«عمى» فؤاد المهندس
إنه رمضان سنة ١٩٨٤ حيث الشهر الفضيل يأتى فى الصيف، أذكرنى طفلة تحاول أن تقلد الكبار فتمتنع عن الطعام فقط، لأن الماء لا يفطر.
أصوات التلاوات تأتى من المذياع المضبوط مؤشرة على إذاعة القرآن الكريم، رائحة الطعام تأتى من مطبخ أمى، والتليفزيون يعرض برامج لا تنتهى أجلس أمامها بنصف ذهن، فأنا فى انتظار طلة ذلك الرجل الذى يشبه أبى بنظارته الطبية، وحمالات بنطاله، وضحكته التى تملأ وجهه وهو يذهب بنا ليصطاد، وينبئنا أنه بعد قليل سينطلق مدفع الإفطار لنجتمع معًا حول المائدة العامرة.
أثناء انتظاره من الممكن أن أشاهده فى أحد الأفلام الأبيض والأسود، لكن لا شىء يغنينى عن طلته فى الثالثة والنصف عصرًا.
إنه عمى وعم جيل أطفال الثمانينيات «فؤاد المهندس»، أو الأستاذ، كما أُطلق عليه، فهو نجم المسرح المصرى بلا منازع لسنوات طوال، مقدم المواهب صاحب أطيب ابتسامة وأجملها على الإطلاق.
إذا كانت الكوميديا نصف الدراما، ففؤاد المهندس قدم من خلالها كل التمثيل، فهو مثل فى المسرح والتليفزيون والسينما والإذاعة، وقدم الغناء والاستعراض، بل إنه قدم البرنامج الإذاعى اليومى، فهو يستحق لقب الفنان الشامل عن جدارة.
أفرز النشاط الفنى فى جامعة القاهرة فى حقبة فؤاد المهندس وما تلاها العديد من الأسماء اللامعة فى عالم الفن، وأفرز أيضًا العديد من التجارب الفنية المميزة والتى لا يزال يوجد لها صدى حتى الآن، مثل فرقة ساعة لقلبك باسكتشاتها الفكاهية، والتى قدم من خلالها فؤاد المهندس بصوته شخصية محمود يا حبيبى مع خيرية أحمد.
اللافت فى تجربته التمثيلية أنه أصبح نجمًا مسرحيًا كبيرًا يشد الجمهور رحاله لمسرحياته، دون أن يتمتع بالوسامة التقليدية للممثل النجم، فهو منذ أن ظهر على شاشة السينما من بداية الخمسينيات وحتى وفاته، لم يخلع نظارته الطبية، أو يغير من تسريحة شعره، فهو يظهر بالحذاء اللامع والبنطلون الضيق والحمالات فوق القميص، ولكن بأدائه يقنعك أنه غيّر من مظهره بما يتناسب والشخصية المقدمة.
ظاهرة أخرى لافتة عند فؤاد المهندس فى السينما هى قدرته على أن يقدم فيلمًا من بطولته، وفى نفس الوقت يقدم فيلمًا آخر يؤدى فيه دورًا ثانيًا، دون أن يثير هذا حفيظته أو حفيظة الجمهور.
قدم أيضًا الغناء والاستعراض، ومن أروع ما قدمه كانت أغنية رايح أجيب الديب من ديله فى مسرحية «أنا فين وأنت فين»، واستعراضاته فى السينما فى العديد من الأفلام أشهرها «قلبى يا غاوى سبع قارات» من فيلم مطار الحب، وأغنية «مصر هى أمى» من فيلم «فيفا زالاطا».
التحدى الأكبر فى مسيرة فؤاد المهندس هو الخروج من عباءة نجيب الريحانى والذى أخرج له فصلًا من مسرحية «حكاية كل يوم» حينما كان طالبًا فى كلية التجارة، واستمرت علاقته بنجيب الريحانى فترة طويلة، وتربى على مسرحه وطريقته، ويظهر تأثره الشديد بنجيب الريحانى فى مسرحية السكرتير الفنى أثناء تقديمه شخصية ياقوت أفندى.
تجربته مع عبدالمنعم مدبولى ومدرسة المدبوليزم التى حملت اسمه، هى التى غيرت من أداء المهندس، وأخرجته من عباءة الريحانى، وصنعت له شخصية فنية ومسرحية متميزة.
قصته مع الفنانة شويكار معروفة للجميع، ويبقى الأهم فى مسيرتهما الفنية كيف كان كل منهما يجعل الآخر يتوهج فنيًا، ليقدما معزوفة فنية بإيقاع منضبط.
فهما قدما ثنائيًا ممتدًا لسنوات طويلة، وحققا النجاح فى المسرح والسينما والإذاعة، وفى التليفزيون كذلك، وقدما الكوميديا البعيدة عن السخرية من العاهات، أو الشكل.
يثير الانتباه أن فؤاد المهندس كان يؤدى حوارًا لو تم التركيز فيه لن نجده حوارًا كوميديًا، لكنه قادر على تحويله إلى حوار ضاحك كوميدى لا ينسى.
المثير للتساؤل كيف لم يلفت أداؤه اللغوى الرائع، ومخارج ألفاظه السليمة المخرجين للاستفادة منه فى أعمال ناطقة بالفصحى؟
ولد فؤاد المهندس فى ٦ سبتمبر سنة ١٩٢٤، توفى فى ١٦ سبتمبر سنة ٢٠٠٦ ، فكان ميلاده فى الخريف ووفاته فى الخريف ليمنحنا ربيعًا دائمًا وفنًا لا ينتهى.