الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«إخوتنا الغــرباء».. أمين معلوف يواجه جموح العصر بالفانتازيا

أمين معلوف
أمين معلوف

- الإخوة الغرباء الذين يظهرون فى لحظة مصيرية لإنقاذ الكوكب من الهلاك منحدرون من الحضارة الإغريقية

- تعبر الرواية عن القلق من الانتشار النووى الجامح غير أنها فى صياغتها الفانتازية تلك للأزمة تبدو أكثر انحيازًا للولايات المتحدة

إن كان ثمة خيطٌ واحد يربط ما بين أعمال الكاتب اللبنانى الفرنسى أمين معلوف الفكرية والروائية فإنه سيكون على الأرجح محاولة فهم المتغيرات العاصفة التى مرّ بها العالم وكان لها أثر على دفعه إلى ما هو عليه. هذه المحاولة قد تجنح نحو الماضى فتحلله فى كتابات روائية من قبيل «التائهون»، و«سمرقند»، و«ليون الإفريقى»، أو فى كتابات فكرية تتأمل الراهن فى ضوء التاريخ مثل «الهويات القاتلة» و«اختلال العالم»، و«غرق الحضارات». وربما لا نجانب الصواب إن وضعنا روايته الأحدث «إخوتنا الغرباء» على امتداد هذا الخيط. الرواية التى صدرت فى الأصل باللغة الفرنسية ثم بترجمة عربية، عن «دار الفارابى» أنجزتها نهلة بيضون، تتخذ من عوالم الفانتازيا تُكأة للتفكير فى تحديات هذا العصر وأكثر كوابيسه قتامة غير أن معلوف لا يترك خيوط الرواية تنساب نحو العوالم الديستوبية القاتمة وإنما يتشبث بأمل غرائبى ينقذ العالم من جنوحه وشططه. 

الفانتازيا وغرق الحضارات

لا يستهدف أمين معلوف من الفانتازيا فى رواية «إخوتنا الغرباء» التحليق فى عوالم خيالية أو أسطورية، وإنما يرتكز عليها لتقديم رؤية من الخارج لعصرنا الذى لا يكل البشر فيه عن تخريب الكوكب. الفانتازيا هنا إذن، وبحسب ما يذكره عنها الناقد المغربى شعيب حليفى، وسيلة للتعبير عن هزائم فردية وجماعية، فهى تشكل عالمًا خاصًا له قوانينه وتشريعاته داخل عالم له بدوره قوانينه التى يسعى لتكسيرها والانقطاع عنها، بهدف الكشف الشامل عن الواقع الكونى، من زاوية مغايرة للمألوف. 

فى كتابه «غرق الحضارات» كان معلوف مهمومًا بمصير الفناء الذى ينتظر العالم بسبب انحرافاته، لا سيما بالسنوات الأخيرة، هذه الانحرافات تتخذ أشكالًا متعددة يناقشها الكتاب غير أن المحور الذى ينتقل من «غرق الحضارات» إلى رواية «إخوتنا الغرباء» هو القلق من سباق التسلح بالسنوات الأخيرة وما يمكن أن يقود إليه من كارثة وشيكة. 

يقول معلوف فى كتابه: بعد أن استكان هذا السباق منذ انهيار الاتحاد السوفيتى عاد بوتيرة متسارعة بين البلدان التى تطمح لأن تصبح قوى عظمى.. تزداد صعوبة تجنب الانزلاقات التى قد تكون عواقبها مدمرة، فكيف لا نتوجس حين تخطر ببالنا القنابل القذرة القادرة على أن تنشر من حولها مواد إشعاعية وأن تُلوث لفترة أطول أقاليم بحالها أو الأسوأ من ذلك تلك القوارير التى يُقال لنا إن ما تحتويه قد يؤدى إلى فناء سكان مدينة؟.

من هذا التوجس تنطلق رواية «إخوتنا الغرباء»، ففى مذكرات يكتبها الراوى يدخل القارئ مباشرة إلى أجواء باعثة على القلق والتوجس. يشكو الكاتب، الذى يسكن فى جزيرة صغيرة ضمن أرخبيل يتألف من أربع جزر تسمى الشيرون، من أعطال متنوعة فى التيار الكهربائى والهواتف المحمولة وموجات الراديو، ما يدفعه للظن أن مأساة قد حلّت بالعالم؛ خطأ شنيع ارتكبه الجنس البشرى سيؤدى إلى التهلكة. 

يتأكد هذا الظن لاحقًا من حديث هاتفى للراوى يجريه فور عودة الاتصالات مع مورو؛ الصديق القديم للراوى الذى صار مستشارًا للرئيس الأمريكى، إذ يخبره بأن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية المُتخيل بالرواية؛ هاورد ميلتون، قد قرر جمع كل قنبلة وكل رأس نووى وكل جرام من البلوتونيوم أو اليورانيوم المخصب قد تكون بين أيدى أشخاص خارجين عن السيطرة، وذلك بعد حدوث انفجار نووى محدود النطاق فى ولاية ميريلاند الأمريكية تسبب فى مقتل أكثر من ستمائة شخص. هذا العزم الأمريكى يُواجه بترحيب من بعض الدول الأوروبية غير أنه يُستقبل بهجوم دول أخرى مثل روسيا والصين والهند وباكستان، وهى الدول التى تسعى لتعزيز قدراتها النووية. 

يُعيد معلوف تقديم الواقع وقلقه فى إطار فانتازى، إذ تحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية بمكانتها باعتبارها القوى العظمى وتمثل روسيا قوة مهددة للعالم، فمُنفِّذ الهجوم النووى حاكم قوقازى اسمه «ساردار سارداروف»، وحاكم الولايات المتحدة المُتخيل يسعى لإنقاذ العالم من الدمار المحتمل، إذ يقرر تنفيذ عملية تطهير ضد معقل سارداروف فى القوقاز لتعطيل ترسانته النووية، فيستعد الحاكم القوقازى بدوره لإطلاق صواريخه على عدد من المدن اعتراضًا على هذه الضربة الأمريكية المخطط لها.

تعبر الرواية عن القلق من الانتشار النووى الجامح، غير أنها فى صياغتها الفانتازية تلك للأزمة، تبدو أكثر انحيازًا للولايات المتحدة التى يظهر رئيسها باعتباره الحاكم الرشيد الحريص على حماية العالم وصيانته من الشطط الروسى والاندفاع الجنونى نحو الكارثة بدون أن يكون لها أى مصالح فى مساعيها تلك وبدون إشارة إلى دورها فى تأجيج الصراع بالعالم. فينقل الراوى عن صديقه مستشار الرئيس قوله: «إننى مقتنع بأن ما من صاروخ من صواريخ العدو كان سيصيب أراضى الولايات المتحدة، فسيعترض سبيلها كلها وتدمر فى الجو ولكنها ستطول أهدافا أخرى، فى أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا مما سيؤدى إلى كارثة كبرى. هل كنا سنستطيع المجازفة بتعرض مدن مثل أثينا أو فيينا أو روما أو القدس أو إسطنبول أو دبى للدمار؟ كان الرئيس مرغمًا بالتأكيد على التحرك». 

وعلى الرغم من أن الفانتازيا هنا فى الرواية تمد أحد الخيوط التى حاكها معلوف فى كتابه «غرق الحضارات»، فإنها تنأى عن النسيج المتكامل الذى اتسم به الكتاب، فالرواية تبدو قلقة على مآل الحضارات غير أننا لا نعاين سوى قلق جم على مصير العالم الغربى فلا حضور حتى ولو لمحض ظلال للعالم العربى الذى لطالما أنهكته صراعات القوى الكبرى.

مذكرات الراوى 

ترتكز الرواية فى تأسيس بنيانها على المذكرات التى يكتبها الراوى ليسجل فيها أحداث يومه وهواجسه وربما يستدعى فيها ماضيه ليكشف ما هو غامض من توجه له فى الحاضر، ومن خلال هذه المذكرات نتعرف على الراوى؛ الرسام ألكسندر الذى يغادر إلى جزيرة أنطاكية، تلك الجزيرة الواقعة ضمن أرخبيل مكون من أربع جزر، بعد أن أتم دراسة الحقوق والاقتصاد وتاريخ الحضارات، تحقيقًا لحلم والده الذى اشترى الجزيرة وحلم بتأسيس منزل بها غير أن الضوائق المالية عرقلته حتى وافته المنية، ليحقق الابن حلم أبيه ويؤسس منزله بالجزيرة غير أنه يكتشف أن الجزيرة ملكية مشتركة بين والده والروائية إيف سان جيل. 

وعلى الرغم من الوتيرة التقليدية التى يتبعها معلوف فى تسجيل مذكرات الراوى، جاعلًا الفانتازيا هى العنصر الأبرز فى الرواية، فإنه يناقش هذا المنحى فى الكتابة ويُبرره عبر الانعكاسية الذاتية، فالراوى يُعبر عن أفكاره حول الكتابة فى الرواية حين يقول: «ها أنا ذا أكتب مثل جارتى الروائية، إننى أتشتت.. يجب أن أظل متمسكًا بالأحداث حصرًا. إنها درامية بما يغنينى بالقدر الكافى عن التهويل، وإنها مذهلة بالقدر الكافى بما يعفينى من التنميقات الأسلوبية، ومن اللجوء إلى الفاكهة المثمرة على سبيل الاستعارات المجازية، على سبيل البهرجة». 

تتكشف عبر المذكرات علاقات الراوى بصديقه مورو؛ المحامى ومستشار الرئيس الأمريكى وبأغامنون؛ الملاح الذى تتكشف صلته بالإخوة غير المتوقعين الذين يأتون لإنقاذ العالم من جنوح سباق التسلح والتهديد النووى، كما أن تلك المذكرات تمنح مساحة رحبة للراوى كى يُعبر بحرية عن آرائه إزاء الأحداث وتدخلات الإخوة المنقذين، غير أنها أيضًا تنقل ملامح العلاقة التى تشكّلت ما بين ألكسندر وإيف اللذين جمع بينهما القلق من الفناء المحتمل للعالم، ومن الكارثة والاقتراب من الفناء يولد الأمل عبر طفل تحمله إيف فى رحمها يبشر بحياة وأمل متجددين قادرين على مواجهة الكارثة وأهوال الحاضر. 

الإخوة غير المتوقعين

يُعاد تقديم هواجس الواقع العالمى فى إطار مغاير للواقع على صعيد أسماء الشخصيات والزمان الذى تدور به الأحداث، ومع ذلك، فإن العنصر الفانتازى الأهم فى الرواية هو «الإخوة الغرباء» الذين يأتون لإنقاذ الكوكب من الدمار فى اللحظة التى يعتزم فيها الرئيس الأمريكى بالرواية إجراء اتصال لتنفيذ أمر القصف الشامل للقواعد العسكرية القوقازية، تتوقف الأجهزة والاتصالات ثم تعمل فجأة لتظهر رسالة للرئيس يقول فيها شخص يُدعى ديموستينس إنه موجود بالقصر وبانتظار مقابلته.

الإخوة الغرباء الذين يظهرون فى لحظة مصيرية لإنقاذ الكوكب من الهلاك منحدرون من الحضارة الإغريقية، التى شهدت تطور العقل البشرى فى مختلف الفنون والآداب، ويرغبون فى أن يعيدوا إلى البشر رشدهم بتجنيبهم الانزلاق نحو الهاوية. 

لا تقدم الرواية معلومات عن هذه المجموعة المتخيلة التى تتحدد مهمتها فى الإنقاذ سوى بتصور فانتازى يسرد انقسام البشر منذ عهود قديمة بين بشريتين متوازيتين، الأولى تحمل الحكمة والخلاص لكنها تحيا فى الظلام، والثانية تتجه نحو الانحطاط رغم أنها تحيا فى النور. وهذا التصور الفانتازى، الذى يجعل من ممثلى الحضارة الإغريقية القديمة بقيمها ونجاحاتها فى بناء العقل والحضارة، الضوء الذى يعقد عليه معلوف الأمل، إذ يتمنى أن توجد قوة راشدة تعيد للعالم صوابه وتنقذه من جنونه وجنوحه، وهذه الأمنية التى من فرط فانتازيتها تبدو غير قابلة للتحقق تعبر عن الأسف الذى سبق وعبّر الكاتب عنه بكتابه «غرق الحضارات» حين قال: عندما أتأمل اضطرابات هذا القرن، يعترينى الأسف لغياب أى سلطة سياسية ومعنوية بوسع أبناء عصرنا أن يتوجهوا إليها بثقة وبأمل، أى سلطة حاملة للقيم الكونية، وقادرة حقًا فى الوقت نفسه على التأثير فى مسيرة التاريخ. 

ومع أن مهمة الإخوة الغرباء تتحدد فى تطهير شامل لتخليص الكوكب من كل سلاح أو أداة قد تهدد بقاء الجنس البشرى، فإن الإشعاعات التى يطلقونها لتحقيق مهمتهم تتسبب فى شلل مؤقت لبعض الأفراد وفى سعيهم لإصلاح ما أفسدوه، تتكشف قدراتهم العلمية والتكنولوجية والطبية التى لا تُقارن بما يعرفه سكان العالم، ومن هنا يُكتشف تداعى الحضارة التى لطالما ترنمت بعلومها، ويتحول التاريخ البشرى إلى مجرد فصل فى مغامرة الإخوة الغرباء.

ومن خلال الإمكانات المتقدمة التى يحوزها الإخوة الغرباء، الذين هم «أكثر موثوقية، وأكثر احترامًا لمصير الضعفاء»، والتى تتيح لهم شفاء جميع الأمراض وتأخير الشيخوخة وإطالة العمر، يُعبر أمين معلوف، الحائز على جائزة الغونكور لعام ١٩٩٣، عن أمله الذى قد يبدو يوتوبيًا فى أن تكون الحضارة ما بعد الإنسانية المقبلة أكثر أخلاقية وأكثر ارتكازًا على القيم التى بدونها قد يؤول الإنسان إلى استعباد جديد وحلقة جديدة أكثر شراسة من انعدام المساواة على أيدى المتحكمين بعمر الإنسان ومصيره. 

هذا الأمل منبعث من هاجس سبق وعبّر عنه معلوف فى كتابه «غرق الحضارات» حين قال: حتى أكثر الفتوحات الطبية الواعدة والمفيدة لمستقبل جنسنا البشرى قد تصبح خطرة فى عالم يتفكك. فإذا تسنى للعلم غدًا أن يتحكم بعملية شيخوخة الخلايا وكذلك عملية استبدال الأعضاء، وبالتالى أن يطيل بشكل هائل من مدة الحياة، ألن يكون ذلك، بصورة لا تقبل الجدال، تطورًا مذهلًا؟ ولكنه سيكون كذلك مخيفًا، نظرًا إلى أن هذه التقنيات الباهظة لن يستفيد منها سوى نسبة ضئيلة من سكان العالم.. فكيف سيعاش هذا الفارق وهو التتويج الأخير لجميع أشكال اللامساواة؟.

هذه الجماعة المتخيلة التى يطلق عليها الكاتب اسم أصدقاء أمبيدوقليس؛ وهو واحد من فلاسفة اليونان القدامى، تمنح فرصة للقارئ كى يتفكر فى جنون الراهن الذى يعمى البشر عن مآلاتهم المنتظرة، ويدرك أهمية إعادة تقييم المسار الراهن وتعديله. وعلى الأقل، يمكن اعتبار الرواية فرصة للتعبير عما قد يقود إليه جنوح ولا أخلاقية الحضارات المتقدمة اليوم من إفلاس يهدد وجودها واستمرارها.