انتقام أدبى.. هل سرق جمال عبدالناصر روايته الأولى والأخيرة؟
- «هيكل» أم «السباعى».. مَن ورّط الرئيس فى المسابقة الأدبية عام 1956؟
- هجر عبدالناصر الأدب عام 1935.. فلاحقته أمراض الأدباء إلى ما بعد الرحيل
- الخلط بين الأديب عبدالرحمن فهمى والصحفى عبدالرحمن فهمى يكمل «الدراما الناصرية» فى الأدب والواقع
فى يوم 10 مايو عام 1935 كتب الطالب جمال عبدالناصر «محاولة أدبية» فى 10 صفحات، ولم يكملها. ثم أخذه القدر بعيدًا عن الأدب وأهله، وقذف به فى طريق السلاح والسياسة.
وبعد 21 عامًا، أصبح «مشروع الأديب» حاكمًا وزعيمًا. نجا من «أمراض الأوساط الأدبية»، ليتورّط فى فِخاخ السلطة والسياسة، لكن «روح الأديب» التى تلبّسته ذات ليلة أبَت إلّا أن تذيقه بعضًا من «أمراض الأدباء» التى لا مفر منها، حتى لا يفوته شىء مما تمناه يومًا ما!
تتبّعت حكاية القصة التى «لم يكملها» عبدالناصر عبر الأرشيف الصحفى لمجلتى «آخر ساعة» و«الكواكب» بين عامى 1956 و1966. ورأيت فى رحلة البحث صورة درامية لأهل الصحافة والأدب، فى تعاملهم مع «مواهب القائد المُلهَم، والمُلهِم»، قبل وبعد رحيله.
وعلى الهامش، قد تأخذنا حكاية هذه الأوراق القديمة إلى السؤال الساذج الشهير: ماذا لو؟
ماذا لو أكمل الطالب جمال عبدالناصر محاولته الأدبية الأولى عام 1935، بعد تأثره العميق برواية «عودة الروح» التى نشرها توفيق الحكيم عام 1933، وبالتزامن مع إقدامه على تمثيل دور «يوليوس قيصر» فى مسرحية «شكسبير»، ضمن فقرات الحفل السنوى لمدرسة النهضة الثانوية.
ماذا لو انتصرت هواية الأدب على غواية الزعامة فى نفس الطالب الذى ما إن أغلق الدفتر المدرسى الذى كتب فيه مطلع قصته الأدبية، حتى ذهب لتقديم أوراقه إلى الكلية الحربية، فتغيرت حياته، وحياتنا معه.
وقد تبتلعنا «لعبة ماذا لو»، جادة أو ساخرة، فنقول: كان الأديب جمال عبدالناصر سيؤسس تنظيمًا للأدباء الأحرار، أو يطيح بملهِمه الأول توفيق الحكيم وينافسه بـ«عودة الوعى»، أو سيرفع شعار «الفن للحياة» فى مواجهة حزب «الفن للفن». أو سيجذب إليه النقاد من كل الصحف والمجلات، خوفًا وطمعًا، لكن بعد رحيل مشروع «الأديب الكبير»، ربما ينقلب عليه هؤلاء، فيتهمونه بأنه «لص أدب»!
وهذه الأخيرة ليست من خيال لعبة «ماذا لو»، لأنها حدثت بالفعل لجمال عبدالناصر، الرئيس والأديب معًا!
«تسمعوا الحكاية؟ بس قلها من البداية»!
بعد شهر واحد على الاحتفال بجلاء الإنجليز عن مصر، فوجئ قراء مجلة «آخر ساعة» بالعدد رقم ١١٣٤ فى ١٨ يوليو ١٩٥٦ يتضمن إعلانًا عن مسابقة وجائزة بقيمة ألف جنيه لمن يُكمل قصة كان قد بدأها الرئيس عبدالناصر فى مدرسته الثانوية بعنوان «فى سبيل الحرية». وعرضت المجلة صورًا من صفحات القصة بخط يد الرئيس، ونشرت الفصول الخمسة التى كتبها الرئيس من القصة، لتعريف المتسابقين بأبطال القصة واتجاه أحداثها.
وكتب محرر «آخر ساعة» فى إعلان المسابقة: إن صفحات هذا الدفتر الصغير تفشى سرًا إنسانيًا عجيبًا، لقد كان رئيس جمهورية مصر يريد أن يصبح كاتبًا!
وكان غريبًا ألا يكشف الإعلان الأول للمسابقة عن شروطها أو الجهة التى ستتولى التحكيم وفرز أعمال المتقدمين للفوز بجائزة الألف جنيه.
وكانت «آخر ساعة» فى ذلك الوقت تصدر برئاسة تحرير محمد حسنين هيكل. ومن حقنا الظن بأن المسابقة هى فكرته، بإيعاز أو بتنسيق مع الرئيس عبدالناصر. ولم لا، والمجلة تقدم المسابقة بجملة: آخر ساعة «تعثر على» محاولة أدبية لرئيس جمهورية مصر.
وفى العددين التاليين تجاهلت «آخر ساعة» أخبار المسابقة، دون أى توضيح إضافى لشروط المسابقة والجهة المنظمة، أو نشر أخبار ترويجية عن استفسارات القراء والمواهب الأدبية الشابة التى تفكر فى استكمال قصة الرئيس.
وبعد ٢٠ يومًا صدر العدد الجديد فى ٨ أغسطس بمزيد من تفاصيل المسابقة، متضمنًا هذه المرة صورة الأديب يوسف السباعى بوصفه سكرتير المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وباعتبار المجلس هو الجهة التى تتعهد بدفع قيمة الجوائز، وفرز أعمال المتسابقين.
هيكل أم السباعى؟
وإن كان ظهور «السباعى» هذه المرة، لا يقطع بأنه صاحب فكرة المسابقة، أو أنه هو الذى «عثر على المحاولة الأدبية» بحسب تعبير «آخر ساعة». فلا تزال مهمة إقناع الرئيس عبدالناصر بنشر أوراقه القديمة النادرة فى مسابقة أدبية، مهمة صعبة ليست إلا فى مقدور محمد حسنين هيكل على وجه التحديد.
ولضمان نزاهة المسابقة، تضمنت الشروط أن يقدم المتسابقون قصصهم دون كتابة أسمائهم عليها، وأن يحتفظ مقدم القصة برقم سرى يوضع على قصته، ويرسل ٣ نسخ إلى عنوان مجلس رعاية الفنون والآداب فى شارع حسن صبرى بالزمالك، بجوار مقر منظمة المؤتمر الإسلامى.
إلى هنا واختفت أخبار المسابقة لنحو عامين!
أراد «هيكل»، أو ربما «السباعى»، استخدام قصة عبدالناصر غير المكتملة فى صُنع مفارقة أدبية وإنسانية فى أجواء الاحتفال بجلاء الإنجليز أخيرًا عن مصر. فقد كان موضوع قصة عبدالناصر «فى سبيل الحرية» هو كفاح أهل رشيد فى مواجهة حملة فريزر عام ١٨٠٧، وكيف كان صمودهم سببًا فى انسحاب القوات الإنجليزية، وفشل الخطة البريطانية لاحتلال مصر.
وإن كان الطالب جمال قد تفاعل وجدانه مع هذه البطولة وأراد التعبير عنها فى سطور قصته عام ١٩٣٥، فها هو الآن ينتصر لأهل رشيد، ولأهل مصر كلها، ويطرد الإنجليز مرة أخرى، وفى الواقع وليس فى قصة أدبية.
كان هذا هو الغرض الذى يكشف عنه تاريخ الإعلان الأول عن المسابقة فى ١٨ يوليو ١٩٥٦، بعد شهر بالتمام والكمال على جلاء الإنجليز، وقبل أسبوع من إعلان عبدالناصر تأميم قناة السويس.
لكن التوابع الدولية التى أثارها زلزال تأميم القناة، وتصاعد التهديدات البريطانية والفرنسية أسبوعًا بعد أسبوع، وصولًا إلى العدوان الثلاثى على مصر، عاد بأوراق قصة عبدالناصر والمسابقة الأدبية إلى «الدرج» من جديد.
ليس فقط لانشغال الصحف والناس بأخبار الحرب والعدوان، وإنما لأن «رمزية المفارقة» التى قصدها «هيكل» بالاتفاق مع الرئيس، باتت مهددة، فعلى ما يبدو قد يعود الإنجليز الذين طردهم الرئيس قريبًا!
وصمدت مصر فى مواجهة العدوان الثلاثى وخرجت بانتصار سياسى كبير، وانسحب الإنجليز مجددًا. لكن أخبار مسابقة قصة الرئيس لم تخرج من «الدرج» إلا فى الثامن من أكتوبر عام ١٩٥٨.
وبعد عامين، صدر العدد رقم ١٢٥٠ من «آخر ساعة» ليستأنف المسابقة، ويطرح ٣ جوائز للفائزين، تتراوح بين ٢٥٠ جنيهًا وألف جنيه. وأعادت المجلة نشر نص ما كتبه عبدالناصر، ليكمله المتسابقون.
وفى عدد «آخر ساعة» الصادر فى ١٥ أكتوبر ١٩٥٨، فاجأت المجلة جمهور المتسابقين بأن المهلة لن تزيد على شهر واحد، فآخر موعد لتقديم الأعمال هو ١٥ نوفمبر.
ولم يكن للاستعجال ما يبرره، فلم يتسلم الفائزون الجوائز إلا فى العام التالى، فى احتفال خاص بذكرى انتصار المصريين فى معركة رشيد يوم ١٩ سبتمبر عام ١٨٠٧.
تجاهل رئيس تحرير سابق
فى سبتمبر ١٩٥٩ زار عبدالناصر مدينة رشيد ووزّع عقود أراضى الإصلاح الزراعى على الفلاحين، ونشرت «آخر ساعة» فى عدد ٢٣ سبتمبر صورًا لاستقبال أهالى رشيد للرئيس، لكن الغريب أن المجلة التى تبنّت المسابقة الأدبية قبل ٣ سنوات، لم تهتم بنشر صور تكريم الفائزين بالجوائز عن استكمال قصة «فى سبيل الحرية»، بل تجاهلت ذكر المسابقة برمتها!
يزيد من غرابة هذا التجاهل، أننا بمراجعة مقطع فيديو من تغطية «جريدة مصر السينمائية» لزيارة عبدالناصر إلى رشيد، سنجد حرصًا على تصوير منصة تكريم الفائزين، وتوثيق فقرات حفل التكريم الذى بدأ بكلمة يوسف السباعى، ويظهر فيه الفائزون الثلاثة وهم يتسلمون الجوائز من الرئيس مباشرة. فأين مجلة «آخر ساعة» من كل هذا؟
هل كان لتجاهل «آخر ساعة» الإشارة إلى الفائزين بالمسابقة وقصصهم المرتبطة ببطولات أهل رشيد علاقة برحيل محمد حسنين هيكل عن رئاسة تحرير المجلة فى ٥ أغسطس ١٩٥٩، أى قبل ٦ أسابيع من زيارة عبدالناصر لرشيد؟
هل تعمّد رئيس التحرير الجديد أحمد الصاوى محمد، ومدير التحرير على أمين تجاهل المسابقة التى تبنّاها وروّج لها «هيكل»، نكاية فى رئيس التحرير السابق؟
وهل نصنّف ذلك ضمن «أمراض الأوساط الأدبية»، أم الصحفية؟
صراع الأدباء الفائزين
الفائزون الثلاثة بجوائز مسابقة «قصة الرئيس» يستحقون رواية تُكتب عنهم، وعن دوافع مشاركتهم، وصراعات فوزهم، ومصائرهم.
كانت الجائزة الأولى مُناصفةً من نصيب الأديب عبدالرحمن فهمى، والمقدم أركان حرب عبدالرحيم عجاج. وفاز بالجائزة الثانية السيناريست فاروق حلمى.
فضّل الفائز الثالث فاروق حلمى أن يضع عنوانًا إضافيًا للعنوان الذى اختاره الرئيس لقصته، فنشرت «دار المعارف» قصته فى سلسلة «اقرأ» تحت عنوان: «دماء فى الفجر، فى سبيل الحرية». ولاحقًا سيعمل فاروق حلمى فى مجال التأليف وكتابة السيناريو والحوار للدراما الإذاعية والتليفزيونية، وشارك فى أعمالٍ من بينها: مسلسل الوعد الحق، وثلاثية الكهف والوهم والحب، والمسلسل الإذاعى «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل».
أمّا «الأديب أركان حرب» عبدالرحيم عجاج، فكان أول الفائزين بفرصة النشر المكثف، حيث صدرت روايته للمرة الأولى فى ٥ أكتوبر ١٩٥٩ ضمن سلسلة «الكتاب الفضى» الصادرة عن نادى القصة برئاسة تحرير يوسف السباعى.
ولم أصادف أخبارًا عن «عجاج» لاحقًا إلا فى صفحة الوفيّات، ومنها نعرف أنه وصل إلى رتبة لواء أركان حرب، من واقع نعى شقيقه فى صحيفة الأهرام.
وبمزيد من البحث، عثرت له على كتاب قام بترجمته، ونُشر ضمن مشروع «الألف كتاب» بعنوان «مختارات من علم النفس» للعالم الأمريكى إرنست هيلجارد. وكانت رتبته الموثقة على غلاف الكتاب: «بكباشى أركان حرب». كما عثرت على غلاف رواية له صادرة عن «روايات الهلال» بعنوان لافت ذى دلالة: «شىء نسيه البشر»!
وقيل إن الجائزة الأولى كانت من نصيب الأديب عبدالرحمن فهمى منفردًا، لجودة قصته، وعمقها، مقارنة بقصة شريكه فى الجائزة الأولى. وذلك أمر ليس لى رأى فيه، لأننى لم أعثر على نسخة من رواية عبدالرحمن فهمى لأقرأها، وإن كنت قرأت رواية عبدالرحيم عجاج، وأراها كتابة تليق بطالب ثانوى بالفعل!
وبحسب تعبير الكاتب والمؤرخ شعبان يوسف فى مجلة العربى الكويتية «العدد ٦٥١»: جرى «تفويز» الضابط بالضغوط والمجاملات، ثم فرضت قصة الضابط عبدالرحيم عجاج ضمن المناهج الدراسية!
وربما لهذا السبب تمكّنت من الحصول بسهولة على نسخة من رواية «عجاج» للاطلاع عليها. وهى متاحة على الإنترنت لمن لديه فضول لقراءتها. وربما يستنتج القارئ معى بعض الأسباب التى شجّعت المسئولين لاختيار هذه الرواية تحديدًا على ما بها من ضعف ومباشرة وخطابية لتكون ضمن المناهج الدراسية.
كتبوا اسم «عجاج» فى ذيل الغلاف تمامًا، بينما اسم الرئيس «مشروع الأديب السابق» فى رأس الصفحة. وتبدأ الرواية بإهداء المؤلف للرئيس، ثم كلمة وزير التربية والتعليم كمال الدين حسين، يصف فيها عبدالناصر بالبطل الكبير. ثم مقدمة للتعريف بالسياق التاريخى لمعركة رشيد، كتبها الأديب محمد سعيد العريان بصفته مدير إدارة الشئون العامة بوزارة التربية والتعليم.
كتاب تاريخ.. لا رواية
وكتب المؤلف مقدمة لشرح منهجه فى كتابة باقى رواية «فى سبيل الحرية»، مؤكدًا التزامه بالشخصيات التى وضعها الرئيس، لكنه أضاف بعض الشخصيات الواقعية والخيالية لتحريك حوادث القصة، وقرر أن يبدأ الرواية من مشهد مختلف عن ذلك الذى بدأ به الرئيس «مشروع قصته».
وفى سياق الرواية، وضع المؤلف الكثير من الهوامش والحواشى للوقائع التاريخية والأماكن، لدرجة حوّلت الرواية إلى كتاب تاريخ، يليق بتدريسه للطلبة بالفعل!
وبعد الفصل الذى يتناول انتصار أهل رشيد، يقفز المؤلف قفزة زمنية طويلة، ويخصص فصلًا للإشارة إلى طالب يجلس فى مدرسته ليقرأ تاريخ مصر، فتؤثر فيه ٥ كلمات فقط، هى «حملة فريزر واندحارها أمام رشيد»، فيقرر أن يكتب عنها رواية.
وهذا الطالب بالطبع هو جمال عبدالناصر، الذى يقرر فجأة، بحسب نص الرواية، أن «يرمى قلمه» عند كتابة الفصل السادس من مشروع روايته الأولى، فقد ألحّ عليه خاطر غريب: إن الإنجليز لن يطردهم القلم، ولن يردهم الورق، وعزم أن يدبر أمرًا. فبدلًا من أن يدبّر أسطورة فى روايته، قرر أن يُدبر شعبًا وجيشًا. وبدلًا من أن يطرد الأعداء على صفحات الخيال، طردهم على صفحات الحقيقة. ثم تظهر صورة الرئيس جمال عبدالناصر فى ختام هذه السطور، فى ختام صريح ومباشر للرواية، أو كتاب التاريخ.
سرقة بخط اليد
أمّا الأديب عبدالرحمن فهمى، فحكايته حكاية!
نشرت وزارة الثقافة والإرشاد القومى روايته الضخمة «فى سبيل الحرية». ولاحقًا، سيواصل عمله بالتأليف، ومن إصداراته: «رحيل شيخ طريقة» و«دموع رجل تافه» و«تاريخ حياة صنم». إلى جانب أعمال درامية شارك فيها بالقصة أو السيناريو والحوار للإذاعة والتليفزيون والسينما، ومنها: مسلسلات «السقوط فى بئر سبع» و«فى بيتنا رجل» و«الطريق إلى سمرقند»، وأفلام «ليلة القبض على فاطمة» و«٣ قصص» و«قط وفار».
وبعد نحو ٤٣ عامًا على فوزه بالجائزة الأولى، ووضع اسمه إلى جوار اسم الرئيس عبدالناصر على غلاف «فى سبيل الحرية»، يبدو أن غضب الأديب عبدالرحمن فهمى من كواليس لجنة إعلان الفائزين بالمسابقة الأدبية عام ١٩٥٩ قد لازمه إلى نهاية العمر، حتى أنه فاجأ الجميع بتصريحات صادمة لجريدة المساء بمناسبة ذكرى ثورة يوليو عام ٢٠٠٢.
قال «فهمى» إنه اكتشف «بعد وفاة عبدالناصر»، وليس قبلها، عن أن «الرواية أو هذه الصفحات العشر ليست لعبدالناصر، بل نقلها بخط يده وهو تلميذ بالثانوية من رواية «ذو القناع الجلدى» من تأليف البارونة إيما أوركزى. وأضاف «فهمى»: فعل عبدالناصر كما فعلنا جميعًا أيام الدراسة حينما نعجب بقصيدة أو قصة، كنا «ننقلها» فى كراساتنا المدرسية بخطنا ونفخر بها. لكن المنافقين بعد الثورة اكتشفوا هذه الصفحات فى كراسة عبدالناصر فأعلنوا عن أنه كاتب روائى، ثم أعلنوا عن هذه المسابقة لاستكمال روايته!
وفى تصريحاته لـ«المساء»، تعهّد عبدالرحمن فهمى بأنه «إحقاقًا للحق» إذا صدرت روايته «فى سبيل الحرية» فى طبعة جديدة، سينسب هذه الصفحات العشر التى كتبها عبدالناصر إلى رواية «ذو القناع الجلدى» لأوركزى.
لم تصدر الرواية فى طبعة جديدة لأن عبدالرحمن فهمى مات بعد هذه التصريحات بأقل من ٣ أشهر، فى ١٧ أكتوبر ٢٠٠٢، عن عمر ناهز ٧٨ عامًا.
ويوثّق هذا الاتهام القاص والروائى محمد عبدالله الهادى، عضو اتحاد كتاب مصر، فى مقال يرجع إلى يونيو عام ٢٠٠٦، نشر نسخة منه فى «ملتقى رابطة الواحة الثقافية». ومنه نقرأ مما جاء فى مقدمة عبدالرحمن فهمى لروايته فى طبعتها الأولى: «هذه الرواية بُنيت أحداثها على أساس من الصفحات التى كتبها السيد الرئيس، ولم يتعد دورى السير مع الشخصيات التى ابتدعها الرئيس سيرًا يتفق مع المنطق الروائى والتاريخى».
وبعد كل هذه السنوات، يقطع «فهمى» بأن «عبدالناصر متهم بسرقة أدبية بشياكة» إن جاز التعبير. بعد ٦٧ عامًا على كتابة عبدالناصر محاولته الأدبية الأولى، وبعد ٣٢ عامًا على وفاته، كان من نصيب اسمه أن يُجرّب الاتهامات الأدبية من المثقفين، كما سبق وجرّب الهجوم على سيرته من سياسيين وعسكريين ورفاق درب! ألم يحلم يومًا بأن يكون كاتبًا وأديبًا، فليذق نصيبه إذن!
قال فهمى إن «المنافقين» نظموا هذه المسابقة، وهم من ورطوا عبدالناصر فيها! ولم يحدد هنا أى المنافقين يقصد؟ هل يقصد «هيكل» رئيس تحرير مجلة «آخر ساعة» التى تبنت المسابقة وروّجت لها؟ أم يقصد يوسف السباعى سكرتير مجلس رعاية الفنون والآداب؟ أم يستخدم كلمة سهلة فى اتهام مُعلّب عابر للأزمنة والأنظمة؟
الرجل «المقنع» سبب الأزمة
لكنه فى كل الأحوال اتهام مردود عليه. بالبحث عن الرواية التى قال «فهمى» إن عبدالناصر نقل عنها سطور «مشروع روايته» نجد أن «ذو القناع الجلدى» للبارونة أوركزى هى نسخة مترجمة للعربية عن سلسلة إنجليزية شهيرة للمؤلفة ذاتها، صدرت للمرة الأولى عام ١٩٠٥ بعنوان: «سكارليت بيمبرنِل».
وتدور أحداثها حول شخصية «رجل مُقنّع» غير معلوم الهويّة يساعد فى إنقاذ النبلاء من الإعدام فى زمن الثورة الفرنسية. ووجود شخصية رجل يرتدى قناعًا ويساعد أهالى رشيد فى معركتهم لا يكفى دليلًا لاتهام عبدالناصر بسرقة مشروع روايته، فمن يقرأ القصة غير المكتملة لعبدالناصر سيجدها مصرية تمامًا، وبأسلوب جيد بالنسبة لطالب ثانوى، كما أن شخصية البطل «المُتنكّر» أو «المُتخفّى» أو مجهول الهوية موجودة فى كل السير الشعبية حول العالم، ولدينا مثال يقترب منها فى حكايات «على الزيبق».
ومن يقرأ رواية عبدالرحيم عجاج الفائز هو الآخر بالجائزة الأولى سيجده قد خصص فصلًا للكشف عن هوية «الرجل المُقنّع» بطريقة ربط جيدة جدًا لم ترد فى الصفحات الأولى التى كتبها عبدالناصر، بل وقد أظنها لم تخطر على بال عبدالناصر حين رسم الخيوط الأولى لشخصيات قصته.
وفى رواية «عجاج» سنكتشف فى النهاية تبريرًا دراميًا لشخصية «الرجل المُقنّع»، وهو «جابر الرشيدى» الذى فقد عينه، واحترق نصف وجهه، من أثر تعذيب الإنجليز له، فهرب من رشيد لفترة، ثم عاد ليساعد أهلها سرًا فى المعركة دون الكشف عن هويته.
أظن، وليس كل الظن إثمًا، أن ذاكرة فهمى «صاحب الاتهام» قد خانته قبل الرحيل بشهور، فهو نفسه يقول إن أحد الأعضاء المنافقين فى لجنة التحكيم بالمسابقة كتب يقول: «إن عبدالناصر أراد تحرير الوطن بالقلم فبدأ بكتابة هذه الرواية، ثم رأى أن التحرير لا يكون إلا بالسيف فقاد ثورة يوليو». والحقيقة أن «فهمى» ربما نسى أن هذا التعبير منقول نصًا من بين سطور رواية «عبدالرحيم عجاج» منافسه وشريكه فى الجائزة الأولى، وليس كلامًا لأعضاء اللجنة، المنافقين أو الشرفاء!
لكن لماذا وافق الأديب الشريف عبدالرحمن فهمى على المشاركة فى مسابقة يرى القائمين فيها مجرد مجموعة منافقين للرئيس؟ هل كان يرغب فى أن يكون مشروع منافق صغير هو الآخر؟ أم أنها فقط مزايدة أدبية بأثر رجعى؟
فى تصريحاته لـ«المساء»، قال «فهمى» نصًا: «كنت أجلس مع الأديب يوسف إدريس فى مقهى عبدالله بالجيزة، وجاءنا الأديب والناقد عبدالقادر القط بخبر يستنكره، وفحواه أن «المنافقين» أعلنوا عن مسابقة لاستكمال عدة صفحات كتبها تلميذ فى المدرسة، ويريدون من الكُتاب تحويلها إلى رواية. فقال إدريس من المستحيل إكمالها كرواية، أمّا أنا فأخذت الأمر بجدية وتحدٍ ليوسف إدريس، وقلت إن فيها بذرة رواية يمكن أن تكون ناضجة فعلًا. وأكملتها فى شهر».
بلغ عدد صفحات رواية «فهمى» نحو ٤٩٠ صفحة على ٣ أجزاء، فهل كتبها بالفعل خلال شهر واحد؟ أم أنه سبق وقرأ الإعلان الأول عن المسابقة عام ١٩٥٦، وبدأ فى كتابة الرواية، حتى جاء الإعلان الثانى عن الرواية فى أكتوبر عام ١٩٥٩، ليسلمها «فهمى» خلال مهلة الشهر التى حددتها لجنة المسابقة بنهاية ١٥ نوفمبر ١٩٥٩؟ وبذلك يكون قد كتبها فى ٣ سنوات؟
الأدباء المحترفون يمتنعون
وقد يفسر رأى يوسف إدريس وعبدالقادر القط فى مسألة «المنافقين» و«سطور كتبها تلميذ»، امتناع الأدباء المحترفين عن دخول المسابقة. وهو ما نتأكد منه فى إشارة الكاتب والمؤرخ شعبان يوسف إلى مقال يوسف السباعى الذى نشر فى ٣ أغسطس ١٩٥٩ تحت عنوان «كيف أكملت قصة الرئيس؟»، وفيه يقول إن نحو ٤٠٠ متسابق مصرى وعربى تقدموا للمسابقة، لكنه انزعج من «امتناع كبار الكتاب عن المشاركة، لذلك جاء المستوى ضعيفًا».
ويقول شعبان يوسف فى «العربى الكويتية» إن مقال يوسف السباعى تضمّن محاولته لإكمال رواية الرئيس، لكنها «تكملة كروكية»، فلم تكن سوى تخطيط لإكمال الرواية كما هو واضح من الملخص الذى نشره السباعى فى مقاله، لذلك فهى تكملة لا يعتد بها.
ومن المفارقات فى هذا السياق، أن أحد إعلانات المسابقة الذى عثرت عليه فى أرشيف «آخر ساعة» بتاريخ ٨ أغسطس ١٩٥٦ بعد الإعلان الأول بعشرين يومًا، نُشِر إلى جواره مقال للأديب فتحى غانم فى بابه الشهير «أدب وقلة أدب» تحت عنوان «إنذار لأدباء مصر». وقال فيه إن الأدب والفن المصرى فى حالة إفلاس ليس لها مثيل، نحن لا ننتج فنًا ولا شبه فن، نحن الذين نهز العالم سياسيًا بعد قرار تأميم قناة السويس، ليس لدينا أديب واحد يهز العالم بأفكاره»!
مفارقات فهمى وفهمى!
بقيت إشارة وحيدة لتكتمل الصورة فى مسألة اتهام الأديب عبدالرحمن فهمى للرئيس عبدالناصر بسرقة أو اقتباس أو نقل مشروع روايته من رواية أجنبية، أن اسم الأديب عبدالرحمن فهمى يتشابه مع اسم الكاتب الصحفى والناقد الرياضى عبدالرحمن فهمى ابن شقيقة محمود أبوالفتح صاحب جريدة المصرى الذى جرّدته محكمة ثورة يوليو من أمواله، وهرب خارج مصر ليؤسس إذاعة «مصر الحرة» فى باريس بدعم فرنسى وبريطانى ليهاجم نظام عبدالناصر أثناء العدوان الثلاثى على مصر.
وقد رحل الأديب عبدالرحمن فهمى صاحب «فى سبيل الحرية» عام ٢٠٠٢، بينما رحل الكاتب الصحفى والناقد الرياضى عبدالرحمن فهمى فى ٢٣ يوليو ٢٠٢٣ عن عمر ناهز ٩٤ عامًا، فى يوم الاحتفال بذكرى ثورة يوليو التى أطاحت بخاله أول نقيب للصحفيين!
ولا تزال الكثير من المواقع الصحفية والمنصات الإلكترونية تخلط بين الرجلين، وتضع صور الناقد الرياضى عبدالرحمن فهمى فى صفحات التعريف بالأديب عبدالرحمن فهمى، وفى ذلك مفارقة عبثية تليق بمؤلف روائى راحل.
وإلا فالدراما كانت ستصل إلى ذروتها لو أن الصحفى عبدالرحمن فهمى ابن شقيقة محمود أبوالفتح كان هو نفسه الذى أكمل رواية جمال عبدالناصر فى المسابقة التى انطلقت عام ١٩٥٦، نفس العام الذى أطلق فيه خاله إذاعة مصر الحرة لسب عبدالناصر ونظامه خارج مصر.
لا شىء مستحيلًا فى «دراما الحياة» وأقدارها.
«فى سبيل الحرية».. كلنا كده عايزين لقطة
كان اهتمام الرئيس عبدالناصر بتوزيع جوائز استكمال روايته «فى سبيل الحرية»، إشارة ضمنية يفهمها جيدًا كل المسئولين فى بلادنا. فوزارة الثقافة والإرشاد القومى طبعت الرواية ونشرتها، ووزارة التربية والتعليم أضافتها للمناهج الدراسية.
وفى ٢٥ يوليو ١٩٦١ وزّعت مجلة الكواكب نسخة مجانية من رواية عبدالرحيم عجاج مع عدد المجلة احتفالًا بأعياد الثورة.
وفى ٢ يونيو ١٩٦٤، نقلت «الكواكب» خبرًا عن المنتج جمال الليثى رئيس شركة القاهرة للسينما، إحدى شركات القطاع العام، يبشر بفيلم جديد سيجمع ماجدة وشادية وفاتن حمامة بعنوان «فى سبيل الحرية». وقال كمال الشيخ مخرج الفيلم إن المنتج عرض دور «الرجل المُقنّع» على النجم العالمى عمر الشريف.
وزيادة فى الإيضاح، نشرت «الكواكب» فى أكتوبر ١٩٦٤ خبرًا يبدو إعلانيًا، يجمع بين صور الدكتور عبدالقادر حاتم، وزير الثقافة والمهندس صلاح عامر، رئيس مؤسسة السينما والإذاعة والتليفزيون إلى جانب جمال الليثى الذى أكد بدء الاستعداد لتصوير فيلم «فى سبيل الحرية» بالألوان و«السينما سكوب» فى الربيع القادم «١٩٦٥».
ولم يفت جمال الليثى التأكيد أنه صاحب فكرة تقديم قصة الرئيس على شاشة السينما. وأنه اتخذ خطوة أولى فى سبيل إنتاجها بصفته منتجًا بالقطاع الخاص أولًا، فقدم القصة إلى السيناريست على الزرقانى، وتعاقد مع كمال الشيخ لإخراجها، لكنه وجد أن إمكانات القطاع الخاص لا تكفى لتقديم الفيلم بالمستوى اللائق، فتوقف المشروع مؤقتًا.
وبعد أن دخلت الدولة مجال الإنتاج السينمائى، وترأس جمال الليثى شركة القاهرة للسينما وجد أن الإمكانيات المتاحة له تكفى لإنتاج الفيلم، فتعاقد مع المنتج صبحى فرحات صاحب شركة «المتحدة للسينما» لإنتاجها، وبدأت الشركة تستعد لهذا الحدث الكبير، على أن يجرى تصوير الفيلم فى نفس المواقع التى شهدت معركة رشيد.
لكن لسبب ما، لم يتم المشروع الذى تحدث عنه جمال الليثى كثيرًا للمجلات الفنية. من امتلك الجرأة لتعطيل «فيلم الرئيس»؟
وفى ٢١ سبتمبر ١٩٦٥، أى بعد نحو عام على تصريحات الليثى، نشرت «الكواكب» خبرًا يؤكد أن مشروع الفيلم لا يزال قائمًا، وأن عبدالرحمن الشرقاوى يعمل على تحويل قصة الرئيس عبدالناصر إلى أوبرا بالتعاون مع المؤلف الموسيقى عزيز الشوان.
وفى ٢٨ يوليو ١٩٦٥، نشرت «آخر ساعة» مقاطع شعرية كتبها نجيب سرور تحت عنوان «فى يوم ما من شهر ما»، وذكرت المجلة أن هذه المقاطع مستوحاة من مسرحية «فى سبيل الحرية»، وقد كتبها نجيب سرور بتكليف من المخرج سعد أردش لتؤدى على لسان الكورس. لكن بعد طبعها وإعدادها للعرض فوجئ نجيب سرور بأن المخرج كان على اتفاق مع شخص آخر لكتابة المقاطع المطلوبة! وفى الغالب، فإن الشخص المقصود هو الشاعر سلامة العباسى.
فأين ذهبت مسرحية سعد أردش عن قصة الرئيس؟
نفهم من خبر منشور فى «الكواكب» بتاريخ ٢١ سبتمبر ١٩٦٥ أن المخرج سعد أردش قدم حلقات فى التليفزيون حول قصة الرئيس، فهل هى حلقات تمثيلية أم مسرحية؟ أم كلتاهما!
أمّا الإذاعة، فحوّلت قصة الرئيس عبدالناصر إلى مسلسل من إخراج يوسف الحطاب، وبطولة محسن سرحان وماجدة وحسين رياض وزوزو نبيل، بموسيقى عبدالحليم نويرة، وأعد النص الإذاعى طاهر أبوفاشا، مع ذكر اسم الرئيس عبدالناصر فى مقدمة التتر كمؤلف، دون إشارة إلى أسماء الفائزين باستكمال قصة الرئيس، المؤلفين الحقيقيين للقصة!
ومن اللافت إصرار المسلسل الإذاعى على معلومة أن عبدالناصر بدأ كتابة قصته عام ١٩٣٤، وهى المعلومة نفسها التى اعتمد عليها الكاتب والمؤرخ شعبان يوسف فى «العربى الكويتية»، وكذلك الدكتور خالد عزب فى كتابه الصادر عن دار أطلس بعنوان «بقلم جمال عبدالناصر». على عكس ما تكشفه لنا الإعلانات التى نشرتها «آخر ساعة» على مدار ٣ سنوات، والتى تتضمن تأكيدًا دقيقًا لتاريخ كتابة القصة فى ١٥ مايو ١٩٣٥.
وهكذا، تحولت سطور الطالب جمال عبدالناصر بعد ٣٠ عامًا على كتابتها إلى أوبرا، ومسرح، ومسلسل إذاعى، وفيلم سينمائى، ومناهج دراسية، وآلاف النسخ المطبوعة، ثم.. لا شىء.