الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

صدمة المثلية.. عن الذى جرى فى المهرجان القومى للمسرح

عرض سابق لمنحنى خطر
عرض سابق لمنحنى خطر بمهرجان نوادي المسرح

- الرجل المثلى فى عرض «طقوس الإشارات والتحولات» يتعامل مع حقيقته الشاذة بخجل يدفعه لمواراتها

- عرض «منحنى خطر» يُقدم علاقة جنسية بين رجلين وكأنها شىء عادى

ليس المهرجان القومى للمسرح المصرى، الذى انطلقت دورته السابعة عشرة منذ أيام، حدثًا عاديًا؛ فعلى مدار سنوات، كان هذا المهرجان قِبلة لجماهير من مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية، الذين يتسابقون للظفر بحضور عروضه، فيما هو إثبات دامغ لخطأ ما يُشاع عن انصراف الجماهير عن الأعمال الفنية الجادة عمومًا والمسرح خصوصًا. 

وبعيدًا عن الإقبال الجماهيرى، تقدم كل دورة من المهرجان القومى للمسرح خلاصة جهد المسرحيين طوال عام سواء فى مسارح الدولة أو المسارح الجامعية أو حتى الفرق المستقلة، وهو ما يمثل فرصة للنظر فى طبيعة التطور أو التراجع الذى تشهده الساحة المسرحية. 

ومع ذلك، يُلاحظ منذ سنوات نُدرة العروض المرتكزة على نصوص مسرحية حديثة، إذ إن الاحتماء بالنصوص الناجحة والشهيرة، والتى قدمت مرارًا على مختلف المسارح العربية والأجنبية، يمثل الخيار الأكثر راحة لغالبية المسرحيين، بل إن الرغبة فى تجنب المخاطرة قد تصل إلى أن يصير دور الدراماتورج مقتصرًا على إعداد هزيل للنص ليصير ملائمًا للعرض، ومن ثم لا يقدم آنذاك أى رؤية جديدة تتناسب والمتغيرات الواقعية الراهنة.

قد يقود هذا الاستسهال إلى مشكلات فنية تؤثر على حركة تطور المسرح فى مصر، فالاحتماء بنصوص أثبتت نجاحها بأوقات سابقة سيجعل المسرح دائرًا فى حلقة مفرغة تعزله عن التقدم إلى الأمام أو حتى الوجود بالوقت الراهن، حيث يتعين على المسرح أن يتعاطى مع الواقع ويشاكسه لا أن يظل فى دائرته المغلقة لا يغادرها. ولكن قد يتجاوز الأمر البُعد الفنى ليصير معبرًا عن أزمة فكرية، وهذا هو ما رأيناه متجسدًا فى عرضين شهدهما المهرجان فى نفس اليوم، وهما «منحنى خطر»، من إخراج أشرف على وهو العرض الذى يُمثل أكاديمية الفنون بالمهرجان. و«طقوس الإشارات والتحولات»، للمخرج أحمد زكى، وهو من عروض الهيئة العامة لقصور الثقافة. 

فما المشكلة فى هذين العرضين؟ 

من عرض منحنى خطر

منحنى خطر

العرض الأول «منحنى خطر» مأخوذ عن نص أجنبى للمسرحى الإنجليزى جيه به بريستلى، ولا تختلف فكرته كثيرًا عن تلك التى قُدمت فى فيلم perfect strangers بنسختيه الإنجليزية والإيطالية، ثم النسخة العربية الأحدث فى فيلم «أصحاب ولا أعز». يدور العرض المسرحى إذن حول مجموعة من الأصدقاء يلتقون فى سهرة لطيفة سرعان ما تتحول إلى ساحة للكشف عما هو مستتر خلف العلاقات الاجتماعية المستقرة والمثالية، لتُنتزع أقنعة الشخصيات واحدًا تلو الآخر. 

لا يُمكن إنكار الجهد الكبير المبذول من صناع العمل لتقديم عمل ممتع فنيًا، فالحلول الإخراجية لاستعادة الماضى دون مغادرة اللحظة بكل زخمها وتوترها احتفظت بإبداعيتها مستعينة بالديكور البسيط والإضاءة القادرة على التلون والاستجابة لمتغيرات كل مشهد، كما أن العرض قدّم مواهب تمثيلية يمكن الرهان عليها مستقبلًا. ولكن يظل السؤال الذى يجب أن يكون حاضرًا فيما يخص المسرح: لماذا هذا العرض هنا والآن؟ 

منذ عامين، واجه فيلم «أصحاب ولا أعز»، الذى عُرِض على منصة «نتفليكس»، هجومًا ضاريًا بسبب إعادة تقديمه لحبكة الفيلم الأجنبى ذاتها مع كل ما تحمله من تعاطى مع العلاقات المثلية والغيرية بحرية تامة وبدون أى تغيير يلائم البيئة العربية. واليوم، يقدم المهرجان القومى للمسرح الحبكة ذاتها تقريبًا ارتكازًا على النص المسرحى هذه المرة، بدون أى تغييرات، فيجد المشاهد المصرى نفسه فى قلب مشاهد وأفكار غير معتادة بالنسبة لثقافته لكنها تُطرح أمامه فى إطار من العادية مثير للتساؤلات. 

فى السهرة التى تجمع مجموعة من الأصدقاء يحل موت صديقهم مارتن فى فلاش باك يكشف عن صدمة كبرى تعرض لها الجميع بموته الذى ظنوه قد انتحر، غير أنه مع التمادى فى لعبة الكشف عن الحقيقة تتكشف العلاقات المظلمة خلف المظاهر الاجتماعية المستقرة والبراقة، فيتبين أن «روبرت وفريدا» اللذين يبدوان زوجين سعيدين يخفيان كراهية كامنة تُكنها الزوجة لزوجها لأنها لم تُحب سوى أخيه المتوفى، كما يكتشف الجميع أن آنى ليست صديقة روبرت المفضلة ولكنها تحبه. 

وبعيدًا عن شبكة العلاقات المتشابكة تلك، تكشف لعبة الحقيقة عن شخصية جوردن، فيتبين أن انهياره عقب موت مارتن لم يكن حزنًا على صديق وإنما على حبيبه المفقود، فجوردن شاب مثلى الجنس كانت تربطه علاقة جنسية بمارتن. وفى واحد من مشاهد «الفلاش باك» يُعبِّر مارتن لجوردن عن حبه وتعلقه واستمتاعه بصحبته واستيائه فى المقابل بملاحقة زوجة أخيه له، وفى مشهد آخر تعبر الزوجة بيتى عن ضجرها من الزواج الصورى بالشاب المثلى جوردن، وهو ما دفعها للانخراط فى علاقة حميمة مع صديقهم تشارلز رغم أنها لا تحبه. 

المشكلة هنا فى هذا العمل المسرحى متعددة الأوجه، فإن كان صُناع العمل قد اختاروا الاستعانة بنص أجنبى قديم لما يحمله من معان قد تكون عابرة لخصوصيته الزمنية والمكانية، فما الداعى إذن لتقديمه كما هو بدون أى تغيير يراعى طبيعة الوقت الراهن والسياق المختلف الذى سيقدّم به؟ وكيف فى ظل الاستقطابات الراهنة، التى يُراد من خلالها جعل حقوق المثليين قضيتنا الكبرى رغمًا عنا، يُقدم عرض مسرحى للجمهور علاقة جنسية بين رجلين وكأنها شىء عادى لا يختلف فى شىء عن العلاقة الغيرية؟ هل افتقر صُناع العمل إلى الوعى بالسياق الراهن الذى تُلاحقنا فيه كل شعارات المثلية بكل مكان فى حملة ممنهجة تريد نزع المسألة غصبًا من إطارها المستهجَن؟ 

من عرض طقوس الإشارات والتحولات 

الإشارات والتحولات

العرض الثانى هو «طقوس الإشارات والتحولات»، للمخرج أحمد زكى، وهو مأخوذ عن نص بالعنوان ذاته للكاتب السورى سعد الله ونوس، وهو من العروض التى تشارك بها الهيئة العامة لقصور الثقافة فى المهرجان القومى للمسرح.

النص الذى صدر عام ١٩٩٤ عن «دار الآداب» يدور فى دمشق فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، على خلفية ما كتبه المجاهد فخرى البارودى بمذكراته حول خلاف استعر بين مفتى الشام ونقيب الأشراف أيام الوالى راشد ناشد باشا. ومع ذلك، فإن ونوس يُصدِّر عمله بتقديم يقول فيه: لم يكن همى أن أقدم عملًا عن البيئة أو أن أقارب الحقائق الاجتماعية والتاريخية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.. إن أبطال هذا العمل هم ذوات فردية تعصف بها الأهواء والنوازع وترهقها الخيارات، وسيكون سوء فهم كبير إذا لم تقرأ هذه الشخصيات من خلال تفردها وكثافة عوالمها الداخلية.

يحمل النص، الذى لم يخرج عنه العرض بل نقل محاوره كافة، أسئلة يُراد من خلالها الكشف عن الحقائق المظلمة التى يحملها الباطن خلف ظاهر براق ومقبول اجتماعيًا، فتقود مواقف بعينها إلى تكشُف بواطن الشخصيات ما يحدد مصائرهم فيما بعد. من خلال هذه المقارنة بين الظاهر والباطن، تتكشف دواخل رجل الدين المتشح برداء الزهد والعفة، وابنة رجل الدين التى عاشت حياتها بقناع الزهد فيما تحتدم بدواخلها رغبات غذّتها طفولة مضطربة. 

بعيدًا عن جرأة النص وجماليات العرض، الذى لم يعدم كذلك اشتغالًا فنيًا على الأشعار والرقصات الصوفية وإخراجًا راعى التكوين المسرحى على خشبة العرض بمهارة، لم يشغل صناع العمل أنفسهم أيضًا، كما هو الحال فى عرض «منحنى خطر»، بالاشتغال على النص بما يجعله أكثر ارتباطًا وتعبيرًا عن واقعنا المعيش وفى الآن ذاته بما يُخلّصه من تمثيل العلاقات الشاذة فى إطار من التعاطف. يقدم العمل المسرحى ثلاث شخصيات شاذة من الذكور، الأول هو سمسم وهو شخصية مخنثة يتصالح مع حقيقته ويُعرّف بها بين الرجال، أما الاثنان الآخران وهما عباس والعفصة فيتخفيان خلف مظهر ذكورى يُخفى حقيقة ميولهما الجنسية. 

فى العرض يثير سمسم فى حضور كل من العفصة وعباس حديثًا يقود بالنهاية إلى اكتشاف عباس حقيقة العفصة غير المعلنة، وبناء عليه، يدور بينهما ذلك الحوار: 

العفصة: هل تعدنى أن يظل كل شىء كما هو فى الظاهر؟

عباس وهو يداعبه: إذن سيكون لنا، مخبر ومظهر!

العفصة: ككل الناس يا عباس.. ككل الناس.

عباس: إذا كنت طيعًا ومرضيًا، فسأكون خيمة تغطيك وتحميك. 

يقود هذا الكشف لحقيقة العفصة ثم استمتاعه بعلاقة مع عباس إلى قراره بأن يتوافق مظهره مع مخبره، فيظهر فى مشهد آخر يقدمه العرض المسرحى وقد اتخذ هيئة أنثوية ممسكًا بهدية يقدمها لعباس وهى شاربه، ويدور بينهما الحوار التالى: 

عباس: قاتلك الله.. ماذا فعلت بنفسك؟

العفصة: فكرت أن أقدم لك هدية يا نور عينى.

عباس: أى عفريت ركبك.

العفصة: لم يركبنى إلا هواك. 

عباس: وهل قلبت سحنتك من أجل هواى؟

العفصة: أردت أن أحلو فى عينيك، لاحظت أن ولعك يخف وأنك تبتعد عنى فأصابنى فزع رهيب، وفكرت كيف أرضى حبيبى، كيف أرضيه وخطر لى أن أقدم لك أثمن ما لدى وآخر ما يميزنى فى عيون الناس. 

لم أكن أعرف سطوة الحب وجنونه. السترة وهل يستطيع العاشق أن يستتر! لم أعد أبالى بشىء. إن جفوة منك أشد على من ضياع اسمى وكرامتى ومكانى بين الناس. لا يهمنى أحد.. لا يهمنى إلا أنت وأريد أن ترغبنى وأن تجدنى حلوًا وطريًا بين يديك. 

فى هذا العرض لا يبدو الأمر عاديًا مثلما هو الحال فى «منحنى خطر»، فالرجل المخنث محل استهزاء واستهجان ولا يُتعامل معه باعتباره طبيعيًا وينبغى قبوله كما هو، كما أن «العفصة»؛ الرجل المثلى، يتعامل مع حقيقته الشاذة بخجل يدفعه لمواراتها، غير أن الأمر ينقلب حين ينتقل العرض، مثلما هو فى النص تمامًا، ليُصور إفصاح العفصة عن حقيقته باعتباره تعبيرًا عن الصدق فى مواجهة زيف الإخفاء، ولينقل رسالة مفادها ضرورة تصالح المجتمع مع الآخر المغاير فى توجهه الجنسى بدون دفعه إلى تزييف حقيقته.

منحنى خطر

سؤال مشروع

من هنا، يحق لنا التساؤل مرة أخرى، ما الدافع اليوم لتقديم عرضين مسرحيين ينتهجان الوجهة نفسها فى التعاطى مع الشواذ جنسيًا؛ تارة بحيادية تامة وكأن الأمر طبيعى تمامًا وعلى المستهجِن له أن يُراجع ذاته المختلة! وتارة أخرى بتوجيه أصابع الاتهام إلى المجتمع الظالم الذى يُجبر مثلى الجنس على إخفاء حقيقته والتخفى وراء مظهر رجولى، ما يقوده بالنهاية إلى الانتحار بسبب استهجان حقيقته! هل فقد صنّاع المسرح بوصلتهم أم أنهم يفتقرون إلى الرؤية بالأساس؟

ليست الممارسات المثلية مستحدثة ولم تكن يومًا، تشهد مختلف العصور التاريخية على وجودها، والمشكلة الآن ليست فى الإشارة إلى وجودها المعروف، وإنما فى هذا الإلحاح على تصديرها لعالمنا العربى بمختلف الوسائل، ودفعنا رغم أنفنا إلى قبولهم والاعتراف بهم بل وتعديل السياسات والقوانين بما يُحقق لهم ممارسة حرة علنية. وليس التشكك فى براءة هذا الدفع والإلحاح آتيًا من فراغ، فكم من انتهاكات مورست بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان بينما لم تكن سوى ستارة لتحقيق مصالح خفية.

ومثلما يتم الدفع بحجج من قبيل الصفات الجينية المغايرة التى تدفع الفرد ليكون مثليًا أو غيريًا وبالتالى فلا يمكن التحكم بسلوكه وتوجهاته، وتلك التى تحاول الإقناع بعادية الممارسة المثلية على اعتبار أنها موجودة فى عالم الحيوان وغير ذلك من الحجج التى لا تعدم ما يدعمها من دراسات يُروج لها بمهارة ومشكوك فى حقيقتها، علينا على الجانب الآخر أن نفحص الفرضيات المغايرة ونتأملها.

فى كتاب نُشر بالإنجليزية لأول مرة فى عام ٢٠٠٠، ونشر منه العديد من الطبعات على مدار الأعوام الماضية، كما ترجم إلى اللغة العربية، بعنوان «جيناتى جعلتنى أفعله.. المثلية الجنسية والدليل العلمى»، جادل كل من عالم الاجتماع الدكتور نيل وايتهيد والصحفية بريار وايتهد بالارتكاز على دراسات علمية بأن الاتجاه نحو المثلية الجنسية ليس نزعة غريزية، وأنها قد تخضع طبيعيًا لتغير كبير، فدور البيولوجيا غير مباشر فى التأثير على التفضيل الجنسى كما أن المسببات البيئية أقوى. 

يقول المؤلفان: لقد تجاوزت الأجندات السياسية القوية الحقائق. تمارس الحكومات الغربية ضغوطًا على الحكومات غير الغربية فى الأمم المتحدة بهدف إنهاء التمييز ضد الشواذ جنسيًا. والرسالة هى: على كل الدول الأعضاء تمرير تشريعات ترسخ المثلية كحق إنسانى فى كل الثقافات، وعلى الرغم من أن القرار غير ملزم فقد وقعته ٦٦ دولة معظمها دول غربية. وسيستمر الضغط على الدول الأخرى.

ويضيفان: لقد جعل الجدال الذى يقوده نشطاء الشواذ وداعموه فى المناصب العليا من الشاذين جنسيًا أقلية مضطهدة تتمتع بحق الحماية، وجعل الشذوذ أمرًا أساسيًا لا يمكن تغييره كما لا يمكن تغيير لون العينين؛ وتكاد تصبح أمورًا مسلمًا بها. وهذه ليست الحقيقة. فالمثلية الجنسية حالة تستجيب للعلاج الصحيح، والدعم، والرغبة فى التغيير، والجدية فى بذل الجهد، كأى اضطراب بشرى آخر. وفى هذا الموقف الوسط توجد مساحة كافية للتأكد من حصول ذوى الميول الجنسية المثلية على الحماية من أذى الخبثاء والمتعصبين. لا ينبغى أن يؤخذ هذا الطرح على أنه دعوة لاختزال العمل الفنى إلى معايير أخلاقية أو اجتماعية، وإنما هى دعوة للفنانين والمثقفين لفحص الفرضيات التى يُروج لها باستماتة بما يمثل دفعًا لتبنى قضية ليست من أولويات المجتمعات العربية ولا تتوافق مع مرجعياتها، ونداء للمسرحيين خصوصًا ألا يتخلوا عن مهمة المسرح، الذى لم يحظ بلقب «أبو الفنون» عبثًا، فى الاشتباك مع قضايا عصره وطرح أسئلة تمسها بالفعل وألا ينساقوا وراء الخيارات الأيسر بدون فحص لها.