الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سيد الوكيل: «هوس الترند» وراء الإقبال على الرواية التاريخية

سيد الوكيل
سيد الوكيل

- «أمازون وأخواتها» أدخلت الأدب فى مفهوم استهلاكى وسلعى

- الواقعية السحرية أصبحت مجرد ذكرى والرواية التاريخية ستلحقها

- الإفراط فى تقديس نمط إبداعى بعينه «إفلاس»

- مقولة «زمن الرواية» أدت إلى تهميش القصة والشعر

لا نبالغ لو وصفنا الكاتب والقاص والروائى سيد الوكيل بالموسوعى، فهو صاحب عقل نابه ويقظ وممتلئ بالمعارف والخبرات المتنوعة ما بين حقول الثقافة المختلفة، محققًا بذلك نظرية المثقف الشامل، الذى يبدع وفى نفس الوقت يبتكر الأفكار ويقدم الآليات لتطبيقها.

وعطاء سيد الوكيل لم يتوقف عند الإبداع القصصى والروائى، بل تخطى ذلك ليقتحم عالم النقد من أبوابه الرشيدة الواعية، المقتربة من الناس ومن قضاياهم وإشكالياتهم، وليس من أبوابه الغامضة المعقدة التى تنفر القارئ، فهو واعٍ بما تحتاجه الأجيال الجديدة من معارف وثقافات.

وفى كتابه الأحدث والصادر قبل يومين عن مجموعة بيت الحكمة، تحت عنوان «حدود النقد وطموح الإبداع»، يرسم سيد الوكيل خريطة لكيفية تخليص النقد من القيود التقليدية التى تحد من الابتكار والتجريب فى الأدب والفنون، وتخليصه أيضًا من المشكلات التى تحد كثيرًا من التنوع بين الفنون والآداب المختلفة، بما يضيق من أفق الابتكار ويقلص مساحات التجريب.

عن الكتاب وأبرز القضايا التى تناولها، وعن غيرها من الشجون والهموم الثقافية التى تدور فى عقله، أجرت «حرف» مع سيد الوكيل الحوار التالى.

■ أشرت فى كتابك إلى أن النقد الأكاديمى أدى لتضييق أفق الابتكار وتقليص مساحات التجريب.. كيف حدث ذلك؟ وما مظاهره؟

- مع بداية القرن العشرين تواترت نظريات الأدب، ودخلت فى سياق تنافسى فيما بينها، ففى وقت التزمت فيه الشكلانية الروسية باللغة وأنساقها البلاغية، وبالأسلوب بوصفه بنية جمالية وشكلانية تؤكد الحضور الشعرى فى السرد، لم تهتم الشكلانية بموضوع النص، ومن ثم تجاهلت العلامات المضمرة فيه، بالرغم من أن هذه العلامات هى التى تشكل أفق النص، وتعطى القارئ الحق فى أن يكون شريكًا فى إنتاج النص. ومن ثم الوصول إلى دلالات ومعانٍ واسعة من خلال تلك العلامات. لكن «باختين» أدرك أن تلك العلامات قد تثير الجدل حول الشكلانية من خلال مبدأ التأويل، وهو مبدأ من حق القارئ أن يوظفه أثناء القراءة ليصل إلى معنى أكثر انفتاحًا واتساعًا، وظنى أن رؤية «باختين» كانت صائبة، بدليل أنها تأكدت بعد سنوات عند كل من «هانز ياوس وأيزر» فيما يعرف بنظرية القارئ والاستجابة.

ما أعنيه أن النظرية الشكلانية تظل محدودة، وتضيق من أفق النص، لهذا كان من الطبيعى أن تظهر نظريات جديدة تستهدف إزاحة الشكلانية محدودة الأفق، لتمنح القارئ والمبدع أيضًا الحق فى الوقوف على منعطفات ومسارات أكثر رحابة فى النص الأدبى، فالإبداع الأدبى بطبيعته طاقة متجددة وليس مجرد وصفة تلتزم بكتالوج أو منهج أو بناء محدد تعيش عليه كما عاشت القصيدة العمودية مئات السنين، ونتيجة لأن الإبداع طاقة متجددة، فرض الإبداع على النظريات أن تجدد نفسها، فتواترت نظريات جديدة، من شكلانية إلى واقعية، ومنها إلى بنيوية، ثم ما بعد البنيوية، حتى ظهرت ما بعد الحداثة، والتفكيكية، وهما اتجاهان ظهرا فيما بعد ثورة الطلاب فى فرنسا سنة ١٩٦٨، ولو تأملنا المشهد النقدى فى السنوات الأخيرة سنلحظ أن مظاهر التفكك فى النظرية أفضى بها لتصبح اتجاهات جديدة وأكثر مرونة، وأقل هيمنة وسلطة على النص، من ذلك مثلًا: الخطاب السردى، والنقد الثقافى، والنحو النصى، والحجاج.

■ ما العلاقة بين الحقيقة التاريخية والمتخيل الروائى؟ وهل يقوم الروائى بدور المؤرخ بشكل ما؟

- فى السنوات الأخيرة تفشت ظاهرة عُرفت فى الأدب بالرواية التاريخية، صحيح أن الرواية التاريخية لها مقدمات قديمة أبرزها عند إلكسندر ديماس الأب والابن، كما رأيناها عند جورجى زيدان، وحتى نجيب محفوظ فى بداياته. لكن فى هذا الوقت كان الزمن يمضى بطيئًا، محدودًا بمعارفه التاريخية، فلم تكن الرواية حتى هذا الوقت قد وصلت إلى وعيها بذاتها كما يقول «مالكولم برادبرى» فى كتابه «الرواية اليوم»، ونتيجة لذلك فقد كانت روايات التاريخ ملتبسة بالمرويات الشفهية والحكايات والأساطير.

أما الآن فنحن نعيش عصرًا من انفتاح المعرفة، فعلى شبكات الإنترنت كل شىء هنا والآن، إنه عصر «الدليفرى»، لهذا فانفتاح الرواية الآن على التاريخ مبرر ويحظى بقدر من الحقائق التاريخية إلى جانب الخيال الأدبى طبعًا، لكن الإفراط فيها غير مبرر، فنحن بذلك نكرر ما فعلناه مع واقعية «ماركيز» السحرية، دون الالتفات إلى أن الإفراط فى تقديس نمط إبداعى بعينه هو نوع من الإفلاس، فالواقعية السحرية أصبحت مجرد ذكرى، وسوف تصبح الرواية التاريخية ذكرى، والهوس بها مرتبط فى ظنى بهوس الترند، لكن المشكلة فى أن الرواية التاريخية تخلق مسافة بين الذات والموضوع، فالذات الساردة للمبدع لا تخلق موضوعها من مخيلة أدبية، بل تستعيره من كتب التاريخ. وتلك ظاهر منتشرة تعرف بالريسايكل أو إعادة الإنتاج، ونراها فى روايات تستعير موتيفات من أفلام عالمية وتعيد تشكيلها.

■ قلت إن الواقعية السحرية أصبحت وسيلة تسويقية تسطح التراثات الإقليمية.. كيف يتم ذلك؟

- هذه ليست مقولتى، هى مقولة أدرجتُها كمرجع، وردت على لسان «مايكل دايننج» فى كتابه «الثقافة فى عصر العوالم الثلاثة» عن سلسلة «عالم الكتاب»، وهو يرى أن تسويق «ماركيز» بهذا الشكل، وحصوله على «نوبل»، هو جزء من سياسات العولمة، التى احتضنتها أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، والهدف الثقافى منها هو مكافأة روسيا- راعية الواقعية- بعد الموافقة على إنهاء الحرب الباردة بينها وبين أمريكا، فكان مصطلح «واقعية سحرية» يرضى «ماركس»، و«إدجار آلان بو» زعيم الأدب المترع بالخيال الفانتازى من قبيل الزومبى والكائنات الفضائية، والآبار الملعونة التى تحتوى الجن، وكلها ظواهر انتشرت بين كثير من الشباب فى الأدب والسينما، بل وفى الواقع المعيش، إذ لفت انتباهى فى كلام «دايننج» إشارته إلى آليات التسويق «أمازون نموذجًا» التى أدخلت الأدب فى مفهوم استهلاكى وسلعى، وأخرجته من قضايا الواقع الإنسانى المعيش، وهو ما أفضى إلى تنافسية بين البلدان العربية وفقًا لقدراتها المالية، فيما تقف مصر معصوبة العينين. 

وبالفعل أسهمت العولمة فى تسطيح التراث فى كثير من دول العالم، فالبنطلون الجينز الذى يمثل تاريخ «الكاو بوى» أصبح ظاهرة عالمية، كما أصبحت أغانى المهرجانات عندنا بديلًا للأغانى التى تربى عليها جيلى، ومبرر وجودها أنها أغانٍ شعبية، لكننا لم نلتفت إلى أنها طمست موروثنا الثقافى فى الغناء الشعبى بدءًا من سيد درويش حتى محمد رشدى. ولم يكن أمامنا غير أحمد سعد وأوكا.. إلخ.

■ ذكرت أيضًا أن الناقد يضيف للعمل الأدبى ما لم يعبّر عنه الأديب.. فهل ما زال النقد يمارس هذه الوظيفة أم أنه يعانى من أزمة؟

- أعتذر لو كنت قلت هذا حرفيًا، وربما كنت أقصد أن الناقد بوصفه قارئًا للنص يؤدى دور القارئ الخبير كما يقول «أيزر»، بمعنى أدق أنه يجب أن يمتلك مهارات إبداعية شأنه شأن الكاتب، ولكنه يوظفها ووفقًا لمعارفه هو، فيقرأ النص من وجهة نظره هو، ومن ثم يقف على الفجوات، ويملؤها من خلال الربط بين الوحدات السردية الصغرى، ليقف على معانٍ ودلالات قد لا يقصدها الكاتب نفسه، ولا تدخل فى وجهة نظره، وهى تلك التى نحيلها إلى ما يسميه «أيزر» بالقارئ الضمنى الذى يرافق الكاتب، ويملأ الفراغات التى يغفل عنها الكاتب. 

إن القارئ الضمنى هو الكيان اليقظ بجوار الكاتب ينبهه لوقف الانسياب الذهنى للأفكار والصور والتداعيات المختلفة، ليحفظه من الاستسلام للتداعى الحر. وصحيح أن الكاتب هو أول ناقد لنفسه قبل أى أحد، لكن انفجار طاقة الإبداع قد تكون أقوى من قدرته فى السيطرة على ما يكتب. 

أما الناقد فقد يعانى من أزمة لو التزم بمنهج ما ولم يتمكن من تطبيقه، فى حين النص يراوغه كسمكة تحاول الفكاك من السنارة، ولكنه لو حظى بطاقة إبداعية ولو محدودة فهى تتفاعل مع وعيه المعرفى ورصيده العلمى، ويمكنه السيطرة التامة على النص، والوقوف على كل علاماته مهما كانت شاحبة أو خفية.

■ أشرت فى إحدى دراساتك إلى أن التاريخ يعتمد على المرويات.. إلى أى مدى ينسحب هذا على التراث؟

- التراث نُسق ثقافى يتشكل فى المكان وفقًا لطبيعة البيئة وسكانها، ويتحقق عبر عادات وتقاليد وممارسات طقوسية، بل ومعتقدات، وعبر التاريخ تصبح حقائق راسخة فى الضمير الجمعى، فتتوارثها الأجيال، وهذه الممارسات هى التى تؤسس هوية إنسان هذا المكان. 

لهذا، ففى التراث علامات واقعية لا يمكن إنكارها، خاصة تلك التى ارتبطت بالأديان، وليس صحيحًا أن التاريخ رهن بالمرويات، فبلا شك ثمة حقائق تاريخية موثقة ومدونة، وتطور المعرفة أسهم فى تأكيد ذلك حتى فى الأزمنة الموغلة فى القِدم، على سبيل المثال تاريخ الحضارة المصرية، والإغريقية، لكن هذا لم يمنع تداخل المرويات مع التاريخ، فالقرآن الكريم يوثق قصة مريم العذراء، ويستنكر حكاية صلب المسيح، أى أنه يختلف فى روايته بدرجة ما عنها فى المسيحية التى أكدت مشهد الصلب، والتزمت بفكرة الثالوث المقدس «الآب والابن والروح القدس»، لكن المعارف الحديثة ترجع فكرة الثالوث إلى «أوزوريس وحورس وإيزيس». ما أعنيه أن الوقائع التاريخية مهما كانت واقعية تتغير صورتها عبر المرويات والحكايات والأساطير، وهذه المرويات تختلف من نسق ثقافى لآخر.

■ كيف أدت مقولة «زمن الرواية» إلى اضمحلالها كما أشرت فى كتابك؟

- لأنى أصدق مقولة «أرسطو» عن وحدة الفنون، ودراستى للمسرح على يد سعد أدرش، وأحمد عتمان، أكدت لى هذا، فأسطورة «أوديب» مثلًا تصبح مسرحية، والمسرحية تصبح فيلمًا سينمائيًا، ورحلة «أوليس» تتحول من ملحمة إلى ديوان شعر لدانتى أليجيرى، ثم إلى رواية لجيمس جويس ثم إلى فيلم أيضًا.. باختصار الفن طاقة متجددة، لا تفنى ولا تخلق من العدم، بل تتناسل فيما بينها، وتغذى بعضها بعضًا، لقد أفضت مقولة «زمن الرواية» إلى تهميش القصة والشعر، ولو راجعنا التاريخ سنعرف أن المؤسس الأول للرواية هو الحكايات والمقامات والقصص. فالرواية ليست سوى وحدات سردية صغرى لكنها تترابط فيما بينها لتصنع الحبكة. والروايات الأولى بدأت بوصفها حكايات على نحو ما نرى فى «الديكاميرون» للإيطالى بوكاتشيو، تعتمد فكرتها على عشرة من الشباب الهاربين من الكوليرا، فسكنوا بيتًا وأغلقوه على أنفسهم، فطلب أحدهم أن يحكى كل منهم قصة على سبيل الترفيه. هكذا الديكاميرون ليست سوى مجموعة قصص لكنها تعامل بوصفها رواية، وعبر سنوات طويلة ظلت الرواية موضعًا للترفيه، فيما يعرف بروايات المدفأة، حيث كان رب البيت يجلس بجوار المدفأة ويجمع أهل البيت حوله ليقرأ عليهم. لكن العصر الصناعى غير كثيرًا من المعايير الثقافية، فظهرت القصة بوصفها ثورة على روايات المدفأة، لهذا فإن «مالكولم برادبرى» فى كتابه «الرواية اليوم» يؤكد أن الرواية وصلت إلى وعيها بذاتها متأخرة، وأن القصة أسهمت فى تشكيل هوية الرواية.

من المهم أن أوضح أن ما ورد فى كتابى لا يقلل من شأن الرواية، ولا ينتصر للقصة، ولكن يلفت الانتباه إلى أن نظرية الأنواع الأدبية أدخلت الفنون فى قوالب وأنماط، فلو استبعدنا القصة أو الشعر من الأدب ستدخل الرواية فى قوالب نمطية وموضوعية، وهذا حدث بالفعل، وإلا فكيف نفسر موجة روايات «المورسكيين، والمماليك، وأفندينا».. لقد أصبنا بهوس التاريخ، ونسينا الواقع الإنسانى المعيش، وتحولاته.

■ ما الذى قصدته بـ«حدود النقد وطموح الإبداع»؟

- الناقد الأكاديمى ملتزم بنظريات ومناهج ومراجع وقواعد إجرائية فى أبحاثة، بل وفى تدريسه للطلبة، ونتيجة لذلك فإن الجامعات لا تخرج أدباء ومبدعين، وتلك ظاهرة أدركها إدوارد سعيد فى مقاله «الدور العام للكتاب والمثقفين»، كما أشارت إليها «إليزابيث ميس»، وقد ذكرتُ ذلك فى كتابى «عملية تذويب العالم» ورصدت هذه الظاهرة فى أقسام الفلسفة، بعد أن ألح علىّ سؤال: لِمَ لم نعد نسمع عن فيلسوف مصرى؟ حتى إن البعض راح يؤرخ لموت الفلسفة.

ما أعنيه هنا أن الناقد الأكاديمى ملتزم بوعيه النظرى، وهو التزام يذكرنا بالتزام «جرامشى» و«سارتر» بمبدأ الواقعية الماركسية التى فككها «دريدا»، ومع ذلك فقد أشرت فى كتابى «حدود النقد وطموح الإبداع» إلى جيل جديد من النقاد أدركوا مأزق الخطاب النقدى، بعد أن قدمت التكنولوجيا مسارات سردية بالغة التنوع وأكثر التزامًا بقتنيات الصورة عنها فى البناء اللغوى.