها بالشيخ زايد، قالت لى: أنا لا أصدق أن نصر مات، لقد دفنته بيدى، لكن قلبى لا يريد أن يعترف بأنه غاب، كثيرون من أصدقائنا يقولون إننى سأنهار فقط عندما أسافر إلى هولندا ولا أجده ينتظرنى هناك، وأنا أعتقد ذلك، فلا أتصور أن أهبط إلى المطار ولا أجده فى انتظارى كما كان يفعل دائمًا.
لا يمكن أن تتصور أن هذه السيدة التى أرهقها الزمن، هى القوية العنيدة التى وقفت إلى جوار نصر أبوزيد فى محنة تكفيره ومصادرة حريته، التى قادها الظلاميون بلا رحمة، لكن نصر كان يعرف، كان يقول لها إنها البطلة الحقيقية فى الحكاية كلها، كانت هى أيضًا مستهدفة فى المعركة، لكنها ألقت الدنيا كلها خلف ظهرها، تركت عملها وأبحاثها وتلاميذها وجامعتها، وذهبت خلفه، لأنها كانت تعرف أن نصر أبقى لها من كل شىء.
فى جلساتهما التى كانت تطول فى هولندا، قالت له مرة: أنا وأنت لازم نموت مع بعض يا نصر، عشان مفيش حد فينا يتعذب بموت التانى قبله، كان يتهمنى بالأنانية، لكنه لا يعرف الآن كم أتعذب فى الحياة بدونه، فقد كان نصر كل شىء، لكن بعد موته وجدت أننى يجب أن أعيش، وهناك مبرر واحد ووحيد لذلك، وهو أن أحافظ على اسمه وأخلد أعماله وأفكاره ومشروعه.
سألتها بشكل مباشر: عاملة إيه من غيره فى الدنيا؟
قالت دون أن تمنح نفسها فرصة للتفكير، فالحالة كانت حاضرة: مفيش دنيا أصلًا من غيره، أنا حتى الآن لا أستخدم الماضى فى الكلام عن نصر، لم أضبط نفسى أبدًا أقول: كان، وأنا أتحدث عنه، إننى أتخيل أننى سأجده جالسًا على مكتبه يقرأ أو يكتب، من الصعب جدًا أن أتخيل أن نصر مات، ناس كتير ممكن يكونوا شايفين إنى مجرد زوجة فقدت زوجها، ومع الأيام ستنسى، لكن هؤلاء لا يعرفون أن ما بينى وبين نصر أكثر من زواج وقصة حب، ما بينى وبين نصر، من الصعب أن يفهمه أحد.. أى أحد.
لم يعش الدكتور نصر أبوزيد فى فيلا الشيخ زايد إلا شهرين فقط فى الشتاء الماضى، كان قد أنهى عمله فى جامعة القاهرة عند سن ستين سنة، وفى الجامعة الهولندية عند الـ٦٥، وقتها كان سعيدًا جدًا، فقد جاء الوقت الذى يتفرغ فيه لبحوثه ومشروعه الفكرى، وكان يريد أن يستقر فى القاهرة، لكن الأقدار لم تمنحه الفرصة ليستمتع ببيته الهادئ.
وعلى عكس ما كان يتصور الكثيرون، لم يكن الدكتور نصر أبوزيد ممنوعًا من دخول مصر، حتى الحكم القضائى بالتفريق بينه وبين زوجته كان قد تم إيقافه بعد تقديم استشكال فيه، لم يكن هناك لا قرار رسمى ولا غير رسمى بمنعه من دخول مصر، لكنه هو الذى خرج، كما تقول الدكتورة ابتهال: كان نصر يشعر بجرح غائر مما تعرضنا له، وكان أكثر ما جرحه هو إبعاده المتعمد عن تلاميذه، الذين التفوا حوله ولم يتركوه، لكن يبدو أن هناك من شعر بأن نصر يصنع تيارًا فكريًا فى الجامعة فقرروا إيقافه، ولم يكن أمامهم حل إلا أن يبعدوه، ليس عن الجامعة فقط، ولكن عن مصر كلها.
فى السنوات الأخيرة كان نصر أبوزيد يتردد على القاهرة، بل استضافه التليفزيون المصرى، واستضافته بعض القنوات الخاصة، فى إشارة إلى أنه مرحب به، لكنه لم يستقر فى مصر، كانت هناك مشروعات علمية وبحوث عليه أن ينتهى منها أولًا.
أخذت الدكتورة ابتهال إلى مسافة زمنية أعرف أنها تؤلمها كثيرًا، لكن كان لا بد أن ندخلها، وهى المسافة الأخيرة التى أوصلت نصر إلى الموت، هى تعرف حقيقة ما جرى، لأنها كانت إلى جواره وحدها، لقد ظلم نصر حيًا، وظلم ميتًا أيضًا، عندما خاض البعض فى سيرته، واعتبروا أن إصابته بفيروس- قالوا إنه غامض- انتقام من الله.
تقول الدكتورة ابتهال: نصر كان فى إندونيسيا بمناسبة سيمنار تعقده جمعية نهضة العلماء، وهى جمعية أسسها جد عبدالرحمن واحد، الذى كان رئيسًا لإندونيسيا، وهى جمعية تهدف إلى نشر الفكر الإسلامى المستنير فى العالم الإسلامى والغربى على السواء، بعد أن وجدت أن الغرب أصيب بما يسمى الإسلاموفوبيا، وتحديدًا بعد أحداث ١١ سبتمبر، أرادت الجمعية أن تعطى صورة مستنيرة وتدافع عن الإسلام.
لم تكن زيارة نصر الأخيرة لإندونيسيا هى زيارته الأولى، بل كانت الزيارة السادسة، وكان من المفروض أن يقضى هناك شهرين، ذهب من هولندا إلى إندونيسيا، وكان من المفروض أن يعود إلى هولندا مرة أخرى، وكان من المفروض أن أسافر له بعدها بثلاثة أيام، لكن حدث ما لم يكن يتوقعه نصر، وما لم أكن أتمناه أنا.. فقد مرض.
كانت هناك عادة يومية بين نصر والدكتورة ابتهال، وهى أن يتبادلا الاتصالات التليفونية أكثر من مرة يوميًا، حتى لو كان كل واحد منهما فى دولة مختلفة، تقول: وهو يكلمنى من إندونيسيا بدأت ألاحظ أن صوته متغير، كنت أساله: فيه إيه، فيقول لى: أبدًا ولا حاجة، سألت من كانوا معه، وكان من بينهم الدكتور على مبروك، فقال لى: لا داعى للقلق.. ممكن يكون نصر مرهق فقط من كثرة العمل.
ظل صوت نصر الواهن حوالى أسبوعين، يحاول أن يخفف عن ابتهال الإحساس بالقلق عليه، حتى بدأ يحدث تدهور فيزيقى فى جسده، وهو ما فهمته الدكتورة من نبرات صوته التى بدأت تتغير تمامًا، لم يعرض نصر نفسه على دكتور فى إندونيسيا، وعندما وجدت ابتهال أنه لا فائدة، قالت لمن يرافقونه: هاتوا نصر مصر فورًا.. أنا قلقانة عليه.
خوف الدكتورة ابتهال على نصر كان دائمًا ومتصلًا، كانت تطلب منه أن يجرى فحوصات طبية كل ستة أشهر حتى يطمئن على صحته، لم تكن تترك أى شىء للمصادفة، كانت تعتنى بصحته جدًا، لأنها كانت تخاف عليه جدًا، قالت لى: لقد كان هذا طبيعيًا لأى حد فى ظروفنا.
قلت لها تقصدين: ظروف عدم الإنجاب؟
قالت: آه
ثم بدأت تحكى: كانت لى صديقة لم تنجب، وفجأة مات زوجها، لأنها كانت شديدة الارتباط به، كانت تشعر بالرعب وهى بمفردها، تلبستنى هذه الحالة، وفى يوم كنا نايمين، وكان من عادتى أن أراقب حركة تنفس نصر وهو نائم حتى أطمئن عليه، وفجأة تأخر نفسه قليلًا، ودون أن أشعر وجدت نفسى أهز جسمه بعنف، وبهدوء شديد قال لى: لا كانت فلانة تقدر تنقذ فلان بالطريقة دى وهو ميت، ولا أنت تقدرى تنقذينى بالطريقة دى لو حصل لى حاجة.
لم يكن الموت هاجسًا من بين هواجس نصر حامد أبوزيد فى سنواته الأخيرة، كان هاجسه فقط عندما كان فى الأربعينيات من عمره، والسبب عائلى، فقد مات والداه بمرض القلب، وماتت شقيقته الكبرى بنفس المرض، وكان يخشى أن يموت هو أيضًا بالقلب، لكن عندما تخطى الأربعين من عمره، لم يكن الموت يشكل له أى هاجس.
لم يأت الموت لنصر أبوزيد من القلب، لكنه أحاط به لأسباب أخرى.
الدكتورة ابتهال لا تزال تحكى.
تقول: هبط نصر بمطار القاهرة فأخذته على مستشفى الشيخ زايد مباشرة، لم يدخل بيته، كان فيه فريق طبى كامل فى انتظاره، طلبت منهم فحصًا شاملًا، وخلال ساعتين فقط تم الفحص، وتم التشخيص على أنه فيروس يصيب غشاء المخ، وهو نفس الفيروس الذى أصيب به الفنان طلعت زكريا، لكن ربنا عافاه منه.
بدأ الأطباء فى العلاج من أول يوم، كان هناك تدهور جسمانى ملحوظ، لكن نصر لم يفقد الذاكرة إطلاقًا، تعرف على الجميع وكان وعيه معقولًا، لقد كان الخطأ أنه ظل أسبوعين أو عشرة أيام فى إندونيسيا وهو مريض دون أن يتلقى علاجًا، وبدأ الوعى يتدهور، نقله الأطباء إلى العناية المركزة بعد حوالى ١٢ يومًا، وكانت حجتهم فى ذلك أن مساحة الوعى بدأت تقل، وأنه كان يأكل، ويمكن أن يفقد الوعى وهو يأكل فيختنق، فنزل إلى العناية المركزة.
لا يمكن أن نعتبر ما جرى إلا جزءًا من ملحمة.
وقفت ابتهال يونس إلى جوار نصر أبوزيد، وكأنها إيزيس التى جمعت أشلاء أوزيريس، أو أنها ناعسة المصرية التى صبرت على أوجاع أيوب.
تقول: فقد نصر الوعى لمدة عشرة أيام تمامًا، لكن الغريب أنه كان يستجيب لصوتى فقط، منع الأطباء الزيارة عنه تمامًا، لكنهم سمحوا لى أن أذهب إليه ثلاث مرات فى اليوم، كنت أنادى عليه فيفتح عينيه وينظر تجاهى.. ونتبادل كل الكلام من خلال نظراتنا الصامتة.
بدأ نصر أبوزيد فى التحسن، وبدأت الدكتورة ابتهال يونس فى إجراء اتصالات مع الأطباء فى هولندا، اتصلت بأكبر مركز لعلاج الفيروسات فى فرنسا، وكانت الإجابة لدى الجميع، أنه لا يمكن نقله وهو فاقد الوعى، ولا يمكن تأمين العواقب حتى لو انتقل على طائرة طبية، كان القرار أنه عندما يسترد وعيه يمكن أن يسافر، اطمأنت الدكتورة ابتهال عندما قال الأطباء فى هولندا وفرنسا بعد أن اطلعوا على التقارير الطبية التى أعدها مستشفى الشيخ زايد أن التشخيص سليم، وأنه لا يمكن عمل أى شىء أكثر مما يحدث فى مصر خلال هذه الفترة.
كان الأطباء يحاصرون الفيروس الذى أصيب به نصر، لكن الموت قرر أن يأتيه من مكان آخر، تقول الدكتورة ابتهال: كانت لدى نصر حساسية فى صدره، ونتيجة لوجوده فى العناية المركزة، وبسبب الخراطيم وخلافه، حدثت التهابات كثيرة فى صدره، ما أدى إلى وفاته، فالفيروس لم يقتل نصر، لكن قتلته الحساسية القديمة التى كان يعانى منها.
ظلت الدكتورة ابتهال قابضة على الجمر، لم تخبر أحدًا بمرض زوجها إلا بعد أسبوعين، عندما رأت أن الحالة خطيرة، لقد حملته وحدها إلى مستشفى زايد، كما حملته وحدها طوال حياته، وكانت قد انتهت الأموال التى معها، كانت رافضة تمامًا أن يعالج نصر على نفقة الدولة أو نفقة أى جهة أخرى، فهناك ملايين الفقراء الذين يستحقون هذا العلاج، لكنها اضطرت فى النهاية وبعد نصائح من الأصدقاء واتصال مباشر من رئيس جامعة القاهرة الدكتور حسام كامل، أن تلجأ إلى الجامعة، لكن تصاريف القدر كانت غريبة، أو أنها أرادت ألا يمد نصر يده لأحد أبدًا، لا وهو حى، ولا وهو ميت.
كان من المفروض أن تذهب الدكتورة ابتهال لتتسلم قرار علاج الدكتور نصر على نفقة جامعة القاهرة الساعة ١٢ ظهرًا يوم ٥ يوليو ٢٠١٠، لكن الموت كان أسرع، فقد مات فجر اليوم نفسه الساعة الخامسة والنصف فجرًا.
قبل أن تمضى من المستشفى قالت للأطباء إنها تريد أن تبقى.
كانت تشعر بأنها الليلة الأخيرة له.
لكنهم طمأنوها.. فانصرفت.
إنها الآن حزينة لأنها صدقت الأطباء وكذبت قلبها، الذى لم يكذب عليها أبدًا فى أى أمر يخص نصر.