فلسفة الرغبة.. كيف استغل أباطرة الاقتصاد والتكنولوجيا احتياجاتنا لفرض هيمنتهم؟
- ينتج المجتمع الاستهلاكى تبددًا متزايدًا للشخصية يدعو للقلق
- تعبر الرغبة عند أفلاطون عن شعور بالنقص إذ يدرك الإنسان بها أن ثمة ما هو مفقود
ما هى الرغبة؟ هل هى إيجابية أم سلبية؟ كيف تتعامل عقولنا مع الرغبات؟ وهل يتعين علينا القضاء على الرغبة أم تنظيمها؟ كيف استغل الاقتصاديون وأباطرة التكنولوجيا رغباتنا واحتياجاتنا لضمان هيمنتهم ولتحقيق المزيد من الأرباح والنجاحات؟ هذه الأسئلة تقع فى قلب النقاش الذى يجريه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسى فريدريك لونوار من خلال كتابه «فلسفة الرغبة»، الصادر حديثًا بترجمة عربية أنجزها إسكندر حبش عن «دار الساقى».
التقليد الفلسفى
يطوف لونوار على مختلف الفلسفات الغربية والشرقية ليوضح كيف اهتم الفلاسفة على مدار التاريخ بفحص مفهوم الرغبة والنظر فى أبعاده، وأوجه الاختلاف بينهم فى فهم الرغبة وفى رؤيتهم لسبل التعامل معها، ويخلص من ذلك إلى أن الرغبة كانت مركزية فى السؤال الفلسفى الذى انشغل طويلًا بآليات تنظيمها وتوجيهها بالطريقة الصحيحة.
يوضح لونوار أن الرغبة فى التقليد الفلسفى نُظر إليها من جانبين؛ فمن جهة عدها البعض تعبيرًا عن نقص مع التأكيد على طابعها السلبى، إذ رأى معظم الفلاسفة القدامى الرغبة من زاوية الافتقار واعتبروها مشكلة تؤدى إلى عدم الرضا الدائم. ومن جهة أخرى اعتبر فلاسفة آخرون الرغبة قوة ودافعًا رئيسيًا لوجودنا.
تعبر الرغبة عند أفلاطون على سبيل المثال عن شعور بالنقص، إذ يدرك الإنسان بها أن ثمة ما هو مفقود، وهو ما يدفعه إلى التطلع لعالم إلهى وكامل، فيما تدفع الرغبة، كما يراها أريستوفانيس، إلى السعى لتحقيق كينونتنا الأصلية، وفى كل الأحوال يطلعنا هذا الطواف الفلسفى على ما آمن به الفلاسفة من أن فهم الرغبات بما يقود إلى تنظيمها هو أساس التعليم والحضارة.
محركات الرغبة وحضارة «المزيد دائمًا»
من الفلسفة إلى علم وظائف الأعضاء ثم إلى علم الاجتماع، يرصد الفيلسوف الفرنسى محركات الرغبة البشرية، فعلى المستوى الفسيولوجى يبحث الدماغ البشرى عن المتع الآنية والفورية، عن الإشباع اللحظى للرغبات دون تأجيل. وعلى المستوى الاجتماعى، يمكن الحديث عن ثلاثة أبعاد للرغبة؛ فهناك رغبة المحاكاة، أى أن الإنسان يرغب فيما يرغب فيه الآخرون، والطمع أى يرغب فى ما يمتلكه الآخرون، وأخيرًا الحسد ويعنى أن الإنسان يقارن سعادته بسعادة من يحسدهم.
وفقًا لهذه المعطيات، يرصد لونوار كيف حفّز التحالف المعاصر للتكنولوجيا والليبرالية الاقتصادية أدمغتنا للمزيد من الرغبات والمطالبات، وكيف صار الإنسان أسيرًا لرغباته فبينما هو يظن أن رغباته التى يسعى إليها نتاج وعيه الخالص، فإن الحقيقة أن أصحاب المصالح الاقتصادية والتكنولوجية يتلاعبون بتلك الرغبات لتحقيق أهدافهم وتطلعاتهم الخاصة.
يبحث الإنسان عن المتعة التى قد تحققها له نزعة استهلاكية لا يكف تدفقها، فينساق وراء أشكال من التسوق القهرى، والإدمان على الجنس، والألعاب الإلكترونية، والإدمان على الشبكات الاجتماعية بما تخلقه من حاجة متزايدة للاعتراف الاجتماعى، فتتحول الرغبات الصغيرة تلك إلى سبب لاستعباد الإنسان وإبقائه فى دائرة من النهم والتعطش الدائمين بدون بلوغ غاية الارتواء أو الشبع.
يصف لونوار هذا العصر الاستهلاكى الراهن بحضارة «المزيد دائمًا»، تلك الحضارة التى تطالب الإنسان بمزيد من الاستهلاك، ما قاد إلى الكوارث البيئية التى لا يتوقف الإنسان عن تعظيمها، وهو ما يعلق عليه الكاتب بقوله: لدينا ميل مجنون إلى بعثرة الراحة فى أنماط حياتنا الحالية على حساب الأجيال القادمة.
النزعة الاستهلاكية والتلاعب بالرغبة
يبين المؤلف أن النظام الاقتصادى العالمى الراهن يدفع الإنسان نحو مزيد من الاستهلاك، انطلاقًا من تعزيز محركات الرغبة المختلفة عنده، ولكن فى مقابل المزيد من الاستهلاك لا يصل الإنسان بالضرورة إلى السعادة، فعملية التسويق تخلق رغبات جديدة وتجعلنا نظهر بأننا لا نستطيع الاستغناء عن تلك الأشياء التى تمكنت البشرية من الاستغناء عنها عبر آلاف السنين.
يوضح ذلك بقوله: ينتج المجتمع الاستهلاكى تبددًا متزايدًا للشخصية يدعو للقلق، من الواضح أنه يحاول إخفاءها بخطاب مضلل حول حرية الاختيار وتحقيق الذات، لكنه فى الواقع يحيل الأفراد إلى حالة من المستهلكين الأغبياء والعبيد لنبضات دماغهم البدائية.. تعدنا الأيديولوجية النيوليبرالية التى تحمل النظام الاستهلاكى بالحرية والسعادة بينما يشكل هذا النظام مصدر الخنوع والإحباط، نحن خاضعون ومتلاعب برغباتنا وغير راضين على الدوام.
يستعيد لونوار حديث الخبير الاقتصادى الأمريكى جيريمى ريفكين عن الأساليب التى اتبعتها الشركات الأمريكية الكبرى منذ عشرينيات القرن الماضى للحفاظ على أرباحها وزيادتها، والتى تضمنت السعى لإقناع غالبية الأسر بشراء المنتجات التى لم يكونوا بحاجة إليها، عبر استغلال حافز المقارنة الاجتماعية، فعملت الإعلانات على ربط العلامة التجارية بعلامة النجاح وتحسين الوضع الاجتماعى.
بناءً على ذلك، ينوه لونوار بأن مهمة الاقتصاد الرئيسية تمثلت فى خلق الاحتياجات التى يسعى الجمهور إلى إشباعها وتحفيز المستهلك على المزيد من الاستهلاك عبر وسائل تلعب على اللاوعى والمقارنة الاجتماعية والحاجة إلى الاعتراف، إلى أن صار منطق السلعة حاكمًا ليس فقط للاقتصاد وإنما للثقافة بأكملها.
وسائل التواصل والسيطرة على المراهقين
يتعرض الكتاب إلى الأساليب التى يتبعها عمالقة الإنترنت لجذب أكبر قدر ممكن من انتباه المراهقين على الشبكات الاجتماعية عبر استغلال رغباتهم، فباستخدام حاجة المراهقين إلى الاعتراف الاجتماعى، يُنشئ أباطرة التكنولوجيا نظامًا من الخوارزميات يتيح معرفة أذواق المستخدمين ومراكز اهتمامهم وإرسال الإشعارات والإعلانات المستهدفة إليهم، لتحقيق أهدافهم التجارية والربحية.
وعلى الرغم من مجانية الخدمات التى تتيحها وسائل التواصل المختلفة، فإنها تبرمج بكفاءة للعمل ضد الإنسان، يبرهن لونوار على ذلك برصد عدد من الدراسات التى أبانت عن ضرر الإدمان على الشبكات الاجتماعية، مثل اضطرابات الانتباه والنوم المرتبطة بفرط نشاط الدماغ أو مشاكل احترام الذات، وزيادة منسوب القلق والمخاوف بين «جيل زد»، وشيوع أمراض وآثار سلبية مثل متلازمة القلق، والحاجة القهرية لعرض أصغر تفاصيل حياة المرء على الشبكات الاجتماعية، واضطرابات الشخصية مثل الفصام، وارتباك الأفكار الناتج عن الوصول الوحيد إلى معلومات غير هرمية ومحددة، وحبس الأفراد فى فقاعات اليقين الخاصة بهم.
ما العمل؟
قد يقود السعى لتحقيق الرغبات إلى المتعة، ولكن يمكن لها أيضًا أن تؤدى إلى الإحباط والاكتئاب والتعاسة. تلك الحقيقة كانت سببًا فى عناية كل التقاليد الدينية وفلاسفة اليونان والهند القديمة بمحاولات تنظيم الرغبة البشرية وتقييدها وتأطيرها، ففى الوقت الذى دافعت فيه بعض التقاليد عن اعتدال الرغبة من دون التشكيك فيها أو فى المتعة التى تولدها، انبرى آخرون للحث على القضاء عليها.
يخلص لونوار إلى أن الرغبة فى حد ذاتها ليست جيدة ولا سيئة، يمكن أن تقودنا إلى الحزن أو الفرح أو السعادة أو التعاسة اعتمادًا على الأشخاص أو الأشياء التى توجهها. ويستعين فى رؤيته للمخرج من الحالة الراهنة بحديث سبينوزا عن الرغبة التى ينبغى إخضاعها لتمييز العقل والحدس، وبحديث المحلل النفسى وعالم الاجتماع إريك فروم عن الوجود الإنسانى المعتمد على أحد الخيارين؛ التملك أو الكينونة. ففى عالم يهيمن عليه بصورة متزايدة الشغف بالامتلاك والتركيز على الاستحواذ والقوة المادية والعدوانية، ينبغى على الإنسان أن يتبنى نمط الكينونة المؤسس على الحب والوفاء الروحى ومتعة المشاركة فى الأنشطة الهادفة والمثمرة، لا سيما وأن الرغبة البشرية لا نهائية، وإذا وضع الإنسان رغبته فى مجال الامتلاك سيظل غير راضٍ إلى الأبد وسيبقى أسيرًا لها.
يمكن القول إن الكتاب يتيح معرفة بانورامية بالاختلاف الفلسفى فى التعاطى مع مفهوم الرغبة، والرؤى الدينية وكذلك الفلسفية إزاء التعامل الصحيح مع الرغبات كى لا تقود حياة البشر نحو شقاء لا مفر منه، لكنه فى الآن ذاته يجمع الطرح الفلسفى بالنقد الاجتماعى حين ينظر فى الرغبات البشرية التى أطلقتها قبضة المصالح الاقتصادية والتكنولوجية بما يهدد ليس فقط بعواقب وخيمة على البيئة صار الجميع يدركها اليوم، وإنما أيضًا بدمار نفسى واجتماعى يُدفع نحوه البشر، فيما هم يظنون أنهم يحيون فى عالم يوتوبى من صنع وعيهم وإرادتهم الحرة.