هل تصنع منصات الأفلام ثقافة سينمائية؟
بدأت فكرة المنصات الرقمية لعرض الأفلام منذ عام ٢٠٠٧ من خلال منصة «نتفليكس» التى كانت فى البداية تقدم خدمات تأجير الأفلام من خلال السيديهات، وقد تأخر تنفيذ فكرة البث المباشر بسبب ضعف قدرات الإنترنت على إتاحة فكرة البث المباشر، ومنذ عام ٢٠١٠ توسعت «نتفليكس» فى ١٩٠ دولة حول العالم، ووصلت المشاهدة عبر المنصات الرقمية لذروتها خلال العام ٢٠١٩ بسبب الحظر العالمى الذى صاحب انتشار فيروس «كورونا»، وأصبح من العادى أن يوجد أكثر من فرد فى منزل واحد وكل منهم يشاهد عملًا مختلفًا عن الآخر، خاصة مع ازدياد عدد المنصات وتنوع محتواها.
إن السينما عمل جماعى يشترك فيه الكثير من الأفراد كل حسب مهنته فى صناعة الفيلم ليقدم لنا عملًا يتم عرضه من خلال شاشة السينما، وهذه المشاهدة مثلها مثل الصناعة مشاهدة جماعية، ويحدث من خلالها نوع من أنواع التفاعيل بين المشاهدين، حتى لو لم يعرف بعضهم البعض الآخر فى أحيان كثيرة، ففكرة مشاهدة عدد كبير من المشاهدين للعمل نفسه فى الوقت نفسه تخلق حالة من النقاش حول العمل، فيفتح المتلقون لبعضهم آفاقًا جديدة حول العمل، حتى لو كانت هذه الآراء انطباعية، فالعمل فى الأساس مقدم للجمهور.
فى تلك الفترة كان للوجود النقدى كثافة عالية، من خلال الصفحات الفنية فى الصحف، أو البرامج المهتمة بتقديم الأفلام مع طرح نقدى متخصص حول الفيلم، ساهم هذا فى خلق ثقافة سينمائية عند أجيال كثيرة، بالإضافة إلى ثقافة الصورة.
من أواخر التسعينيات ظهرت أفلام مثل «تايتانيك»، الذى اعتمد على الإبهار البصرى ليبرز غرق السفينة- معتمدًا على سيناريو رومانسى ميلودرامى ضعيف- فالأهم هو إبراز غرق السفينة لا تقديم سيناريو محكم، فسيناريو الفيلم، الذى كتبه مخرج الفيلم جيمس كاميرون، لم يحصل على أى جائزة، حتى إنه لم يترشح حتى لجائزة الأوسكار، ويعزز فكرة الاعتماد على الصورة أكثر من الاعتماد على السيناريو والذى كان هو الأساس فى نجاح أى فيلم.
ليتبع الفيلم فى نفس الفترة فيلم «ماتريكس»، الذى اعتمد على الإبهار البصرى، مع سيناريو يطرح أسئلة لها طابع فلسفى وجودى، وتم استخدام تقنيات خاصة بالفيلم صُنعت خصيصًا له، ومع مطلع الألفية تم تقديم ثلاثية سيد الخواتم، ليأتى أضخم إنتاج معتمد على الصورة البصرية عام ٢٠٠٩ بفيلم «أفاتار» لمخرج «تايتانيك»، والذى اضطر لتأجيل الفيلم حتى عام ٢٠٠٧ لبدء تنفيذه لعدم وجود تقنيات مناسبة.
ومن بعد «أفاتار» بدأت أفلام نهاية العالم أو الأبوكاليبسة فى الظهور، ثم أفلام مارفيل التى تعتمد على الأبطال الخارقين، وأصبحت أغلب الأفلام عبارة عن رؤية بصرية دون الاهتمام بما يطرحه الفيلم من أفكار.
حتى مطلع الألفية كانت مشاهدة أعمال فنية غير أمريكية غير متاحة بكثافة، فالأمر كان فى يد الموزع الذى يتعاقد على أفلام تحقق الربح، وبالتوازى كانت هناك المراكز الثقافية التى أغلبها كان فى العاصمة بسبب المركزية، وإن وجدت بعض المبادرات بجهود فردية فى المحافظات الأخرى، إلا أن الاطلاع على السينما الأوروبية، والتجارب السينمائية المغايرة كان صعبًا، حتى ظهور «الإنترنت» وما وفرته من إتاحة مشاهدة العديد من التجارب السينمائة حتى الوصول للمنصات التى تقدم تجارب سينمائية متنوعة.
لكن من مساوئ مشاهدة الأفلام عبر المنصات عدم وجود التفاعل النقدى بين المتلقين وبعضهم، ولا تسهم وسائل التواصل الاجتماعى على الرغم من تشعبها فى تقديم التفاعل الحقيقى، فأى رأى مخالف أو من الممكن أن يبدو مزعجًا يتم إقصاء صاحبه تمامًا، فوسائل التواصل الاجتماعى ساعدت على أن يكون الأفراد فى جزر معزولة، فلا مجال لوجود من هو مختلف عنى، إذ يجب على الجميع أن يكونوا متوافقين معى، ولا مجال لأى اختلاف قد يأخذ حيزًا من التفكير.
مع الاعتماد على الإبهار الذى أصبح عنصرًا أساسيًا لإنتاج الأفلام، كذلك دخلت الصوابية فى إنتاج الأعمال، والاعتماد على أجندات معينة يتم تقديمها بشكل فج لفرض فكر معين ووجهة نظر معينة على المتلقى، خصوصًا أن أغلب المتلقين فى مراحل سنية صغيرة نسبية، ونتيجة اعتمادهم الكلى على الإنترنت والمنصات، جعلهم يجهلون الكثير عن تاريخ الفن والسينما.
فالأجيال الجديدة لديها ثقافة بصرية كبيرة، ولكنهم بلا ثقافة سينمائية تساعدهم على تقييم العمل بشكل سليم، حيث إن فكرة المغالاة هى المتسيدة، فالعمل إما سيئ أو ممتاز، ومن دون إبداء أسباب حقيقية، إذ لم يعد هناك وجود للمزاج العام، ولم تتطور طرق النقد الفنى لكى تساير العصر الجديد، حتى تحولت السينما من أداة للترفيه والتثقيف، إلى أداة لنشر أفكار صوابية معينة، شبيهة بأفكار الأدب التقدمى والأفلام التقدمية المصاحبة للحقبة الشيوعية، والتى لم يعد لأغلبها وجود، لافتقارها لفكرة المتعة، التى يغلب عليها الإبهار البصرى.