الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عقيدة المنسحقين.. متى ندفن ميراث جيل النكسة؟

افتتاحية العدد الأربعين
افتتاحية العدد الأربعين

- إننا لا نريد للأجيال التى لم تشهد هزيمة يونيو أن تنسحق كل هذا الانسحاق.. أن تتحول إلى ندابات فى مأتم لا يخصها

- الشعب عليه أن يشعر بقدرته على الفعل وتحقيق المعجزة وصيد المحال وأسر الأحلام ومصادرتها لنفسه

لا تحتاج هذه القضية إلى مقدمات إنشائية. 

ليست فى حاجة إلى تردد فى اقتحامها يأتى محمولًا على أجنحة عبارات غارقة فى الاعتذار أو التبرير أو التحايل. 

لا يجب أن ندخل إليها بأيادٍ مرتعشة تحاول الطبطبة والربت على الظهور خوفًا من أن ننكئ الجروح التى طالت بأكثر مما ينبغى. 

فى كل عام أجد على هامش احتفالنا بذكرى انتصارات أكتوبر ١٩٧٣ محاولات دءوبة للتشكيك فيها، والكارثة أننا تجاوزنا التشكيك فى نتائجها السياسية إلى التشكيك فى جوهر الانتصار الذى جرى على الأرض بالفعل.

فى المقابل عندما تأتى ذكرى نكسة ١٩٦٧ أجد حالة من التماهى الشديدة مع أحداثها، إقرارًا عميقًا بالهزيمة، واعترافًا كاملًا بالانكسار، وجلدًا للذات تغمره حالة من الحزن الساخن، وكأن الحدث وقع فى نفس اليوم ولم تمر عليه عدة عقود. 

يمكننى أن أتفهم بالطبع أن يعانى الجيل الذى عاصر الهزيمة، جيل كان يعيش حالة من الفخر القومى، شارك فى صناعة مجد وطن بعمله أو كتاباته أو إبداعه. 

هذا الجيل عندما رأى كل شىء يتبدد أمامه فى لحظة، كان طبيعيًا أن يسقط فى هوة عميقة، ولا يقدر على الخروج منها أو تجاوزها، فهذا مقبول على المستوى السياسى والإنسانى أيضًا. 

عندما تقرأ مذكرات عدد من كبار كتّابنا وأدبائنا وشعرائنا الذين عاصروا الحدث ترصد كيف تعذبوا بعد أن أصبحت الهزيمة واقعًا لا مهرب منه ولا فرار، وعندما تقرأ أعمالهم الأدبية تجد الهزيمة عمودًا فقريًا لما يريدون أن يرسموه لوجه الوطن، فقد سيطرت الهزيمة عليهم وأحالت حياتهم إلى جحيم. 

المفارقة التى لا تخفى على أحد، أن الشعب المصرى كله ومن اللحظة الأولى للهزيمة قرر أن يقاوم.. وكانت النتيجة أننا تجاوزنا الحدث.. لكننا لم نتجاوز آثاره ولا المشاعر التى خلفها وراءه. 

الجيش المصرى بدأ فى إعادة بناء نفسه من جديد، قادته قرروا أن يبدأوا حرب استنزاف يجعلون من خلالها العدو الإسرائيلى لا يهنأ بما حققه، وضعوا أيديهم فى أيدى أبناء سيناء وقرروا المقاومة. 

الفنانون المصريون قرروا أن يشاركوا فى تجاوز الأزمة، فبدأوا بعد أن دشنت السيدة أم كلثوم حملتها لدعم الإنتاج الحربى من خلال حفلاتها، مشاركة على أوسع نطاق فى التبرع وجمع التبرعات لدعم الجيش فى معركته. 

لم يتوقف الشعراء ولا الأدباء ولا الصحفيون ولا المفكرون عن العمل ومحاولة تصحيح الصورة التى رسمت بطريق الخطأ لوطن لا يقبل الهزيمة أبدًا، وقد تحقق له ما أراد، عندما عبر الجيش المصرى الهزيمة، وهو العنوان الذى استخدمه الكاتب الكبير توفيق الحكيم لتوصيف ما جرى فى مقاله الأول بعد الحرب. 

توفيق الحكيم

 

كتب الحكيم «عبرنا الهزيمة» وهو العنوان الذى تحول إلى أغنية غنتها الفنانة العظيمة صوت مصر شادية، وكان مطلعها «عبرنا الهزيمة.. يا مصر يا عظيمة»، والتى كتبها عبدالرحيم منصور ولحنها بليغ حمدى. 

المنطق يقول إن الشعب الذى أزال آثار العدوان بحرب الاستنزاف، وأزال آثار عار الهزيمة بحرب أكتوبر، واسترد الأرض من خلال معركة سياسية ودبلوماسية رئاسية رائعة، كان عليه أن يسترد نفسه تمامًا، أن يشعر بقدرته على الفعل وتحقيق المعجزة وصيد المحال وأسر الأحلام ومصادرتها لنفسه. 

لكن ما جرى أن الجيل الذى انكسر- ومعه كل ما يبرر هذا الانكسار- لم يستطع التخلص من آثار الهزيمة والشعور العميق بها، وكان أن ظل يعيش بهذه الآثار حتى مات، بعضهم قال إنه مات بالفعل يوم ٥ يونيو، بل إن هناك مَنْ صور الأمر على أن عبدالناصر نفسه مات يوم ٥ يونيو ولم يُدفن إلا فى سبتمبر ١٩٧٠. 

عندما كنت أقرأ مثل هذا الكلام أتعجب بشدة ممن يحاولون الترويج له. 

فأى عبدالناصر هذا الذى مات يوم ٥ يونيو، وهو الذى وقف على قدميه وقاد حرب الاستنزاف وبدأ فى إعادة بناء الجيش من جديد. 

لم يكن عبدالناصر هو الذى مات ولكن أمل من قالوا ذلك فيه هو الذى مات، ولم يحاولوا أن يقرأوا الصورة على الأرض حيث تتشكل من جديد. 

جمال عبدالناصر

فى مشهد دال من مسلسل «العندليب» الذى كتبه مدحت العدل وأخرجه جمال عبدالحميد، يجلس الشاعر الكبير صلاح جاهين على الأرض إلى جوار عبدالحليم حافظ، يقول له وهو يبكى: يا حليم إحنا جينا نغنى للناس غنينا عليهم.

فى الذاكرة الشعبية يمثل صلاح جاهين المثل الأكبر على هزيمة المثقف الكاملة بعد هزيمة يونيو، كان صادقًا فى تعبيره عن حلم الدولة المصرية فى العهد الناصرى، غنى لمصر ولناصر كما لم يغن أحد، لا تزال أغنياته رغم السنين تلهب خيال ومشاعر من يستمعون إليه، لكنه عندما شهد الهزيمة انتهى تمامًا، بل إنه دخل فى مرحلة اكتئاب انتهت بموته فى العام ١٩٨٦. 

لا ينكر أحد على صلاح جاهين حزنه وغضبه وجلده لذاته واكتئابه، لكن تصوير الأمر على أن موته كان بسبب الهزيمة- مات بعدها بما يقرب من عشرين عامًا- غير منطقى بالمرة. 

كان الناقد الكبير محمد بدوى يدرس لنا مادة النقد الأدبى فى السنة الثانية بكلية الإعلام جامعة القاهرة، ومن بين القصائد التى كان يدرسها لنا فى إطار منهجه، قصيدة صلاح جاهين «كلام إلى يوسف حلمى». 

كان بدوى كما بدا لى محبًا ومتيمًا ومأخوذًا بصلاح جاهين وقصيدته، قال فيه ما لم يسبقه أحد إليه. 

أتذكر أننى فى هذه المحاضرة شاكست محمد بدوى كما كنت أشاكسه دائمًا. 

قلت له: لكن صلاح جاهين سقط يا دكتور، انهار بعد الهزيمة ولم يقاوم، فالشاعر الذى كتب «صورة» و«بالأحضان» انتهى به الحال ليكتب «يا واد يا تقيل» و«خلى بالك من زوزو». 

رد الدكتور بدوى بطريقته عندما يكون معترضًا على من يتحدث إليه بامتعاض شديد، قال: إنت مش فاهم حاجة... حتى هذه الأغنيات التى كتبها جاهين وتعتبرها سقوطًا وانهيارًا من أجمل ما كتب، لقد ظل يقاوم حتى مات. 

أعدت النظر فى تجربة صلاح جاهين على ضوء ما قاله الدكتور بدوى، فرأيت فيها بالفعل وجهًا آخر، فصحيح أن الحزن كسر قلبه لكنه لم يستسلم، وصحيح أن الهزيمة جعلته لا يكف عن جلد ذاته، لكنه لم يكف عن الغناء. 

لقد غسلت حرب أكتوبر روح وقلب صلاح جاهين، وهو ما يمكنك أن تقابله فى قصيدته الرائعة «أكتوبر.. رحلة النصر». 

يقول صلاح فى قصيدته: 

وحياة عيون مصر اللى نهواها

وأكتوبر اللى كما النشور جاها

بلاش نعيد فى ذنوب عملناها

وحياة ليالى سود صبرناها

واتبددت بالشمس وضحاها

نكبح جماح الغرور، مع أنه

مـن حقنا، ونحمى النفوس منه

ولو العبور سألونا يوم عنه

نقول: مجرد خطوة خدناها. 

بهذا الوعى الكبير عبّر صلاح جاهين عن موقفه وشعوره، فهو يشهد أن أكتوبر عالجه، وينبغى له أن يعالج كل من ضربتهم الهزيمة فى مقتل، فهو يعى أن هناك ذنوبًا عملناها، وليالى سود صبرناها، لكنه يستشرف المستقبل الذى يعتبر العبور مجرد خطوة منه. 

المشكلة بالنسبة لى ليست فى هذا الجيل الذى عاش التجربة على الأرض، كان مشاركًا فى حلم كبير، وعندما وجد الحلم ينهار على الأرض فى ساعات تصدع قلبه، وكان من حقه أن يعيش اللحظة كما جرت تمامًا، لا يمكن أن تلومه أو تعاتبه أو تأخذ عليه شيئًا مما يقوله. 

صلاح جاهين

لكن مشكلتى فى الأجيال التى جاءت بعد ذلك، أجيال ولدت قبل نصر أكتوبر بسنوات وشهدته وشهدت عليه، وأجيال ولدت بعد النصر وعاشت تحتفل به كل عام. 

ما الذى يجعل هذه الأجيال تشعر بمرارة الهزيمة ونعانى من مشاعرها، وتتحدث وكأنها كانت موجودة وحاضرة ورأت ما جرى، رغم أنها بالكاد قرأت عنه؟ 

يمكننا أن نعتبر أن حزن جيل النكسة كان حالة حقيقية لا يمكن أن يتنكر لها أحد، لكن لا يمكننا أن نتعامل معه على أنه كان إرثًا، تتسابق الأجيال اللاحقة على ٥ يونيو على أن تأخذ نصيبها منه، فليس لهم فيه حق ولا نصيب. 

إننى أتعجب بشدة عندما أرى روح هزيمة يونيو تشيع فى روايات وقصص وأشعار ومقالات ودراسات من لم يشاهدوها أو يشهدوا عليها. 

وعندما قرأت كتاب «أم كلثوم والمجهود الحربى»، الذى بذل فيه الباحث كريم جمال جهدًا خارقًا فى تقصى الأرشيف والسعى خلفه، تعجبت من حالة إبراز أحداث الهزيمة وتفاصيلها، رغم أن سياق الكتاب كان يقتضى التركيز أكثر على حالة المقاومة التى قامت بها أم كلثوم من أجل المساهمة فى إعادة بناء الجيش. 

الكتاب الذى حظى باهتمام كبير يحتاج إلى إعادة نظر، وبلغة الصحافة يحتاج إلى إعادة صياغة، وبلغة صنّاع الكتب يحتاح إلى تحرير، حتى يتخلص من حالة الترهل التى يعانى منها، فليس معنى أن تكون بارعًا فى جمع شتات الأرشيف أن تكون بارعًا فى الكتابة التى هى مهنة أخرى تمامًا. 

قد لا أعيب على صاحب كتاب «أم كلثوم والمجهود الحربى» ولا على من يسلكون مسلكه فى تمجيد الهزيمة والتركيز عليها وإبراز تفاصيلها، ولكنى أعيب على من أوقعوهم فى أسرهم، وأقصد بهؤلاء الذين اختلفوا مع الرئيس السادات صاحب النصر الأول فى أكتوبر وعلى رأسهم، الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، فعلى خلفية هذا الخلاف حاولوا الانتقاص من قيمة وقدر وأثر ونتائج الانتصار، على أساس أن الحرب فشلت فى تحقيق أهدافها السياسية، أو بتعبير هيكل ما حصده السلاح بددته السياسة. 

الانتقاص من قدر حرب أكتوبر- وهى جريمة وطنية بكل المقاييس- صب بالتبعية فى خانة تعزيز هزيمة ١٩٦٧، وجاءت الأجيال التالية لتقرأ لمن يستهين بالحرب لحساب تمجيد الهزيمة، بغض النظر عن أننا من هزمنا، وبغض النظر أكثر عن أننا حاربنا وانتصرنا، فلا يجب أن يكون هناك مكان للبكاء على هزيمة تجاوزناها. 

إننى أشفق بشدة على من يعانون تحت وطأة حمل ميراث الهزيمة، شباب لم يعيشوا اللحظة، لكنهم يعانون من مشاعرها، لم يسقطوا أمام انهيار أحلامهم، لكنهم فعلوا ذلك بالنيابة عمن سقطت أحلامهم، وهو ما يعبر عن خلل كبير فى الشخصية المصرية، لا بد أن نلتفت إليه ولا نصمت عليه حتى لا يترسخ ويصبح هو الغالب علينا. 

إننا لا نريد للأجيال التى لم تشهد هزيمة يونيو أن تنسحق كل هذا الانسحاق، أن تتحول إلى ندابات فى مأتم لا يخصها، فقد كانت للهزيمة بواكيها، وليس لنا أن نكون منهم الآن، لأن فى هذا نقصًا فى العقل ووجعًا فى القلب وتشوهًا فى الروح. 

إننى أدرك حدود مأساة طائفة من المثقفين المصريين، وعلى هامش هؤلاء شباب يدّعون الفهم والثقافة والوعى رغم أنهم أجل من دابة، هؤلاء فى كل عام ونحن نحتفل بذكرى الانتصار العظيم، تجدهم يقولون لك: لكننا لم نتخلص من آثار النكسة بعد، ويدخلون بنا فى مناقشات هلامية عن الدروس التى خلفتها وراءها الهزيمة، رغم أن العقل والمنطق والضمير يقولون إننا يجب أن نهتم بدروس النصر. 

أعتقد أنه آن الأوان ليدفن هذا الجيل ميراث الذين شهدوا الهزيمة.

هذا إذا أردنا أن نكون منصفين.. وإذا كنا نريد أن يحترمنا الناس ويستمعون إلى ما نقوله. 

فالأوطان لا يبنيها المحبطون واليائسون وأسرى الهزائم.

ولكن يبنيها مَنْ ينظرون إلى الماضى لأخذ العظة دون انسحاق، ويتطلعون إلى المستقبل ليصنعوا الحياة كما يريدون.