العميد.. إيمان نهاد شريف: والدى كان يخشى فناء البشرية بسبب التقدم العلمى
- كان حلمه أن يخدم التقدم التكنولوجى البشرية ويرتقى بالإنسان
- يوسف السباعى والشارونى ومستجير.. أبرز الكتاب المقربين إليه فى حياته
فى روايته الشهيرة «قاهر الزمن»، كان الخلود هاجسًا جسّده عميد أدب الخيال العلمى العربى نهاد شريف عبر بطل روايته «الدكتور حليم». تجربة تلو الأخرى واعتكاف بمحراب العلم يغذيه حلم ظاهره الاستحالة بمواجهة شبح الفناء، عمل شاق يحاربه البعض ويعجز كثيرون عن استيعابه، لكنه بالنهاية ليس سوى مواجهة مع الحقيقة الأكثر سطوعًا فى الحياة؛ الموت.
فى منزل إيمان نهاد شريف، الكائن بالتجمع الخامس، فكرت فى أن الدكتور حليم لو كان شخصية واقعية وحضر هنا، حيث يُخلّد أثر نهاد شريف، المتوفى منذ عام 2011 الذى تحل ذكرى ميلاده فى يونيو، لعرف أن الخلود ممكن وإن غاب الجسد، وأن الإنسان ربما قد يواجه حقيقة فنائه برضا وسكينة كاملين لو عرف أنه سيُخلّد، على نحو لم يتوقعه.
من الدقى حيث قطن نهاد شريف إلى الهرم، حيث أقامت ابنته بعد وفاته وعقدت على مدار سنوات «صالون نهاد شريف» للاحتفاء بمبدعى الخيال العلمى، ثم إلى التجمع الخامس محل إقامتها الحالية، تحتفظ ابنة عميد أدب الخيال العلمى العربى؛ إيمان نهاد شريف بكل آثار والدها، من مكتبة ضخمة، وخطابات وصور، وأدوات مثل التلسكوب والميكروسكوب، وهدايا ومقتنيات، فى شقتين متجاورتين، بحماس وإخلاص لا تشوبه قطرة فتور، وتحلم بأن تضم كل مكتبته الضخمة بمكان واحد هو مكتبة نهاد شريف المفتوحة لإطلاع الباحثين والمهتمين بأدب الخيال العلمى.
فى منزلها، تبدو الروح الإبداعية المتوارثة من جيل لجيل حاضرة، إذ يحضر الأب بمقتنياته وأعماله وسط أعمال والده الفنان التشكيلى منير شريف وصور جده الكبير شريف باشا؛ رئيس الوزراء فى حكومة الخديو إسماعيل. توارث الأبناء جيلًا بعد جيل حب القراءة والشغف بالمكتبات، وها هى الحفيدة ترعى إرثهم بكل تفان.
فى حضرة مكتبة نهاد شريف سألتها: ماذا تذكرين عن قراءات والدك المفضلة؟، فقالت: لم يكن والدى يقرأ فى أدب الخيال العلمى فقط، وإن كان يهتم بمتابعة الأعمال المؤسِسة فى هذا النوع ويقرأها أحيانًا بلغتها الأساسية، وإنما كانت قراءاته شتى، كان يقرأ فى العلوم والطب ويتابع أى منجز علمى جديد ويقرأ عنه بتمعن، كما كان يهتم بمتابعة المجلات علمية بانتظام، إلى جانب ما يجده فى المكتبات والمعارض، ومعظمها كتب علمية إلى جانب الكتب التاريخية والدينية والسياسية.
هذا الشعف بالقراءة انتقل لنا، فقد كان والدى حريصًا على مدنا بالكتب المناسبة لأعمارنا، أنا وأخى حاتم، وكان يأخذنا معه بانتظام إلى معارض الكتاب لنختار ما نشاء من الكتب فنشأنا على حب القراءة، كما كان حريصًا على اصطحابنا إلى السينما لمشاهدة أفلام الخيال العلمى المعروضة، فشاهدنا معه العديد من الأفلام الشهيرة مثل «أوديسا الفضاء»، و«كوكب القرود»، وغيرهما الكثير.
■ ولكن متى بدأت فى قراءة أعماله؟
- بعد أن حصل على جائزة يوسف السباعى فى أوائل السبعينيات عن رواية «قاهر الزمن»، ثم بعد أن تحولت الرواية إلى فيلم سينمائى من إخراج كمال الشيخ، وهو الفيلم الأول من أدب الخيال العلمى، «اتشديت» لقراءة الرواية ثم بعد ذلك شرعت فى قراءة كل أعماله الأخرى.
■ وما أكثر ما أثار إعجابك فى أعماله؟
- أُعجبت بغزارة أفكاره وقدرته على تقديم نظرة مستقبلية ونسجها بصورة رشيقة وبأسلوب أدبى يرتكز على المشاعر الإنسانية، فقد كان قادرًا على تغليف أفكاره بأسلوب درامى شيق وبسخاء شديد فى وصف أدق التفاصيل بما يجعل القارئ جزءًا من القصة.
■ وما قصة هذا الخطاب من جمال عبد الناصر فى مكتبته؟
- هذا الخطاب أرسله جمال عبدالناصر إلى والدى مرفقًا مع صورته الشخصية وكتاب «فلسفة الثورة» يشكره على تهنئته بقرار الحكومة بتأميم قناة السويس. كان والدى متفائلًا بالثورة وشعر أنها ستحمل معها نهضة قادمة، ومع ذلك فهو ليس ناصريًا، كما أنه لم يتكالب على مناصب أو مكاسب وكرس حياته للكتابة.
تذكر إيمان نهاد شريف طقوس والدها فى الكتابة كأن سنوات طويلة من العمر لم تمر على ذكريات الطفولة الأولى التى شهدتها فيها، فتقول: كان يحب الكتابة فى هدوء المساء، يستمع إلى الموسيقى الهادئة ويجلس للكتابة، ولا يسمح لنا بمقاطعته خلال عزلة الكتابة تلك.
■ سألتها: هل كان يستشير أحدًا فى كتاباته؟
- كان أحيانًا يتناقش مع أمى، وهى متخصصة فى تدريس التاريخ، عن أحد الأفكار التى تراوده ويرغب فى الكتابة عنها، وفى بعض الأوقات كانت تقترح عليه تعديلات أو إضافات محدودة فى الفكرة أو تفاصيلها. وفى فترة اختمار الفكرة برأسه كنا نجده شديد القلق والتوتر وحينما يشرع فى كتابتها على الورق لا يسمح لنا بمقاطعته، أما بعد الانتهاء من الكتابة، فيرفض تمامًا العودة إلى قراءة العمل ويقول إنه صار ملكًا للقارئ.
قضايا الخيال العلمى
■ ما الهاجس الذى كان مسيطرًا عليه فى كل ما يكتب؟
- كان مشغولًا بمصير البشرية فى ظل التقدم الرهيب فى مختلف العلوم والخوف من الاستخدام الضار للعلم، فقد تخللت قصصه العديد من الرسائل التحذيرة. فى «حذار إنه قادم» على سبيل المثال يتحدث عن زمن سيندثر فيه البشر ويبقى مكانهم ما صنعوه من بشر آليين. كان لديه اعتقاد راسخ بوجود كائنات أخرى فى الفضاء وأنهم سيسعون للاتصال بالأرض وسيكونون على قدر عال من التقدم والتحضر. أرقه التقدم العلمى الهائل وشغله التفكير فى الوجه الضار له الذى يمكن أن يكون نقمة على الإنسانية ويؤدى إلى فنائها. كما كان حريصًا على عدم التصادم مع الدين فى أعماله الأدبية، فلم يكن غرضه تصوير تضارب بين الدين والإيمان.
آمن نهاد شريف بأن رسالة أدب الخيال العلمى التنبؤ بالمستقبل ومحاولة تصوير المستقبل الممكن، وكان حلمه أن يخدم التقدم التكنولوجى البشرية ويرتقى بالإنسان وليس العكس كما نرى اليوم من تقدم فى تصنيع الأوبئة والأسلحة يمكن أن يقضى على البشرية.
البُعد الذاتى فى أعماله
لن يخفى على قارئ أعمال نهاد شريف البعد الذاتى فى أعماله، فبطل «الماسات الزيتونية» الذى يعانى من أوجاع الكلى يشبه الكاتب الذى عانى فى حياته من المرض نفسه، وكمال الصحفى المهتم بالمجال العلمى فى «قاهر الزمن» يشبه عميد أدب الخيال العلمى الذى عمل صحفيًا بمجلة «آخر ساعة»، وكتب الكثير من المقالات العلمية.
تؤكد ابنته على حضور البعد الذاتى فى أعماله ليس فقط ممثلًا فى شخصه، وإنما فى حضور المحيطين والمقربين منه فى أعماله، فتوضح ذلك بقولها: تظهر مدينته الأثيرة ومرتع صباه؛ مدينة حلوان فى روايته «قاهر الزمن» فقد ذكرها بالمدينة الهادئة، ضحية الأسر العريقة، المشتى العالمى الاستشفائى ومعالم المدينة القديمة «قهوة لوانيدا» التى كانت تطل على محطة المترو وسينما «الكازينو» القائمة وسط الحدائق الغناء.
أما مرصد حلوان فقد وصفه وصفًا دقيقًا فى روايته «قاهر الزمن»، ويرجع تعلقه بالمرصد إلى مرحلة الصبا فقد كان أحد أقاربه يعمل أمين مكتبة المرصد وكانت أواصر الصداقة والود قد ربطت بينهما؛ رغم أنه كان يكبره كثيرًا، وقد وصفه فى روايته بدقة بالغة.
أيضًا كان والدى يعتز بوالده الفنان التشكيلى منير شريف وذكره فى قصة «الذى تحدى الإعصار»، وذكر أخى حاتم فى تقديم رواية «قاهر الزمن» «فى أول يناير سنة ٢٣٠١ الباحث التاريخى حاتم ابن منصور الذى يرجع نسبه- كما يقول- إلى منشئ الأسرة حاتم بن نهاد شريف المولود فى حلوان الحمامات عام ١٩٦٠ ميلادية».
وفى مقدمة مجموعته «أنا وكائنات الفضاء» ذكر سبعة من أصدقائه شعر بمساعدتهم له، وشاركوه أفكاره وأثروا فيه وهم: المهندس الزراعى أحمد الشيتى، والرحالة فتحى صقر، والمهندس المعمارى سعيد عبدالفضيل، والدبلوماسى عصمت نجيب، ورئيس القسم العلمى بالأهرام العالم صلاح جلال، والأديب يوسف الشارونى والمخرج كمال الشيخ. وجميعهم كانوا من قاطنى مدينة حلوان.
الخيال العلمى والشاشة
كان فيلم «قاهر الزمن»، المأخوذ عن رواية نهاد شريف، الفيلم العربى الأول فى الخيال العلمى، كما تحولت أعمال أخرى لنهاد شريف إلى الدراما والإذاعة، فظهرت السهرة التليفزيونية «الماسات الخضراء» المأخوذة عن رواية للكاتب بعنوان «الماسات الزيتونية».
■ كيف استقبل ظهور أعماله على الشاشات؟
- بالطبع كان أبى سعيدًا بظهور أعماله على الشاشة، رغم بعض الملاحظات عليها، فرواية «قاهر الزمن» أكثر عمقًا مما قدمته السينما، ومع ذلك، فقد كان متفهمًا لأن أعمال الخيال العلمى دائمًا ما تكون تحت الميكروسكوب خوفًا من الخروج عن المسار الدينى، كما أن ظهور العمل سينمائيًا يحتاج إلى درجة من التبسيط كى يستطيع الجمهور التجاوب معه.
استغرق الفيلم وقتًا طويلًا فى التحضير والحصول على موافقات من مختلف الجهات، وكان أبى حريصًا على حضور تجهيزات الفيلم والمشاركة فى تحديد بعض التفاصيل مثل الفيلا التى يقطن فيها الدكتور حليم، وشكل التابوت الذى سيتجمد فيه النجم خالد زكى، وغير ذلك، وقد حضرت معه أكثر من مرة تصوير الفيلم.
أما سهرة «الماسات الخضراء» فلم تستغرق وقتًا طويلًا فى التحضير، وكان أبطال العمل يتواصلون مع أبى ليسألوه مندهشين كيف جاءتك فكرة هذا العمل؛ تحول حصوات الكلى إلى ماسات نادرة بعد تناول مشروب معين. لكن السهرة بشكل عام كان وقعها جيدًا وكتب عنها النقاد والصحفيون. وأتمنى أن يهتم التليفزيون بإذاعة العملين، كى يكون الجيل الجديد على اطلاع بما قُدِم من أعمال لرواد الخيال العلمى.
نهاد شريف وأدباء عصره
■ كيف كانت علاقته مع أدباء عصره لا سيما وأنه فى ذلك الوقت لم يكن أدب الخيال العلمى شائعًا أو معترفًا به بدرجة كافية؟
- كانت علاقته جيدة بجميع أدباء عصره، فكان يحرص على الحضور فى «مقهى ريش» مع نجيب محفوظ، وبعض الكتاب كانوا أصدقاء مقربين منه ومنهم يوسف الشارونى وأحمد مستجير وصلاح معاطى وكذلك يوسف السباعى الذى صار صديقه بعد فوزه بالجائزة، فقد كان مهتمًا بالتعرف على هذا النوع من الأدب الجديد الذى يكتبه والدى.
■ كتب يوسف السباعى رواية تنتمى إلى الخيال العلمى هى «لست وحدك».. هل كان متأثرًا بأعمال نهاد شريف؟
- ربما، فقد تحمس يوسف السباعى لهذا النوع الأدبى، وكانت له لقاءات مع والدى فى نادى القصة، فى وقت لم يكن فيه اهتمام كاف بأدب الخيال العلمى وكانت الأحاديث عنه تجرى على استحياء. لقد كتب آخرون فى الخيال العلمى لكن والدى كرّس حياته لهذا اللون الأدبى.
■ هل كان نهاد شريف يشعر بالظلم وعدم التقدير فى حياته؟
- لا، ولكن نحن شعرنا بالتغافل عن مكانته. فقد ترشح لجائزة الدولة التشجيعية ولم ينلها، ربما لأن الخيال العلمى لم يكن لونًا أدبيًا يحظى بقاعدة كافية، كما أن تكريمه وتنصيبه عميدًا لأدب الخيال العلمى جاء من سوريا وليس فى بلده، فضلًا عن أنه لا يوجد استحضار كاف له فى معارض الكتاب أو المناسبات الثقافية المختلفة رغم أنه يحظى بتقدير من الخارج. لذلك فقد جمعت بالمشاركة مع الدكتور صلاح معاطى كل ما كتب عنه وما شارك فيه من حوارات فى كتاب بعنوان «يوتوبيا» كى يكون توثيقًا لمسيرته الأدبية.
صالون نهاد شريف
■ أقمت أيضًا صالون نهاد شريف للخيال العلمى بعد وفاته.. ما الذى خرجت به من هذا الصالون؟
- أقمنا الصالون لأول مرة بعد وفاة والدى فى ٢٠١١ لإحياء أدب الخيال العلمى ومتابعة ما يكتبه الشباب فى هذا المضمار، وصار قائمًا إلى أن ضمه اتحاد الكتاب ضمن شعبة الخيال العلمى ورأيت أن هذا سيكون أفضل لأنه سيعنى انتشاره بدرجة أوسع.
لاحظت من خلال الصالون وجود شباب من المبدعين الذين يكتبون بشكل جيد فى الخيال العلمى، وتتحسن كتاباتهم مع ملاحظات يمدها بهم النقاد والكتاب الراسخون فى الصالون، وأتمنى أن نتوسع فى الجمعيات والمنظمات المهتمة بالخيال العلمى، ففى بعض البلدان الغربية هناك عشرات من المنظمات المعنية بالخيال العلمى كما أن المؤسسات العلمية فى بعض الدول الغربية تتخذ من كتاب الخيال العلمى مستشارين لها لتقديرهم لما يقدمونه من أعمال.
■ متى ستظهر أعمال نهاد شريف مجددًا بالمكتبات لا سيما وأن الطبعات القديمة لها لم تعد موجودة؟
- تواصلت معى بعض دور النشر الخاصة، لكننى أفضل نشر أعمال والدى فى دار نشر حكومية كى أضمن لها انتشارًا أوسع لدى مختلف الفئات، ونحن الآن فى طريقنا لطباعة هذه الأعمال وآمل أن تظهر قريبًا وألا يتعثر نشرها.