الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الروائية مى التلمسانى: غربتى تخبرنى أن روحى معلقة فى مصر

مى التلمسانى
مى التلمسانى

- أسعى حاليًا للانتهاء من رواية جديدة تدور أحداثها فى كندا

- فيلم «أكابيللا» لم ينجح جماهيريًا بعكس الرواية المأخوذ عنها

- كتاباتى ليست نسوية بل تنظر بالتساوى لرغبات الرجل والمرأة

- الغربة حصاد ملتبس تحفّه مشاعر غامضة كثيرة ومعقدة

- «الكل يقول أحبك» كاشفة لزيف المشاعر وللخيانة بكل أشكالها

لا تحب مى التلمسانى الصخب، فالهدوء هو الطابع الرئيسى الذى يسيطر على كتابتها، وربما على طبيعتها الإنسانية أيضًا وعلى تعاملاتها فى الحياة، وربما يكون ذلك الهدوء واحدًا من آثار غربتها الطويلة التى امتدت لعقود خارج مصر.

لكن تلك الغربة لم تحوّل كتاباتها إلى سرادقات للحزن والمشاعر القاسية، بل صنعت هى من الغربة عوالم جميلة تنبض بالحياة والأمل فى المستقبل، وحاولت من خلالها تغذية الذاكرة الإنسانية بالماضى لنستمد منه العبرة والطاقة فى واقعنا المعاش.

واحتفلت الكاتبة الكبيرة مؤخرًا بصدور روايتيها «الكل يقول أحبك»، و«صدى يوم أخير» التى كتبتها رفقة الأديب الراحل إدوار الخراط، حيث يعد العملان امتدادًا لسلسلة من الأعمال الروائية الشيقة التى أصدرتها، والمتنوعة فى أساليب الكتابة والرؤى الفكرية التى تحملها.

فى حوارها مع «حرف» تتحدث مى التلمسانى عن دوافع كتابتها هذين العملين، والأفكار التى ضمنتها فيهما، وعن رؤيتها للكتابة والسينما وذكرياتها مع الكاتب الكبير الراحل إدوار الخراط وغير ذلك من التفاصيل. 

إلى نص الحوار..

■ الغربة إحساس دائم يشعر به أبطال روايتك «الكل يقول أحبك»، مثل كمال المصرى ونورهان عبدالحميد وداينا سليمان وبسام الحايك.. ما دوافعك لكتابة هذا العمل؟

- بعد ما يزيد على عشرين عامًا من الهجرة، واتتنى الشجاعة أخيرًا للحديث عن تجربة المهاجرين العرب إلى كندا بصيغة روائية تخييلية، وقد سبق لى الحديث عن تجاربى الذاتية فى يوميات «للجنة سور» التى نشرت فى طبعتها الأولى عام ٢٠٠٩، وصدرت مؤخرًا فى طبعة جديدة عن دار دوّن، وكذا فى كتاب يوميات «طرق كثيرة للسفر» الصادر هذا العام عن الدار نفسها. 

وإشكاليات الغربة والاغتراب كانت تؤرقنى لزمن طويل، لكنى فى الرواية أعطيها منحنًى جديدًا، عن طريق التوغل فى مشاعر الحب عن بعد، سواء حب الأزواج أو حب الأوطان، من خلال علاقات الشخصيات الخمس الرئيسية التى ذكرتها.

الدافع الأول كان ذلك اللقاء الغرائبى فى قطار بين كمال وكريم، وهما مرآة لشخصية واحدة يفصل بينها عشرون عامًا، ثم تتوالى المرايا، حيث «نورهان» تعكس بشكل من الأشكال «داينا» على سبيل المثال، ليظل بسام الحايك وحيدًا متفردًا، يلملم بقايا الحكايات ويعيد تشكيل العالم وفقًا لقانون الحركة والتجاوز والعجز أيضًا.

■ هل تمثل الرواية إحدى محطات حياتك ومسيرتك مع الحياة والكتابة؟

- تمثل محطات كثيرة فى حياتى العملية تحديدًا، حيث أقترب قليلًا من عالم التدريس الجامعى، ومن عوالم المهاجرين البديلة، خاصة حين يصنعون لأنفسهم مساحات تلاقٍ، مثل محل الحلاقة، أو يكتفون بمساحات الترانزيت، حيث تجمعهم المصادفة فى قطار أو طائرة أو مطعم، إلخ. 

وقانون الحركة يحكم تلك العلاقات، وهو القانون الذى حكم تجربتى فى الغربة منذ ١٩٩٨ وحتى اليوم.

■ العمل يركز على الحب والغربة ويبحث فى جدوى الأشياء.. ألم تؤثر تلك المشاعر عليك خلال بناء الشخصيات؟

- لكل شخصية فى الرواية مشروع مستقل بذاته، ولكن الشخصيات لا تعنى بالضرورة أن اختلاف المشروع هو العائق الأول أمام التقاء الأزواج، وهو الدافع أيضًا للهجرة والحنين للوطن الأول. 

الحب وحده لا يكفى، خاصة حين يكون مشروع الحياة مستقلًا عن مشروع الزواج، وغير قابل للتحقق فى الوطن الأم، لكن التشابهات الكثيرة بين مصائر الشخصيات تجعل بعضها فى حالة بحث دائم عن الخلاص أو انعتاق الروح، مثل بسام الحايك الذى لديه نزعة عدمية تقيه شرور العالم، وتجعله يغوص فى ذاته بحثًا عن لحظة الانعتاق تلك.

■ هل تعتبر الرواية مرثية ذاتية أم شبه سيرة؟

- يعجبنى التقاطك فكرة الرثاء فى الرواية، وأتفق معك على أنها مرثية لكندا أو للعرب الكنديين، لا أودع بها كندا لأن الرواية التى أعمل على الانتهاء منها حاليًا تدور أحداثها فى كندا أيضًا، لكنى أودع فى «الكل يقول أحبك» فكرة الحب ذاتها، وأفكارًا تخص الاستقرار والزواج والثقة فى الآخر القريب أو البعيد. 

هى رواية كاشفة أيضًا لزيف المشاعر وتوترها، وللخيانة سواء خيانة الزوج لزوجته أو خيانة الإنسان لنفسه، حين يتنازل عن أحلامه وأشواقه العميقة لمصلحة أفكار مزيفة عن الزواج والأسرة السعيدة والعمل والارتقاء الاجتماعى، إلخ.

■ بعد نحو ٢٥ عامًا من العيش فى الغرب.. ماذا حصدت من هذه الرحلة؟

- هو حصاد ملتبس تحفّه مشاعر غامضة كثيرة ومعقدة. من ناحية حققت بعملى الدءوب فى الجامعة قدرًا من الاستقرار المادى والمهنى لم يكن متاحًا لى فى القاهرة قبل الهجرة. 

ومن ناحية تفتح عقلى على كثير من الأفكار، ولا أقول الحقائق، لا عد لها ولا حصر، منها فكرة الحركة الدائمة وتجاوز الحدود ومساءلة الثوابت والاحتفاء بالتعددية الثقافية والفكرية. 

ومن ناحية ثالثة تأكد لى بما لا يدع مجالًا للشك أن روحى معلقة بمصر، وأنى مؤمنة بالحلم العربى ومناهضة لكل أشكال الفكر الفاشى، خاصة تلك التى يروج لها الغرب ويعادى باستخدامها شعوبنا العربية، وتلك التى يروج لها الإسلام السياسى فى بلادنا. 

وبقدر وضوح تلك المواقف فى ذهنى بقدر التباس وغموض مشاعرى الأعمق عن نفسى، مَن أنا حقًا؟، ومَن أنا فى علاقتى بالآخرين وفى علاقتى بالعالم؟، سؤال سيظل يؤرقنى للنهاية، وهو من منابع الكتابة الأولى عندى، لذا لا أتخلى عنه بسهولة.

■ فى ظل عصور الانحطاط والحروب عبر الهوية والديانات والأعراق.. كيف ترين مستقبل الفكر والفن والكتابة؟

- أعتقد أن ازدهار الفكر والفن والكتابة رهن عصور الانحطاط التى تشير إليها، فالمخرج المتاح للإنسان اليوم يمر بالضرورة عبر تلك الدروب، وكلها دروب تنفتح على أسئلة الحرية الشائكة، أسئلة التحرر من الهويات القاتلة، والمعتقدات المبنية على الإقصاء والتى تتعمد بناء عالم على أسس «هيراركية وتراتبية» بدلًا من خلق عالم مبنى على التجاور. 

لا أقول إن كل فكر وكل فن وكل كتابة يستحق الاحتفاء، لكن أعتقد أن الممارسة والإنتاج فى تلك المجالات فى ذاتها قادران على تجاوز السقوط المروع الذى تقف الإنسانية على حافته اليوم، ودعاوى الفاشية تعود بعد مئة عام من ازدهارها فى أوروبا لتسيطر على المشهد الإنسانى برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والخطر الذى يتهدد العالم اليوم هو خطر يستثمر قضايا الهوية لتدمير علاقة الإنسان المبنية على التجاور، لمصلحة النظم الفاشية المبنية على سيادة العرق الأبيض وسيطرة رأس المال العالمى، وهيمنة القلة القليلة التى تمتلك المال والسلاح على مقدرات العالم أجمع، بما فى ذلك على مقدرات شعوبها أنفسهم، من أمريكا إلى روسيا إلى الصين إلى فرنسا وإنجلترا. بعض ما سعيت لنقده فى كتب اليوميات وفى رواية «الكل يقول أحبك» هو تصاعد الفكر الفاشى فى القرن الواحد والعشرين.

■ كتابك الأخير «صدى يوم أخير» يحمل اسمك بجانب الأديب الكبير إدوار الخراط.. هل يعتبر العنوان مرثية للكاتب للراحل؟

- العنوان من اختيارى، وهو جملة وردت فيما كتبه «إدوار»، ولا أرثى «إدوار» نفسه لأنه حى بيننا بكتاباته الروائية والنقدية وبأفكاره وأعماله. ولا شك أن لصداقتى به أثرًا كبيرًا فى مشوار الكتابة بشكل عام، خاصة أننا التقينا منذ بدايات مشوارى، وهو أول من كتب عن كتابى الأول «نحت متكرر».

وتشجيعه وإنصاته ولقاءاتنا المتكررة لها أثر باقٍ فى روحى، رغم اختلافنا فى الكتابة وفى الأسلوب. فى مقدمة رواية «صدى يوم أخير» أفيض فى الحديث عن ماهية تلك الصداقة الروحية، والتقارب الأدبى، ربما جمعنا الشعور بجدية وقدسية العمل الإبداعى، كما جمعتنا محبة التجربة والمغامرة فى الكتابة، وربما أيضًا احتفاؤنا بالمنجز الغربى الفرانكوفونى فى الأدب، وكذلك تداخل الفنون والكتابة، كل هذه العناصر شكلت موضوعًا لأحاديثنا، ورسخت مشاعر الصداقة رغم ظروف الهجرة. 

■ نقرأ فى «صدى يوم أخير» عن ليلى الصحفية وإدريس الفنان البوهيمى.. هل العمل يمثل إدانة للمثقف الزائف؟

- هو إدانة مستترة وليست ظاهرة، وأنا وإدوار الخراط كتبنا العمل معًا ولكن فى صمت، أنا فى كندا وهو فى مصر، والوسيط بيننا الكتابة فى لندن. لذا لا أستطيع أن أتحدث باسم «إدوار» هنا، كل ما أستطيع قوله إننا لم نرغب فى إدانة الشخصية، فإدريس الفنان البوهيمى، كما تصفه، له مرجعيات كثيرة فى واقعنا المصرى والعربى، ولا شك التقى «إدوار» بهذا النموذج وسعى للكتابة عنه فى أعمال أخرى، لكن التفتيش فى ضمير الشخصية لم يكن هدفه الإدانة فى ذاتها، وهذا ما أدركته وحاولت تأكيده من خلال نظرة الشخصيات النسائية لـ«إدريس» فى الرواية. ثمة تعاطف مع محدودية الرغبة هنا، وبحث عن معنى العلاقة بين الرغبة والفن، وأثرها ليس فقط على حياة الشخصيات، بل وعلى سيرورة الإبداع وعلى المنتج الفنى النهائى. 

■ هل تصنف كتاباتك تحت عنوان «النسوية»؟

- أترك للنقاد مسئولية التصنيف والمقاربة مع النظريات النسوية. فى ظنى أن ما أكتب يتماس مع بعضه، خاصة فى محاولة سبر أغوار الروح الإنسانية وتطلعاتها ورغباتها بنظرة تساوى بين رغبات وأشواق الرجل ورغبات وأشواق المرأة دون أن تؤكد تماهى أى منهما مع الأخرى. 

ثمة اختلافات أراها هنا بين الشخصيات الذكورية والنسائية، لكنى أعتقد أن لهما حقًا واحدًا ومتساويًا فى تصدر بؤرة الاهتمام، ليس بمنطق أنى ككاتبة امرأة أقدر على التعبير عن المرأة، ولكن بمنطق أنى ككاتبة أعى أهمية هذا الحق وأهمية التعبير عن حواس ورغبات وجسدانية النساء التى لا تقل عمقًا أو تعقيدًا عن علاقة الرجل بهذه العناصر نفسها.

■ روايتك «أكابيللا» تحولت إلى فيلم سينمائى.. هل أفادتك هذه التجربة فى مسارك الإبداعى؟

- لم يحظ الفيلم بجماهيرية حقيقية مع الأسف، عكس الرواية التى لاقت صدى واسعًا فى أوساط القراء والنقاد. لكنى سعدت بالتفات المخرج للرواية واهتمامه بقراءة أعمالى السابقة واللاحقة أيضًا. 

فى مشوارى تحتل السينما مركزًا مهمًا من حيث تأثيرها على فعل الكتابة نفسه، ومن حيث اهتماماتى الأكاديمية، وأيضًا اختيارى ترجمة عدد من الكتب عن السينما من الفرنسية إلى العربية. 

هى إذن الفن الأكثر حضورًا فى تاريخى عامة، تليها الفنون التشكيلية والموسيقى، وهى من مصادر الإلهام المتعددة فيما أكتب.

■ المشاهد قد يطمح لمشاهدة أعمال سينمائية تطرح رؤيتك الفكرية.. ألا تسعين لذلك؟

- لم أقرر بعد إن كانت كتابة السيناريو تستهوينى أم لا، وربما أخوض المغامرة مرة أخرى لو أتيحت لى فرصة لقاء فكرى حقيقى بين كاتبة سيناريو وبينى. 

وأتصور أن رواية «الكل يقول أحبك» من السهل تحويلها لسيناريو بسبب بروز الملمح البصرى فيها. وأعتقد أن مخرجة أو منتجة راسخة فى هذا المجال قد تكونان الأنسب لتناول مثل هذا العمل، لكن الوقت لا يتسع لخوض المغامرة، وظروف صناعة الفيلم فى مصر ربما لا تكون مواتية.

■ حدثينا عن مشروع «بيت التلمسانى» وثماره بعد عام على تدشينه؟

- «بيت التلمسانى» مشروع وليد بدأ منذ سنوات قليلة، لكنه حقق بعض الإنجازات بالتعاون مع دور نشر مصرية، أولها ورشة الكتابة والموضة التى نتج عنها كتاب «حتى فساتينى»، وهو مجموعة قصصية شاركت فيها ثمانى كاتبات مصريات وكاتب شاب واحد. 

فى العام الحالى، استقبل البيت ست كاتبات وكتّاب من مصر ضمن مشروع إقامة وتفرغ، بدعم من «آفاق» ودار صفصافة للنشر، وأتمنى أن ينتج عن دورة الإقامة هذا العام عدد من الكتب، سواء فى الرواية والقصة أو فى الشعر، وأن يدعم البيت بعد مرحلة النشر كل من يرغب من بين الحاصلين على المنحة فى العودة للإقامة بالبيت ضمن برنامج زمالة «بيت التلمسانى». 

باختصار البيت يتيح التفرغ والإقامة لكتّاب من مصر والعالم على غرار معتكفات الكتابة فى أوروبا وأمريكا وبعض الدول الأخرى، ويقع على طريق مصر- الإسكندرية الصحراوى، ما يجعله قريبًا من مركزين من أهم مراكز الثقافة والفن فى مصر والعالم العربى.

ماذا تمثل لك السينما فى تراتبية اهتماماتك وأولوياتك؟

- السينما تحتل موقع الصدارة فى حياتى اليومية، فأنا أستمتع بمشاهدة الأفلام والمسلسلات مؤخرًا من كل بقاع العالم، وهى أيضًا مادة التدريس الجامعى، ومادة للتفكير والتأمل والتحليل والفهم واستيعاب التاريخ. هى على قائمة اهتماماتى اليومية ولها أثر كبير كما ذكرت على الكتابة.