القاطرة المُعطلة.. المثقفون المصريون.. السرعة القصوى صفر
- المسئولون يرون أن المثقفين ليسوا أهلًا للمسئولية ولا يمكن الاعتماد عليهم فى أى مهمة ولا يملكون إلا الكلام
- المثقفون المصريون يعيدون ترديد نفس الحكايات ويتعاطون نفس الآراء ويدمنون الشكوى من كل وأى شىء
عن قرب أتابع ما يحدث فى الوسط الثقافى.
وقد يكون «الوسط الثقافى» فى حاجة إلى إعادة تعريف من جديد.
لسنوات طويلة كان الوسط مرادفًا لمجموعات وسط البلد ومراكزه الثقافية وتجمعاته وندواته ولقاءاته ومقاهيه، ولن أتردد عن القول ومؤامراته أيضًا، وكان أحدهم إذا أراد أن يتم الاعتراف به كمثقف أو أديب أو مفكر أو كاتب، فلابد أن يتم تعميده هناك.
ولسنوات طويلة كان للوسط الثقافى أساتذته وقادته ورموزه، وكان لهم تقديرهم ومهابتهم، ولم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب منهم إلا فيما ندر، فلم يعدم الوسط بعض المتمردين عليه، هؤلاء الذين لم يترددوا عن فضحه وتجريسه والانتقاص من كل من ينتمون إليه.
الوسط الثقافى واقعيًا أكبر بكثير وأكثر اتساعًا من رقعة وسط البلد التى تعانى من أمراض كثيرة، يشمل هذا الوسط- هكذا أعتقد- كل من لديه طرح فكرى، جامعات ووسائل إعلام ومراكز دراسات وأحزاب وجمعيات أهلية وكيانات مستقلة، وكل منها من المفروض أن يكون له دوره وتأثيره.
وككل شىء فى مصر تعرض الوسط الثقافى لهزة عنيفة بعد ٢٥ يناير، أصابته حالة السيولة، صغاره أصبحوا كبارًا، وكباره أصبحوا صغارًا، وتحول مجموعة من الأفاقين وربما من التافهين إلى قادة للوسط ورموز، التف حولهم الشباب دون استحقاق، فأصبحوا أيقونات ومرجعيات وأصحاب ندوات ووضعت كُتبهم الفارغة فى قوائم الأكثر مبيعًا.
لم يفعل هؤلاء بإنتاجهم الغث أكثر من مغازلة عواطف الشباب ومشاعرهم، لعبوا على تطلعاتهم وأحلامهم وتماهوا معهم، وقادوهم معهم فى طرقات خاطئة، فابتعدوا بهم عن جادة الفكر والثقافة والمعرفة.
وبقدرة قادر تحول كاتب ساخر إلى مفكر، وأصبح روائى متوسط القيمة نموذجًا، وصدر باحث بائس نفسه على أنه صاحب مذهب فكرى، وتعامل الشباب مع كاتب محدود القيمة على أنه مَن جعلهم يقرأون، ورشح أديب مهتز نفسيًا نفسه لجائزة نوبل، ووجدنا كتب العفاريت والجرائم والخرافات الأكثر مبيعًا.
ولأن من وضعوا أنفسهم فى صدارة المشهد الثقافى لم يكونوا مثقفين بالمعنى العام، فلم تكن لديهم معرفة شاملة يبنون من خلالها رؤية تؤسس لوعى عام فى المجتمع، قابلتنا مساخر بلا حصر ولا عدد من أخطاء وقع فيها المثقفون، ووجدناهم يأخذون مواقف تجاه القضايا الوطنية تدلنا على تهافتهم وسقوطهم.
يمكننى أن أدلل على ما أقول بموقفين.
الأول أعود بكم فيه إلى ما قبل انتخابات الرئاسة فى ٢٠١٢ بأيام.
وقتها كانت المنافسة محصورة فى انتخابات الإعادة بين أحمد شفيق ومحمد مرسى، وكان هناك موقف رافض للمرشحين.
الأول لأنه من رموز دولة مبارك التى قامت عليها الثورة، وعليه فلا يجب أن يستمر.
والثانى لأنه ينتمى إلى جماعة دينية فاشية لا تؤمن بالفكرة الوطنية، ثم إن لها سوابقها فى معاداة الفكر والإبداع والحرية.
كان المتوقع من المثقفين أن يقاطعوا الانتخابات، وحتى لو شاركوا فليس عليهم إلا إبطال أصواتهم، من باب إثبات الموقف وليس أكثر، لكن ما رأيناه كان مخجلًا ومؤسفًا ومحبطًا أيضًا.
بحيلة سمجة قرر عدد كبير من المثقفين المصريين تأييد محمد مرسى، ذهب بعضهم ليقف خلفه فى مؤتمر فيرمونت ليقولوا له نحن معك، بعد أن وضع بين أيديهم وعودًا خادعة بأنه سيحكم بالجميع وللجميع.
كانوا يعرفون أن موقفهم ليس طبيعيًا، فأطلقوا على أنفسهم «عاصرى الليمون» فى إشارة إلى أنهم يؤيدون مرسى على ضرر، يختارونه وهو كره لهم، لكن كما قال لى أحدهم: ما باليد حيلة... مش معقول بعد الثورة نصوت لواحد من رجالة مبارك.
ما لفت انتباهى وقتها أن كثيرين من مثقفينا الذين فعلوا ذلك، كانوا يعرفون الجماعة جيدًا، قرأوا تاريخها ودرسوا أساليبها، وكانوا يعرفون أنها لا تلتزم بأى عهد أو وعد، ومع ذلك وضعوا أنفسهم فى خدمتها، قررت الجماعة أن تخدعهم فانخدعوا لها، ولم تمر سوى شهور قليلة حتى خرج علينا هؤلاء فى برامجهم الفضائية ومقالاتهم الصحفية يقدمون اعتذارًا للشعب المصرى على ما فعلوه.
كان الاعتذار بالنسبة لى إدانة جديدة لهؤلاء، فهم يقدمون اعتذارًا بعد أن قدموا للجماعة خدمة جليلة، فلأنهم مثقفون ومؤثرون، فقد سار على طريقهم كثيرون، وأيدوا الجماعة ومنحوا مرشحها أصواتهم، وبعد الاعتذار لم يكن من السهل تصحيح الخطأ.
كانت هذه سقطة كبيرة، وأعتقد أنها كانت سببًا فى أن يفقد الناس ما تبقى لديهم من ثقة فى المثقفين المصريين، فإذا كانوا لا يعرفون كيف يختارون الموقف الصحيح، فكيف لنا أن نسير خلفهم أو نتبع خطاهم؟
الثانى كان فى بدايات العام ٢٠١٥ عندما دعا الرئيس عبدالفتاح السيسى عددًا من المثقفين للاجتماع بهم فى قصر الاتحادية، وبذل وقتها وزير الثقافة حلمى النمنم جهدًا هائلًا فى جمع عدد من المثقفين والكتّاب والمفكرين مختلفى الاتجاهات والمشارب والأمزجة أيضًا.
التقى بهم الرئيس واستمع منهم جميعًا، منحهم من وقته عدة ساعات، كان خلالها منصتًا، وكعادته كان يدون بعض الملاحظات فى مذكرته، لم يقاطع أحدًا، بل تحمل شطحات بعضهم وتجاوز عن هفوات بعضهم، ولم يعلق عن هشاشة طرح بعضهم.
بعد الاجتماع طلب الرئيس السيسى أن تكون هناك مجموعة من المثقفين، بإشراف وزير الثقافة، تقوم بوضع خطة استراتيجية عاجلة يتم فيها الاتفاق على ما تحتاجه مصر ليس فى الثقافة فقط، ولكن فى كل المجالات، على اعتبار أنه يتحدث مع مفكرين ومثقفين كبار.
ما حدث بعد ذلك كان دليلًا على أن المثقفين المصريين يتحركون فى المكان، سرعتهم القصوى صفر ولا تزيد على ذلك.
مرت الأيام والأسابيع ولم يقدم أحد من الذين حضروا لقاء الرئيس شيئًا، انتظرهم حلمى النمنم، تواصل معهم، ألح عليهم بأن ينجزوا ما طلبه الرئيس منهم، لكنهم لم يتجاوبوا معه، ولم ينجزوا شيئًا ولو صغيرًا يقول إنهم جادون أو يمكن الاعتماد عليهم.
أدرك وزير الثقافة وقتها- كما قال لى- أن المثقفين المصريين مجرد مشروعات فردية، كل منهم يريد أن يكون وحده فى الصورة، وأنهم لا يمكن أن ينتظموا فى عمل جماعى، يمكن أن يخرج عنهم فكرة أو مشروعًا كبيرًا، ولذلك فهم لا يحققون شيئًا.
الأكثر من ذلك- وهو ما لاحظه وزير الثقافة أيضًا- أن المثقفين المصريين لديهم رغبة فى التواصل مع الرئيس، أو مع السلطة بشكل عام، دون أن يكون لهذا التواصل هدف، أو حتى نتيجة، فالمثقفون يستمدون ما يعتقدون أنه أهميتهم بمدى قربهم من السلطة، وعندما لا يلتفت إليهم من يديرون الأمور يتحولون إلى خصوم ونقاد أشداء.
لقد أضاع المثقفون المصريون فرصة كبيرة من بين أيديهم.
مَن قابلوا الرئيس فى ٢٠١٥ كانوا خلاصة الخلاصة فى نخبتنا الثقافية، وقتها لم يطرحوا طرحًا عامًا، لم يقدموا فكرة ولا نظرة استراتيجية لما يجب أن نكون عليه، لكنهم التفوا فقط حول تفاصيل صغيرة، بدا أن لا مشروع كبيرًا يضعون أيديهم عليه.
الكارثة الكبرى أن المثقفين المصريين- ويمكننا أن نقول المثقفين العرب أيضًا- لا يجيدون إلا الشكوى من كل وأى شىء، وأعتقد أن الشكوى هى حيلة العاجز الذى يريد من الآخرين أن يقوموا بالنيابة عنه بكل شىء.
لا يمكن أن تتواجد فى أى فعالية ثقافية إلا وتجد روحًا سلبية تسيطر على المتحدثين، الانتقاد هو سيد الموقف، والرفض لكل ما يحدث هو اللغة السائدة.
وقد تقول: وماذا تنتظر من المثقفين؟
فالمفروض أنهم من يقدمون روئ نقدية حتى يصبح العالم مكانًا أفضل لمن يعيشون فيه، أن يضعوا أيديهم على مواطن الخلل، يشيرون إليها ويتحدثون عنها بشجاعة ودون تردد.
ما تقوله صحيح بالطبع، فالمثقف لا بد أن يكون ناقدًا، مثقف القطيع لن يفيد بشىء، لكن السؤال الذى لا بد أن تطرحه على نفسك هو: وهل لا بد أن يكون المثقف ناقدًا فى المطلق؟
مشكلة كبرى تواجهها المجتمعات العربية الآن، وهى أن المثقفين يعملون نقادًا فى المطلق، لا يعجبهم شىء، ولا يقرون بأن أى شىء إيجابى يحدث على الأرض، بل يبالغون طوال الوقت بتصدير صورة سوداء عن واقعنا، يغلفونها بحالة اكتئابية تدعم حالة التيه التى تعيشها مجتمعاتنا العربية.
من النادر أن تجد مثقفًا يمتلك رؤية نقدية لوضع ما، وفى نفس الوقت يمتلك رؤية للإصلاح والبناء، وكأن المثقف أصبحت مهمته هى الهدم والتفكيك فقط دون رؤية لإعادة البناء والتركيب مرة أخرى، وهو ما جعلنا نعيش حالة عبثية كاملة، فليس معقولًا أن نعيش فى ظلال حالات التفكيك المطلقة، دون أن نقول كيف يمكن أن نخرج من المأزق.
لقد قرأت لأحد المثقفين المصريين جزءًا من مذكراته، ووجدته يتفاخر فيها بأنه رفض الوزارة مرتين.
حدث هذا بعد ٢٥ يناير، بدأ نجم هذا المثقف فى الصعود، أصبح قائد رأى تستضيفه الفضائيات وتحتفى به الصحف وتعقد له الندوات، وحوّل حساباته على منصات السوشيال ميديا إلى ساحات نقاش وطرح أفكار وانتقاد لكل الأوضاع.
تواصل معه أحد المسئولين الكبار ممن يديرون المشهد وطرح عليه وزارة الشباب والرياضة فرفض، وبعد فترة تواصل معه هذا المسئول نفسه وطرح عليه تولى وزارة الثقافة فرفض.
بالصدفة قابلت هذا المسئول وسألته لماذا عرض على هذا المثقف تحديدًا أن يتولى الوزارة مرتين، مع أنه رفض فى المرة الأولى؟
قال لى المسئول: ببساطة كنا نتابعه وسمعنا منه رؤية واضحة لكيف تعمل وزارة الشباب والرياضة، كان يقدم أفكارًا كثيرة رأينا أنها وجيهة، فقلنا ولمَ لا يأتى هو بنفسه ليطبق هذه الأفكار؟ ثم وجدناه يتحدث عن وزارة الثقافة وملفاتها وكيف يمكن أن تعمل، والطريق الذى ينبغى أن تسير فيه، فعرضنا عليه مرة أخرى أن يتولى مسئولية الثقافة.
كان ما قاله هذه المثقف للمسئول غريبًا، والأغرب أنه يقتنع به، لأنه أعاد نشره مرة أخرى وهو يكتب متفاخرًا بأنه رفض الوزارة مرتين، قال: قلت لهم أنا مهمتى أن أكتب وأنتقد، مهمتى أن أقول لكم كيف تعملون، وليس مهمتى أن أعمل بنفسى.
هذه الواقعة تحديدًا- وهناك وقائع مشابهة لها بالطبع- هى السبب تحديدًا فى حالة عدم الثقة التى يتعامل بها المسئولون مع المثقفين المصريين، فهم يرون أنهم ليسوا أهلًا للمسئولية، ولا يمكن الاعتماد عليهم فى أى مهمة، لأنهم لا يملكون إلا الكلام، يجيدونه ويتفننون فى صياغته، دون أن تكون لديهم أى رؤية لتحويل هذا الكلام النظرى إلى مشروعات على الأرض.
المفارقة أن الثقة لم تتضاءل لدى المسئولين فى المثقفين وأدوارهم فقط، ولكن انسحب الأمر على المواطنين العاديين، أصبحوا هم أيضًا لا يثقون فى المثقفين، يعتبرونهم مجرد كلمنجية، يتحدثون كثيرًا دون أن تكون لديهم قدرة على الفعل، وأعتقد أن هذه هزيمة تحاصر المثقفين العرب جميعًا، ولعل هذا هو ما يشعرهم بحالة من الاغتراب فى مجتمعاتهم.
هذه الحالة من الاغتراب تحولت إلى منظومة من العقد النفسية، ولا أستبعد أبدًا أن يكون المثقفون العرب كارهين لمجتمعاتهم، ينقمون عليها، ولهذا يصدرون لها هذه الروح السلبية، فهم يشعرون بأنهم غير مقدرين فى أوطانهم، دون أن يسألوا أنفسهم عمن أوصلهم إلى هذه الحالة، ودون أن يكون لديهم أى استعداد للاعتراف، ولو بينهم وبين أنفسهم، بأنهم السبب المباشر فى الوصول إلى هذه الحالة.
لقد توقفت أمام عنوان رواية أشرف العشماوى الأخيرة «السرعة القصوى صفر».
لدى العشماوى موقف سياسى وفكرى واضح مما جرى فى مصر بعد ١٩٥٢، يترجم هذا الموقف فى رواياته، ولأنه صاحب موقف مسبق تجده يسوق أحداث رواياته ومصائر أبطاله إلى نتيجة يحددها مسبقًا.
لقد أراد التأكيد من خلال روايته أن القوى السياسية التى شكلت المشهد بعد ثورة ١٩٥٢ وقصرها على ثنائية «الجيش- الإخوان» تتحرك بأقصى سرعة، لكن هذه السرعة بالنسبة له صفر، وهى قراءة أعتقد أنها مغرضة وفيها كثير من التزيد وعدم الموضوعية، لكن فى النهاية هذه رؤيته التى يمكنه أن يدافع عنها.
لكننى وجدت أن العنوان الذى أراد العشماوى أن يدين به الواقع المصرى بعد ١٩٥٢ يصلح تمامًا لإدانة المثقفين المصريين، والعشماوى واحد منهم بالطبع.
يتمدد المثقفون المصريون فى الفراغ، يعيدون ترديد نفس الحكايات ويتعاطون نفس الآراء، ويدمنون الشكوى من كل وأى شىء، دون أن يقدموا طرحًا موضوعيًا وواقعيًا لما نعانيه من مشاكل، ولم يكن غريبًا أن يفقدوا كل تأثير لهم، بل كان منطقيًا أن تكون هناك مشكلة بينهم وبين السلطة، وبينهم وبين المجتمع أيضًا.
إننى أفكر معكم فقط فى هذه المعضلة التى خسرنا بسببها كثيرًا.
فالمثقفون فى أى مجتمع من المفروض أن يكونوا القاطرة التى تقودنا إلى الأمام، لكن للأسف الشديد هذه القاطرة معطلة الآن.