ما فعلوه بالتعليم
خلال عقود ممتدة، تعود إلى سبعينيات القرن الماضى نجح الإسلام السياسى فى العودة بالناس لنقاش ما يمكن أن نطلق عليه البديهيات الأولى التى تجاوزها الزمن وقتلت بحثًا ونقاشًا، وتوصل إليها العقل العامل غير المعطل ببساطة وعلى ضوء التجربة والمصلحة الإنسانية فى المجتمعات المختلفة. والمتابع لوسائل التواصل الاجتماعى وما يبث فيها، يؤكد ذلك الأمر، فالأفكار والآراء المطروحة فى هذه الوسائل، وحتى ما يطرح فى الإعلام المرئى والمكتوب يتناول قضايا من نوع: هل المرأة تعمل أو لا تعمل، ما هو الموقف من الموسيقى، هل هى حلال أم حرام؟، وما هى طبيعة الأرض هل هى مسطحة أو كروية؟
فى الحقيقة كل هذه الأمور أو غيرها، تم التوصل إلى أسئلتها منذ أزمنة بعيدة، فالمرأة عملت وما زالت تعمل فى الحقول منذ آلاف السنين، والموسيقى لازمت الحياة البشرية منذ أقدم العصور، والرحالة الجغرافيون اكتشفوا كروية الأرض رغم خرافات بطليموس، وما ورد فى بعض الكتب المقدسة، ومنذ أن أرسل الملك المصرى نخاو الثانى رحلاته البحرية للدوران حول إفريقيا، ولكن وها نحن قرب نهاية الربع الأول من الألفية الثالثة نتعارك فكريًا حول أمور تنتمى إلى تلك الأوليات الابتدائية، ويدور السجال هنا وهناك حول ما يجعل المجتمع يراوح مكانه، أو يعود بخطوات أوسع إلى الخلف.
ثم هناك من يخرج علينا بفتاوى ودعاوى تطالب بتحديد الملبس الذى يتوجب على الإنسان لبسه، وخصوصًا المرأة، باعتبارها ركيزة الفتنة أصل كل الشرور، والحقيقة أن الملبس كان وسيظل ضرورة انبثقت من بديهيات العقل وفقًا للبيئة الجغرافية التى يعيش فيها الإنسان باعتباره الكائن الحى الوحيد الذى لا يملك من أمره شيئًا تجاه الطبيعة وتحولاتها المناخية، فلقد جاء بلا شعر أو فرو يغطى جلده، فأتى فى كل مكان بذلك النوع من الملبس الذى يحميه وفقًا للظروف البيئية، فقبائل الطوارق فى شمال إفريقيا تلثمت كى تحمى الوجوه من الرمال الخفيفة الناعمة التى تلسع الوجوه كالدبابيس عندما تذروها الرياح العنيفة، أما أهل المكسيك فقد وضعوا على رءوسهم القبعات القش الكبيرة لتحمى رءوسهم من أشعة الشمس الحارقة، وفى مصر اختارت المرأة الجلابية الفلاحى القصيرة من الأمام، حتى لا تتسخ وهى تعمل فى الأرض، والطويلة من الخلف، حتى لا تُظهر الساقين وهى تنحنى أثناء الفلاحة، ولا أظن أن واحدة ترتدى بيديها القفاز تستطيع أن تعمل فى الأرض، ولا يمكن أن يُفرض على الناس زى لا يلائم معيشتهم وطبيعة عملهم- كما يرى البعض- سواء فى القرية أو المدينة.
وهكذا نجح الإسلام السياسى فى شغل الناس بأمور قابعة فى منطقة البديهيات الأولى، مما يدفع أولئك الذين تجاوزوا هذه البديهيات إلى الرد والصد والدفاع، فيدور نقاش لا نهاية له ولا جدوى منه حول أمور من نوع هل العلوم الإنسانية ضرورة، وهل هى مفيدة للمجتمع وللذين يتعلمونها؟
لقد رسخ الإسلام السياسى عشرات الأفكار القديمة والبالية، بعد أن هيمن على مؤسسة التعليم منذ مراحلها الأولى وحتى المراحل العليا الجامعية منها، واستطاع تغييب العقل وتجريم إعماله، ودحض كل منطق منبثق عنه، وفقًا للعبارة القديمة «من تمنطق فقد تزندق»، فنتجت عن ذلك وعبر ذلك التعليم أجيال لا تعمل عقلها الذى غابت عنه عشرات البديهيات الأولى فى التفاصيل الحياتية المتباينة. ولعلنا نحتاج الآن إلى إفاقة ترد الروح للعقل ومنطقه وبديهياته الأولى عبر ثورة تعليمية حقيقية تتعلق بالبرامج الدراسية وطرق التدريس على أساس من العقل النقدى وليس النقلى، مثلما هو الحال بالنسبة للشعوب والأمم المعاصرة المتقدمة فى كل مكان بالعالم.